الفصل الثاني :
إسهامات قبيلة بلي في الأدب
لقد برز الكثير من الأدباء والشعراء من أبناء قبيلة بلي خاصة في أحضان بلاد المغرب والأندلس, حيث اسرتهم البيئة الاخاذة بجمالها, وهيجت انهار وجداول وينابيع تلك البلاد نيران الحرقة والشوق الى وطنهم الأم.
فانقادت لهم الكلمات وطاوعتهم العبارات فانتجت اقلامهم قصائد شعرية رائعة, وقطعاً نثرية تثبت تقدمهم في البلاغة والنثر. ولعل الأديب الشهير ابو يحيى البلوي المري, محمد بن محمد بن عبد الواحد بن محمدالبلوي يأتي في طليعة ادباء هذه القبيلة, فقد وصفته المصادر بأنه من أبناء النعم وذوي بيوتات, كثير السكون والحياء وقد اتصل بالأديب والمؤرخ الشهير لسان الدين بن الخطيب, الذي مدحه البلوي بقصائد عدة منها لاميته الرائعة التي يقول فيها:
عللوني ولو بوعد محال
وصلوني ولو بطيف خيال
واعلموا انني اسير هواكم
لست انفك دائماً عن عقال
فدموعي من بينكم في انسكاب
وفؤادي من هجركم في اشتعال
يا اهيل الحمى كفاني غرامي
لا تزيدوا حسبي بما قد جرى لي

من مجيري من لحظ ريم ظلوم
حلل الهجر بعد طيب الوصال
ناعس الطرف اسهر الجفن مني
طال منه الجفا بطول الليالي
بابلي اللحاظ أصمى فؤادي
ورماه من غنجه بنبال
وكسا الجسم من هواه نحولاً
قصده في النوى بذاك انتحالي
ما ابتدى في الوصال يوماًبعطف
مذ روى في الغرام باب اشتغالي
ليس لي منه في الهوى من مجير
غير تاج العلا وقطب الكمال
علم الدين عزه وسناه
ذروة المجد, بدر أفق الجلال
هو غيث الندى, وبحر العطايا
هو شمس الهدى, فريد المعالي
إن وشى في الرقاع بالنقش قلنا
صفحة الطرس حليت باللآلي
أو دجا الخطب فهو فيه شهابٍ
زانه الصبح في ظلام الضلال
أو نبا الأمر فهو في الأمر عضب
جل في الدهر يا أخي عن مثال
لست تلقى مثاله في زمان
صادق العزم عند ضيق المجال
قد نأى بي حبي له عن دياري
لا لجدوى ولا لنيل نوال
لكن اشتقت ان أرى منه وجهاً
نوره فاضح لنور الهلال
وكما همت فيه ألثم كفاً
جاد لي بالنوال قبل السؤال
هاكها ابن الخطيب عذراء جاءت
تلثم الأرض قبل شسع النعال
وتوفي حق الوزارة عمن
هو ملك لها على كل حال
ولم تكن هذه القصيدة الوحيدة التي مدح بها لسان الدين ابن الخطيب بل له رائية رائعة أيضاً في مدحه, نظمها في عام( 749هـ/ 1344م) قال فيها:
لا عذر لي عن خدمة الإعذار
ولئن نأى وطني وشط مزاري
أو عاقني عنه الزمان وصرفه
تقضي الأماني عادة الإعصار
قد كنت أرغب أن أفوز بخدمتي
وأحط رحلي عند باب الدار
بادي المسرة بالصنيع وأهله
مستشمراً فيه بفضل ازاري
من شاء ان يلقى الزمان وأهله
ويرى جلال شاع في الأقطار
فليأت حي ابن الخطيب ملبياً
فيفوز بالإعظام والإكبار
كم ضم من صيد كرام قدرهم
يسمو ويعلو في ذوي الأقدار
إن جئت ناديه فنب عني وقل
نلت المنى بتلطف ووقار
يامن له شرف القديم ومن له الـ
حسب الصميم العد يوم فخار
يهنيك ما قد نلت من أمل به
في الفرقدين النيرين لساري
نجلاك قطبا كل مجد باذخ
أملان مرجوان في الإعسار
عبد الإله وصنوه قمر العلا
فرعان من أصل زكا ونجار
ناهيك من قمرين في أفق العلا
ينميهما نور من الأنوار
زاكي الأرومة معرق في مجده
جم الفضائل طيب الأخبار
رقت طبائعه وراق جماله
فكأنما خلقا من الأزهار
وحلت شمائل حسنه فكأنما
خلعت عليه رقة الأسحار
فإذا تكلم قلت طل ساقط
أو وقع در من نحور جواري
أو فت حبر المسك في قرطاسه
فالروض غب الواكف المدرار
تتبسم الأقلام بين بنانه
فتريك نظم الدر في الأسطار
فتخال من تلك البنان كمائماً
ظلت تفتح ناضر النوار
تلقاه فياض الندى متهللا
يلقاك بالبشرى والاستبشار
بحر البلاغة قسها وايادها
سحبانها حبر من الأحبار
إن ناظر العلماء فهو إمامهم
شرف المعارف, واحد النظار
أربى على العلماء بالصيت الذي
قد طار في الآفاق كل مطار
ماضره ان لم يجيء متقدما
بالسبق يعرف أخر المضمار
إن كان أخره الزمان لحكمة
ظهرت وما خفيت كضؤ نهار
الشمس تحجب وهي أعظم نير
وترى من الآفاق إثر دراري
ياابن الخطيب خطبتها لعلاكم
بكراً تزف لكم من الأفكار
جاءتك من خجل على قدم الحيا
قد طيبت بثنائك المعطار
وأتت تودي بعض حق واجب
عن نازح الأوطان ولأوطار
مدت يد التطفيل نحو علاكم
فتوشحت من حليكم بنضار
ولهذه الشاعرية المتدفقة والعاطفة الجياشة كان أبو يحيى البلوي محل تقدير العلماء فقد جرى ذكره في الأكليل بما نصه : من أولي الاتصال ، بأولي الخلال البارعة والخصال ، خطاً رائعاً ، ونظماً بمثله لائعاً ، ودعابة يسترها تجهم ، وسكون في طية إدراك وتفهم ، عني بالدراية والتقليد ، ومال في النظم الى بعض التوليد ، وله أصالة نبتت في السرو عروقها ، وتألقت في سماء المجادة بروقها ، وتصرف بين النيابة في الأحكام الشرعية ، وبين الشهادات العلمية المرعية .
وقد أثنى عليه أيضاً أبو الحسن علي بن لسان الدين بقوله : رحمة الله عليه ما أعذب حلاوته ، وأعظم مروءته ، وأكرم أصالته .
إن شاعرية أبي يحيى البلوي جديرة بالدراسة ، فأشعاره تمتاز بالجدة بالتعبير ، والأصالة في الأفكار وكما أشار صاحب الإكليل فإنه مال في النظم الى بعض التوليد ، فضلاًعن عذوبة لفظه .
ويمثل العالم الموسوعي صاحب المواهب المتعددة ابو البقاء البلوي(حوالي713- قبل 780هـ/ 1313-1378م) نموذجاً حياً لتطور صناعة النثر والشعر في القرن الثامن الهجري, ذلك القرن الذي يعد بحق قرن الابداع الأدبي والعلمي سواء في المغرب أو المشرق.
يعتبر أبو البقاء من الشخصيات الفة والمشهورة لدى المؤرخين المغاربة والأندلسيين, فقد ترجم له معاصره ابن الخطيب, وابن القاضي في الجذوة, ودرة الحجال في أسماء الرجال, ومخلوف في شجرة النور الزكية في طبقات المالكية, والمقرى في نفح الطيب وغيرهم.
قال عنه أحمد بابا التمبكتي في نيل الابتهاج: ( أبو البقاء علم الدين الإمام القاضي الفاضل). ووصفه ابن الخطيب في الإحاطة بأنه من اهل الفضل, كثير التواضع, والخلق الحسن جميل المعاشرة, محب الأدب... ارتسم بديوان الكتابة بتونس عن أميرها زمناً يسيراً, وكان يتشبه بالمشارقة شكلا ولساناً.
وأثنى عليه كذلك العالم أبو عبد الله الحضرمي(ت 747هـ/ 1346م) بقوله: هو صاحب الفقيه الأجل القاضي العدل الحاج المتخلق الحبيب الأديب, المتفنن العالم الفاضل. أما ابن مخلوف, فأطراه في
( شجرة النور الزكية, ج1, ص227) فقال: القاضي أبو البقاء علم الدين... العالم الكامل المتفنن الفاضل- الأريب المطلع الأديب.
ولعل أشمل وصف لهذا العالم الجليل ما جاء في الكبتبة الكامنة, لابن الخطيب, حين قال: فيمن لقينا بالأندلس من شعراء المئة الثامنة, القاضي أبو يزيد خالد بن عيسى بن أحمد القنتوري البلوي, صاحبنا, هذا الرجل كالجمل المحتمل يريبك مجموعه ويهولك مرئية ومسموعة, فإذا زمزم الحادي سالت من الرقة دموعه, فظاهره جسم جسيم, وللزرافة قسيم, وباطنه في اللطافة نسيم, وروض يرتاده نسيم, سكن البادية خيراً عفيفاً ومن المؤن خفيفاً يرتاح الى عقائل الآداب, ارتياح قيس الى ليلى... على انه كان عاطفياً ألوفاً يصعب عليه ان يفارق الأصدقاء والأحباب, يأنس الى كل من تعرف عليه... وإذا دخل مدينة لا يطيب له بها قرار حتى يربط علا قته بالفضلاء, فإذا فارقهم بكى حنيناً وشوقاً... يألف بسهولة ويستطيع ان يندمج في كل البيئات.
لقد كان أبو البقاء البلوي ينحدر من أسرة عريقة بالعلم خاصة العلم الشرعي, فقد تلقى العلم بمسقط رأسه قنتورية, فأخذ أولا عن والده القرآن ومبادىء العربية ثم درس القراءات السبع اثني عشر شيخاً, وذكر البلوي ان هذا العلم تسلسل في سبعة من أجداده.
وكان البلوي حر التفكير يميل الى الإجتهاد محباً للرياضة والفروسية, فقد كن يحسن السباحة ويجيد الفروسية حيث تعلم النزال والضرب واساليب الحرب كما كان حسن الخط يكتب بسرعة واتقان, وقد وصف ابن نباتة خطه بقوله: يتنافس فيه البصر والسمع, كما منح الله عز وجل البلوي صوتاً في غاية الحسن, قال ابن نباتة: يقرظ إذناً ببيانه وصوته.
وضمت ضلوع البلوي قلباً ينبض بالشفقة والرحمه ، فهو شديد التألم للمنظر المحزن فها هو يقول : فما رض ضلوعي وما فض دموعي ،إلا الأطفال يضطربون بالبكاء ويستغيثون من العطش .
كما كان باراًبوالديه، فقد زهد في الوظيفه في تونس على قلة ذات يده رعياً لوجوب الرجوع إلى وطنه ومعاينة والدته التي تركها وحدها في تونس .
ورغم هذه المواهب المتعدده والعلم الغزير إلا أن البلوي يبدو أنه وصل إلى نظرة للحياة متشائمة عبر عنها بقوله : فالليالي لاتجمع شمالا إلا شتته ولا تصل حبلاً إلا بتته ، من أطاعها عصته ، ومن أدناها أقصته ، فالبصير من يرفض الدنيا ويسأل الله في أموره .
ويبدو انه عانى معاناة كبيره من ثقته بالناس ، لانه لا ينافق ولا يخادع ، صادق امين ، ولكنه اتضح له بعد ذلك ان الثقه المطلقه بالناس تكلفه كثيرا فقال :
وقد كان حسن الظن بعض مذاهبي
فأدبني هذا الزمان وأهله .
لقد اولع ابو البقاء البلوي بالشعر رواية وحفظا خاصة الشعر الأندلسي, وكتابة تاج المفرق مليء بمحفوظاته في هذا الباب.
فله مجموعة منتقاة اختارها من اشعار معاصريه, فضلاًعن ديوان شعر.
وسنحاول ان نعرض لشذرات من شعر هذا العالم الموهوب لتكتمل لنا الصورة عن شاعريته المتفقة, حيث تنساب الكلمة على لسانه انسياب النسيم العليل على الأزهار والرياحين المتعانقة في المروج الخضراء في ليلة من ليالي الربيع المقمرة .
لقد حرقت الغربة قلب البلوي فهو في كل مناسبة يحن الى وطنه ويسكب الدمع المدرار لذكراهم خاصة عندما يرى الناس يتزاورون ويتبادرون التهاني في الأعياد, فلنستمع اليه في 737هـ/ 1336م عندما ادركه عيد الأضحى بتونس يرتجل في مصلاها:
أتى العيد واعتاد الأحبة بعضهم
ببعض واحباب المتيم قد بانوا
وأضحى وقد ضحوا بقربانهم وما
لديه سوى جمر المدامع قربان
ومن شعره في هذا الباب أيضــــــاً:
ولقد جرى يوم النوى دمعي دماً
حتى أشاع الناس أنك فاني
والله إن عاد الزمان بقربنا
لكففت عن ذكر النوى وكفاني
لقد استنكر البعض ظهور الشيب في مفرق أبو البقاء رغم انه في شرخ الشباب, فأوضح لمن استنكر ذلك بأن البعد عن الأوطان ومفارقة الأحبة هو السبب في ظهور الشيب المبكر في رأسه فقال:
ومستنكر شيبي وما ذهب الصبا
فقلت فراقي للأحبة مؤذن
ولا جف ايناع الشبية من غضي
بشيبي وإن كنت ابن عشرين من سني
وكل أشعار البلوي تتدفق شوقاً وحنيناً ويندر ان تد قصيدة له تخلو من ذلك, كما ان جميعها يمس شغاف القلب ويجعل المتلقي يتفاعل مع عواطفه ويعيش معه في غربته, ومعاناته, وتجعله يئن مع انينه ويبكي مع بكائه, فلنستمع لهذه القصيدة:
بعثت خيالا والعواذل ضجع
فسرى ينم به شذاً يتضوع
دنا يعاطيني الحديث على دجى
كأس الثريا في يديه تشعشع

وكأنما الإكليل جام مذهب
بيواقت الجوزاء فيه مرصع
نادمت فيه أخا الغزالة جؤذراً
يغدو بأكناف القلوب ويرتع
في ليلة لا الوصل فيها بنينا
خجل ولا قلب العفاف مروع
رق الهواء بها ورق لي الهوى
فمشى موشى بيننا وموشع
ياجيرة جار الزمان ببعدهم
لم يخل منكم في فؤادي موضع
لم تسكنوا وادي الأراك وإنما
قلبي مضيفكم ودمعي المربع
والله ماضحك الربيع بربعكم
إلا وعن عيني بمزن يهمع
وإذا شكوت الى الصديق فإنه
يسليك أو يغنيك أو يتفجع
يابار فا تنشق عنه سحابة
عن مثل مدمعي السفوح وتقلع
أشبهت من أهواه حسن تبسم
فأصبت إلا أنه هو أنصع
بالله خذ عني تحية نازح
لم يبق فيه اليوم فيما يطمع
واقرأ على الجزع السلام وسح من
قطرات دمعك حيث تلك الأربع
ما كان أطيب عيشنا الماضي بها
لو كان ذلك العيش فيها يرجع
أيام نغفر للصبا ذنب الهوى
ونشفع الوجه الجميل فيشفع
ماسرني تبديد دمعي لؤلؤاً
وعهدته بيد الحسان يجمع