قصة المحفظــة..؟؟

انسحبت آخر شعاعات الشمس بهدوء معلنة بدء المساء، ونهضت الرياح
من سباتها الطويل جالبة معها قطعان غيوم رمادية، ناشرة رائحة المطر ..

كنا في أوائل كانون، ونسيمات الشتاء باردة، تلفح الوجوه، وتهزّ أوراق أشجار الأرصفة، بدأ الناس يستعدون لاستقبال هذا الضيف البارد، فالشتاء بالنسبة لأهل المدن عبء ثقيل، تكتظّ الأسواق بالمواطنين فجأة، فهذا يحمل مدفأة جديدة، وذاك ينوء تحت ثقل (بيدون المازوت) الذي ملأه من محطة المحروقات، إنه الشتاء، هذا الهمّ الكبير الذي هبط من السماء فجأة.

انهمرت قطرات المطر الأولى بخفّة على الأرض العطشى، فتشرّبتها بسرعة، وما هي إلا دقائق، حتى استحمّت الأشجار، نافضةً عنها غبار الخريف، واغتسلت الشوارع ففاحت تلك الرائحة الرّطبة المحُبّبة، وانعكست أضواء أعمدة النور على الإسفلت النظيف، أما في الأحياء النائية المتناثرة على أطراف المدينة، فقد غاصت شوارعها الضيقة وغير المُعبّدة في بركٍ من الوحل، وبدت البيوت الطينية الصغيرة وكأنها قد تكوَّرت على نفسها لاتّقاء الريح، محاولةً التشبّث بأسقفها المكونة من صفائح الزنك الصدئة.

في أحد تلك البيوت، كان (أسعد) يحاول إشعال (بابور الكاز) لينشر بعض الدفء لأولاده النيام، إنها العاشرة ليلاً الآن، ولا بُدَّ له أن يذهب إلى مبنى البلدية لاستلام العَرَبة قبل البدء بعمله الليلي، نهض بسرعة، ارتدى لباس العمل البرتقالي انتعل حذاءه المطاطي، رمق أطفاله بنظرةٍ حنونة ثم حمد الله مرتين، وأغلق الباب الخشبي المُتفسّخ خلفه، وضاع في عتمة الليل ..

وصل إلى البلدية بعد عناء، استلم عربته البرتقالية المهترئة، والتي تفوح منها رائحة العفن وكذلك مكنسته الشعثاء ذات الساق الطويلة، ثم توجه إلى قطاع عمله في شوارع المدينة الحديثة.

كان أسعد في الأربعينيات من عمره إلا أن ملامحه، وتجاعيد وجهه الكثيرة وسحنته الداكنة، تعطيه ُعمراً أكبر وكأنه شيخ عجوز، زملاؤه في العمل يلقبّونه بالأعرج ذلك أن ساقه اليمنى أصبحت أقصر من اليسرى بقليل بعد إصابته أثناء حرب حزيران عام(١٩٦٧م)، فهو حين يمشي، يبدو وكأنه يصعد ويهبط بوتيرة منتظمة ..

شرع يكنس الشوارع بشكل روتيني اعتاد عليه لأنه يحفظ كل شبر من المنطقة المكلف بتنظيفها كثيراً مايُصاب بالضيق حين يصل أمام بعض المنازل الفخمة فالشوارع هناك تكون وسخةجداً وخاصة في الليل، يتساءل دائما: "لماذا لا تكثر القمامة إلا أمام منازل الأكابر؟" .. لكنه يقوم بجمعها بتأنٍّ، وينظف مكانها.

كان الجو بعد منتصف الليل هادئاً، رطباً، منعشاً، يوحي بنوبة مطرٍ جديدة، وحين وصل إلى أحد المفارق، انعطف، وحاول تثبيت العربة الثقيلة الممتلئة بأكياس القمامة ثم وقف ليلتقط أنفاسه المتعبة ..

بينما هو كذلك، لمح شيئا صغيرا ملقى على الرصيف .. اقترب ببطء، تسمّرت عيناه، دُهش لما رأى، إنها محفظة جلدية سوداء منتفخة، التقطها أسعد بيدين مرتعشتين، فتحها، وجدها مليئة بأوراقٍ نقديةٍ خضراء لم يعرف ماهيتها، دسَّ المحفظة في جيب سرواله، وحاول متابعة عمله، لكنه سرعان ما انتابته نوبة قلق شديدة:

"ترى من يكون صاحب المحفظة؟ ..
لا بد أنه يبحث عنها الآن؟" ..
ثم حزم أمره وقرّر أن يُسلِّمها لمخفر الشرطة القريب.

في المخفر وقف (أسعد) أمام صف الضابط المناوب مُعلناً أنه وجد محفظة نقود، تناول الشرطي المحفظة، قلَّبها، نظر إلى أسعد نظرة شكٍّ، ثم قرر احتجازه حتى الصباح، ريثما يتم الإعلان عن المحفظة المفقودة ..

لم يفهم (أسعد) أبعاد الموضوع، ولماذا يريدون احتجازه، طلب من الشرطي إذناً للذهاب لتسليم العربة، ووعد أن يعود، إلا أن الشرطي رفض بشدة، ارتبك أسعد فقد طلع ضوء النهار، وإن تأخر عن موعد تسليم العربة، سيتّهمه ناظر البلدية بالتقصير وبأنه كان نائماً أثناء الليل، وسيفصلونه عن العمل، فالعربة مهمة جداً بالنسبة لهم وزميله في الوردية الصباحية سيكون بالانتظار وسيصبح بلا عمل هو الآخر.

توسّل إلى الشرطي ثانية، لم يكترث الأخير له، زجره، وأمره بالتزام الصمت وأفهمه بأنه لا يستطيع إخلاء سبيله قبل قدوم صاحب المحفظة، والتأكد من صحة المبلغ الموجود ..

فقد أسعد الأمل بالذهاب، وجلس على بلاط الدرج ينتظر، مرّت الساعات بطيئةً، ثقيلةً، ممُِلّةً .. وقبيل الظهر، وقفت سيارة فارهة أمام المخفر، نزل منها رجلٌ بدينٌ يحمل بيده سيجاراً كبيراً دخل المخفر بسرعة، غير آبهٍ بأسعدَ الذي ألقى برأسه على الجدار، واستسلم لإغفاءة عميقة ..

صرَّح الرجلُ بأنه صاحب المحفظة، ولم يلحظ فقدانها بالأمس،
فقد سقطت منه سهواً وهو يهمُّ بمغادرة أحد الملاهي الليلية.

ناوله الشرطي المحفظة بعد إعطائه لأوصافها، وقال بأن عامل التنظيفات (أسعد) هو الذي وجدها صدفة فتح الرجل محفظته، وبدأ يَعُدُّ النقود بلهفةٍ واضحة، ثم أعلن بأن المبلغَ كاملٌ ..

إذ ذاك نادى الشرطي أسعداً، وحيّاهُ لنُبله واعتذر منه عن سوء الظنِّ، مُعرِّفاً إياه على صاحب المحفظة الذي شكره وصافحه بحرارة، ثم ناوله خمسون ليرة عربوناً على إخلاصه وأمانته ..

انطلق أسعد إلى البلدية بأسرع ما أمكنه، ثم توجّه بعدها
إلى بيته الغارق في الوحل، عاد إلى بيته يائساً، خائباً، قلقاً ..
لقد حفظ أسعد الأمانة، لكنه خسر الوظيفة؟!.
ولكم تحيات
ماجد البلوي