إسهامات قبيلة بلي في الأدب:

أ.د. سلامه محمد الهرفي البلوي

لقد برز الكثير من الأدباء والشعراء من أبناء قبيلة بلي خاصة في أحضان بلاد المغرب والأندلس, حيث اسرتهم البيئة الاخاذة بجمالها, وهيجت انهار وجداول وينابيع تلك البلاد نيران الحرقة والشوق الى وطنهم الأم.
فانقادت لهم الكلمات وطاوعتهم العبارات فانتجت اقلامهم قصائد شعرية رائعة, وقطعاً نثرية تثبت تقدمهم في البلاغة والنثر. ولعل الأديب الشهير ابو يحيى البلوي المري, محمد بن محمد بن عبد الواحد بن محمدالبلوي يأتي في طليعة ادباء هذه القبيلة, فقد وصفته المصادر بأنه من أبناء النعم وذوي بيوتات, كثير السكون والحياء وقد اتصل بالأديب والمؤرخ الشهير لسان الدين بن الخطيب, الذي مدحه البلوي بقصائد عدة منها لاميته الرائعة التي يقول فيها:

عللوني ولو بوعد محال
وصلوني ولو بطيف خيال

واعلموا انني اسير هواكم
لست انفك دائماً عن عقال

فدموعي من بينكم في انسكاب
وفؤادي من هجركم في اشتعال

يا اهيل الحمى كفاني غرامي
لا تزيدوا حسبي بما قد جرى لي

من مجيري من لحظ ريم ظلوم
حلل الهجر بعد طيب الوصال

ناعس الطرف اسهر الجفن مني
طال منه الجفا بطول الليالي

بابلي اللحاظ أصمى فؤادي
ورماه من غنجه بنبال

وكسا الجسم من هواه نحولاً
قصده في النوى بذاك انتحالي

ما ابتدى في الوصال يوماًبعطف
مذ روى في الغرام باب اشتغالي

ليس لي منه في الهوى من مجير
غير تاج العلا وقطب الكمال

علم الدين عزه وسناه
ذروة المجد, بدر أفق الجلال

هو غيث الندى, وبحر العطايا
هو شمس الهدى, فريد المعالي

إن وشى في الرقاع بالنقش قلنا
صفحة الطرس حليت باللآلي

أو دجا الخطب فهو فيه شهابٍ
زانه الصبح في ظلام الضلال

أو نبا الأمر فهو في الأمر عضب
جل في الدهر يا أخي عن مثال

لست تلقى مثاله في زمان
صادق العزم عند ضيق المجال

قد نأى بي حبي له عن دياري
لا لجدوى ولا لنيل نوال

لكن اشتقت ان أرى منه وجهاً
نوره فاضح لنور الهلال

وكما همت فيه ألثم كفاً
جاد لي بالنوال قبل السؤال

هاكها ابن الخطيب عذراء جاءت
تلثم الأرض قبل شسع النعال

وتوفي حق الوزارة عمن
هو ملك لها على كل حال

ولم تكن هذه القصيدة الوحيدة التي مدح بها لسان الدين ابن الخطيب بل له رائية رائعة أيضاً في مدحه, نظمها في عام( 749هـ/ 1344م) قال فيها:

لا عذر لي عن خدمة الإعذار
ولئن نأى وطني وشط مزاري

أو عاقني عنه الزمان وصرفه
تقضي الأماني عادة الإعصار

قد كنت أرغب أن أفوز بخدمتي
وأحط رحلي عند باب الدار

بادي المسرة بالصنيع وأهله
مستشمراً فيه بفضل ازاري

من شاء ان يلقى الزمان وأهله
ويرى جلال شاع في الأقطار

فليأت حي ابن الخطيب ملبياً
فيفوز بالإعظام والإكبار

كم ضم من صيد كرام قدرهم
يسمو ويعلو في ذوي الأقدار

إن جئت ناديه فنب عني وقل
نلت المنى بتلطف ووقار

يامن له شرف القديم ومن له ال
حسب الصميم العد يوم فخار

يهنيك ما قد نلت من أمل به
في الفرقدين النيرين لساري

نجلاك قطبا كل مجد باذخ
أملان مرجوان في الإعسار

عبد الإله وصنوه قمر العلا
فرعان من أصل زكا ونجار

ناهيك من قمرين في أفق العلا
ينميهما نور من الأنوار

زاكي الأرومة معرق في مجده
جم الفضائل طيب الأخبار

رقت طبائعه وراق جماله
فكأنما خلقا من الأزهار

وحلت شمائل حسنه فكأنما
خلعت عليه رقة الأسحار

فإذا تكلم قلت طل ساقط
أو وقع در من نحور جواري

أو فت حبر المسك في قرطاسه
فالروض غب الواكف المدرار

تتبسم الأقلام بين بنانه
فتريك نظم الدر في الأسطار

فتخال من تلك البنان كمائماً
ظلت تفتح ناضر النوار

تلقاه فياض الندى متهللا
يلقاك بالبشرى والاستبشار

بحر البلاغة قسها وايادها
سحبانها حبر من الأحبار

إن ناظر العلماء فهو إمامهم
شرف المعارف, واحد النظار

أربى على العلماء بالصيت الذي
قد طار في الآفاق كل مطار

ماضره ان لم يجيء متقدما
بالسبق يعرف أخر المضمار

إن كان أخره الزمان لحكمة
ظهرت وما خفيت كضؤ نهار

الشمس تحجب وهي أعظم نير
وترى من الآفاق إثر دراري

ياابن الخطيب خطبتها لعلاكم
بكراً تزف لكم من الأفكار

جاءتك من خجل على قدم الحيا
قد طيبت بثنائك المعطار

وأتت تودي بعض حق واجب
عن نازح الأوطان ولأوطار

مدت يد التطفيل نحو علاكم
فتوشحت من حليكم بنضار

ولهذه الشاعرية المتدفقة والعاطفة الجياشة كان أبو يحيى البلوي محل تقدير العلماء فقد جرى ذكره في الأكليل بما نصه : من أولي الاتصال ، بأولي الخلال البارعة والخصال ، خطاً رائعاً ، ونظماً بمثله لائعاً ، ودعابة يسترها تجهم ، وسكون في طية إدراك وتفهم ، عني بالدراية والتقليد ، ومال في النظم الى بعض التوليد ، وله أصالة نبتت في السرو عروقها ، وتألقت في سماء المجادة بروقها ، وتصرف بين النيابة في الأحكام الشرعية ، وبين الشهادات العلمية المرعية .

وقد أثنى عليه أيضاً أبو الحسن علي بن لسان الدين بقوله : رحمة الله عليه ما أعذب حلاوته ، وأعظم مروءته ، وأكرم أصالته .
إن شاعرية أبي يحيى البلوي جديرة بالدراسة ، فأشعاره تمتاز بالجدة بالتعبير ، والأصالة في الأفكار وكما أشار صاحب الإكليل فإنه مال في النظم الى بعض التوليد ، فضلاًعن عذوبة لفظه .
ويمثل العالم الموسوعي صاحب المواهب المتعددة ابو البقاء البلوي(حوالي713- قبل 780هـ/ 1313-1378م) نموذجاً حياً لتطور صناعة النثر والشعر في القرن الثامن الهجري, ذلك القرن الذي يعد بحق قرن الابداع الأدبي والعلمي سواء في المغرب أو المشرق.
يعتبر أبو البقاء من الشخصيات الفة والمشهورة لدى المؤرخين المغاربة والأندلسيين, فقد ترجم له معاصره ابن الخطيب, وابن القاضي في الجذوة, ودرة الحجال في أسماء الرجال, ومخلوف في شجرة النور الزكية في طبقات المالكية, والمقرى في نفح الطيب وغيرهم.
قال عنه أحمد بابا التمبكتي في نيل الابتهاج: ( أبو البقاء علم الدين الإمام القاضي الفاضل). ووصفه ابن الخطيب في الإحاطة بأنه من اهل الفضل, كثير التواضع, والخلق الحسن جميل المعاشرة, محب الأدب… ارتسم بديوان الكتابة بتونس عن أميرها زمناً يسيراً, وكان يتشبه بالمشارقة شكلا ولساناً.
وأثنى عليه كذلك العالم أبو عبد الله الحضرمي(ت 747هـ/ 1346م) بقوله: هو صاحب الفقيه الأجل القاضي العدل الحاج المتخلق الحبيب الأديب, المتفنن العالم الفاضل. أما ابن مخلوف, فأطراه في
( شجرة النور الزكية, ج1, ص227) فقال: القاضي أبو البقاء علم الدين… العالم الكامل المتفنن الفاضل- الأريب المطلع الأديب.
ولعل أشمل وصف لهذا العالم الجليل ما جاء في الكبتبة الكامنة, لابن الخطيب, حين قال: فيمن لقينا بالأندلس من شعراء المئة الثامنة, القاضي أبو يزيد خالد بن عيسى بن أحمد القنتوري البلوي, صاحبنا, هذا الرجل كالجمل المحتمل يريبك مجموعه ويهولك مرئية ومسموعة, فإذا زمزم الحادي سالت من الرقة دموعه, فظاهره جسم جسيم, وللزرافة قسيم, وباطنه في اللطافة نسيم, وروض يرتاده نسيم, سكن البادية خيراً عفيفاً ومن المؤن خفيفاً يرتاح الى عقائل الآداب, ارتياح قيس الى ليلى… على انه كان عاطفياً ألوفاً يصعب عليه ان يفارق الأصدقاء والأحباب, يأنس الى كل من تعرف عليه… وإذا دخل مدينة لا يطيب له بها قرار حتى يربط علا قته بالفضلاء, فإذا فارقهم بكى حنيناً وشوقاً… يألف بسهولة ويستطيع ان يندمج في كل البيئات.
لقد كان أبو البقاء البلوي ينحدر من أسرة عريقة بالعلم خاصة العلم الشرعي, فقد تلقى العلم بمسقط رأسه قنتورية, فأخذ أولا عن والده القرآن ومبادىء العربية ثم درس القراءات السبع اثني عشر شيخاً, وذكر البلوي ان هذا العلم تسلسل في سبعة من أجداده.
وكان البلوي حر التفكير يميل الى الإجتهاد محباً للرياضة والفروسية, فقد كن يحسن السباحة ويجيد الفروسية حيث تعلم النزال والضرب واساليب الحرب كما كان حسن الخط يكتب بسرعة واتقان, وقد وصف ابن نباتة خطه بقوله: يتنافس فيه البصر والسمع, كما منح الله عز وجل البلوي صوتاً في غاية الحسن, قال ابن نباتة: يقرظ إذناً ببيانه وصوته.
وضمت ضلوع البلوي قلباً ينبض بالشفقة والرحمه ، فهو شديد التألم للمنظر المحزن فها هو يقول : فما رض ضلوعي وما فض دموعي ،إلا الأطفال يضطربون بالبكاء ويستغيثون من العطش .
كما كان باراًبوالديه، فقد زهد في الوظيفه في تونس على قلة ذات يده رعياً لوجوب الرجوع إلى وطنه ومعاينة والدته التي تركها وحدها في تونس .
ورغم هذه المواهب المتعدده والعلم الغزير إلا أن البلوي يبدو أنه وصل إلى نظرة للحياة متشائمة عبر عنها بقوله : فالليالي لاتجمع شمالا إلا شتته ولا تصل حبلاً إلا بتته ، من أطاعها عصته ، ومن أدناها أقصته ، فالبصير من يرفض الدنيا ويسأل الله في أموره .
ويبدو انه عانى معاناة كبيره من ثقته بالناس ، لانه لا ينافق ولا يخادع ، صادق امين ، ولكنه اتضح له بعد ذلك ان الثقه المطلقه بالناس تكلفه كثيرا فقال :
وقد كان حسن الظن بعض مذاهبي
فأدبني هذا الزمان وأهله .

لقد اولع ابو البقاء البلوي بالشعر رواية وحفظا خاصة الشعر الأندلسي, وكتابة تاج المفرق مليء بمحفوظاته في هذا الباب.
فله مجموعة منتقاة اختارها من اشعار معاصريه, فضلاًعن ديوان شعر.
وسنحاول ان نعرض لشذرات من شعر هذا العالم الموهوب لتكتمل لنا الصورة عن شاعريته المتفقة, حيث تنساب الكلمة على لسانه انسياب النسيم العليل على الأزهار والرياحين المتعانقة في المروج الخضراء في ليلة من ليالي الربيع المقمرة .
لقد حرقت الغربة قلب البلوي فهو في كل مناسبة يحن الى وطنه ويسكب الدمع المدرار لذكراهم خاصة عندما يرى الناس يتزاورون ويتبادرون التهاني في الأعياد, فلنستمع اليه في 737هـ/ 1336م عندما ادركه عيد الأضحى بتونس يرتجل في مصلاها:

أتى العيد واعتاد الأحبة بعضهم
ببعض واحباب المتيم قد بانوا

وأضحى وقد ضحوا بقربانهم وما
لديه سوى جمر المدامع قربان

ومن شعره في هذا الباب أيضــــــاً:

ولقد جرى يوم النوى دمعي دماً
حتى أشاع الناس أنك فاني

والله إن عاد الزمان بقربنا
لكففت عن ذكر النوى وكفاني

لقد استنكر البعض ظهور الشيب في مفرق أبو البقاء رغم انه في شرخ الشباب, فأوضح لمن استنكر ذلك بأن البعد عن الأوطان ومفارقة الأحبة هو السبب في ظهور الشيب المبكر في رأسه فقال:

ومستنكر شيبي وما ذهب الصبا
فقلت فراقي للأحبة مؤذن

ولا جف ايناع الشبية من غضي
بشيبي وإن كنت ابن عشرين من سني

وكل أشعار البلوي تتدفق شوقاً وحنيناً ويندر ان تد قصيدة له تخلو من ذلك, كما ان جميعها يمس شغاف القلب ويجعل المتلقي يتفاعل مع عواطفه ويعيش معه في غربته, ومعاناته, وتجعله يئن مع انينه ويبكي مع بكائه, فلنستمع لهذه القصيدة:

ب
عثت خيالا والعواذل ضجع
فسرى ينم به شذاً يتضوع

دنا يعاطيني الحديث على دجى
كأس الثريا في يديه تشعشع

وكأنما الإكليل جام مذهب
بيواقت الجوزاء فيه مرصع

نادمت فيه أخا الغزالة جؤذراً
يغدو بأكناف القلوب ويرتع

في ليلة لا الوصل فيها بنينا
خجل ولا قلب العفاف مروع

رق الهواء بها ورق لي الهوى
فمشى موشى بيننا وموشع

ياجيرة جار الزمان ببعدهم
لم يخل منكم في فؤادي موضع

لم تسكنوا وادي الأراك وإنما
قلبي مضيفكم ودمعي المربع

والله ماضحك الربيع بربعكم
إلا وعن عيني بمزن يهمع

وإذا شكوت الى الصديق فإنه
يسليك أو يغنيك أو يتفجع

يابار فا تنشق عنه سحابة
عن مثل مدمعي السفوح وتقلع

أشبهت من أهواه حسن تبسم
فأصبت إلا أنه هو أنصع

بالله خذ عني تحية نازح
لم يبق فيه اليوم فيما يطمع

واقرأ على الجزع السلام وسح من
قطرات دمعك حيث تلك الأربع

ما كان أطيب عيشنا الماضي بها
لو كان ذلك العيش فيها يرجع

أيام نغفر للصبا ذنب الهوى
ونشفع الوجه الجميل فيشفع

ماسرني تبديد دمعي لؤلؤاً
وعهدته بيد الحسان يجمع

وعندما عزم البلوي على الرحيل عن بلده في رحلته التي دونها في تاج المفرق وذلك في ضحوة يوم السبت الثامن عشر لصفر من عام736هـ/ 1335م مودعاً للأهل والأصدقاء, نجده يتجرع آلام الفراق لا بل انه عندما غادر بلده وودع أهله كأنه فارق روحه ففي تلك اللحظات العاطفية الجياشة قال:

ودعت قلبي يوم ودعتهم
وقلت يا قلبي عليك السلام

وقلت للنوم انصرف راشداً
فإن عيني بعدهم لا تنام

محرم يا عين ان ترقدي
وليس في العالم نوم حرام

وهاهو يعبر نثراً وشعراً عن هذا الموقف مرة أخرى فيقول: وقد أعدت الركاب, وطاشت الألباب, وحضر للوداع جميع الأحباب, وأنا أصبر كصبر ميت على النزاع, وأقول ما خلق الله من عذاب أشد من وقفة الوداع, أعالج السياق, وأعاين المنايا بين أخفاف النياق, ثم يقول:

أ
قول لصحبي حين ساروا ترفقوا
لعلي أرى من بالجناب الممنع

وألثم أرضاً ينبت العز تربها
وأسقي ثراها من سحائب أدمعي

وينظرطرفي أين أترك مهجتي
فقد أقسمت أن لا تسير غداً معي

وما أنا إن خلفتها متأسفاً
عليها وقد حلت بأكرم موضع

ولنعش مع أشعار البلوي الشجية عندما ارتحل عن بلده, وأخذت تنازعه وساوس النفس, هل سيمتد به العمر ويعود مرة أخرى اليها, إنه شعور المسافر الذي لا يعلم ماذا يخبئ له القدر أثناء ترحاله, فقد عبر عن تلك الهواجس شعراً حين قال:
ليت شعري أنلتقي بعد هذا
أم وداعاً يكون هذا اللقاء

فاذكروني وزودوني دعاء
خير زاد تزودوني الدعاء

وتتكرر الصورة في كل موقف وداع في معظم المناطق التي زارها في رحلته وهي كثيرة فقد أنشد أبياتاً معبرة عن الفراق حين قال :

ماذا وقوفك والركاب تساق
أين الجوى والمدمع المهراق

ألغير هذا اليوم يخبأ أو ترى
بخلت عليك بمائها الأماق

حتى لقد رحلوا بقلبك والكرى
إن النواظر لا الدموع تراق

وتتدفق عاطفة البلوي الايمانية فياضة رقراقة عندما تتراءى له المدينه المنورة ، فتتوارد لدية الأفكار تجيش به العواطف المفعمه بحب المصطفى صلى الله علية وسلم ، فيا له من موقف مؤثر صوره أبو البقاء البلوي اجمل تصوير حين خط ببنانه ارتجالا قصيدة هي أشبة بلوحات عاطفيه مجسدة تصور لقاء المحبوب مع حبيبه ذلك اللقاء المفعم بالحرقة والشوق ، والاعتراف بالذنب لطول الفراق وعدم التعجيل بالقاء مع كبير الامل والرجاء بأن يصفح المحبوب الزله ويقيل العثرة فقد قال :

الله أكبر حبذا إكباره
لاح الهدى وبدت لا أنواره

لاحت معالم يثرب وربوعها
مثوى الرسول وداره وقراره

هذا النخيل وطيبة ومحمد
خير الورى طرا وها أنا جاره

هذا المصلى والبقيع وهاهنا
ربع الحبيب وهذه آثاره

هذي منازله المقدسة التي
جبريل ردد بينها تكراره

هذا مواضع مهبط الوحي الذي
تشفى الصدور من العمى أسطاره

هذه مواطىء خير من وطىء الثرى
وعلا على السبع العلا استقراره

ملأ الوجود حقيقة أشراقه
فأضاء منه ليله ونهاره

والروضة الفيحاء هب نسيمها
والبان بان ونم منه عراره

وتعطرب سلع فسل عن طيبها
لم لا تطيب وحولها مختاره

بشرك يا قلبي فقد نلت المنى
وبلغت ما تهوى وما تختاره

قد أمكن الوصل الذي أملته
وكذاك حبي أمكنت اسراره

قد كان عندي لوعة قبل اللقاء
فالآن ضاعف لوعتي ابصاره

رفقاً قليلاً يا دموعي أقصري
فالدمع يحسن في الهوى أقصاره

قد كانت العين الكريمة في غنى
عن أن يفيض بتربها تياره

أيضيع من زار الحبيب وقد درى
ان المزور بباله زواره

أيخيب من قصد الكريم وعنده
حسن الرجاء شعاره ودثاره

أيؤم بابك مستقبل عاثر
فيرد عنك ولا تقال عثاره

حاشا وكلا أن تخيب آملا
فيعود صفراً خيبت أسفاره

يا سيد الارسال ظهري مثقل
فعسى تخف بجاهكم أوقاره

رحماك الصغار وقد تعاظم وزره
والعفو تصغر عنده أوزاره

شط المزار ولا قرار وشدما
يلقي محب شط عنك مزاره

وافى حماك يفر من زلاته
واليك يا خير الانام فراره

وأتاك يلتمس الشفاعة والرجا
اقتاده وظنونه أنصاره

والعبد معتذر ذليل خاضع
ومقصر قد طولت أعذاره

متسول قد اغرقته دموعه
متنصل قد أحرقته ناره

قذفت به في غربه أوطانه
ورمت به لعلائكم أوطاره

فامنن وسامح واعف واصفح واغتفر
فلأنت ماح للخطا غفاره

صلى عليك الله ما حيا الحيا
روض الربا وترنمت أطياره

أجل إن ما تقدم من اختبارات من شعر أبو البقاء البلوي تدل دلاله واضحه على شاعرية متمكنه ، وموهبه ملكت ناصية التعبير فانقادت لها الكلمات فتشكلت منها صور شعرية رائعة تنبض بالحياة والحركة .
هذا ولم تتوقف مواهب البلوي عندما ذكرنا من جمعه لتلك المعارف بل كانت له يد طولى وشأن يذكر في الموشحات ونختم الحديث عن أبي البقاء بما ختم به المقري حين قال : ومحاسنه كثيرة وفي الرحلة منها جملة
ومنهم الأديب الشاعر الأبرش البلوي ، عبدالله بن ابي العباس الأبرش البلوي ، من أهل باجة القمح ، وهو شاعر قديم معروف بحب الغريب من اللغة ، وله أراجيز كثيرة ومن نماذج شعره الذي يعتز فيه بقبيلته :
وحول بيوت الحي جرد ترى لها
إذا ما علا صوت الصريخ تحمحما

وفي الحي فتيان تخال وجوههم
إذا سفروا في ظلمة الليل أنجما

زنود النهى سحب الندى أنجم الهى
بدور السنا عرق الوفا أسد الحمى

هم أقدم الاملاك ملكا وسؤددا
ومجد وآلاء وفخراً ومسلما

فمنهم زهير بن الجناب الذي سقى
كؤوس الردى حي معد وأطعما

وألبس لابني وائل ذلة
وألزم دار الهون من كان أحزما

فلما سطا الجبار أبرهه الذي
يصول الردى إن صال يوماً وصمما

ومنها :

و
نحن مننا بالقطاقط منة
بأسرى تميم بعد حولي لأكثما

معالي بني قحطان بيض زواهر
يرى غيرهم بين السماكين معلما

هم تركوا في ذلك اليوم هرقلاً
وأشياعه للبيض نهباً مقسما

وهم دافعوا عن نفس بهرام فارساً
عداه بهم برواز لاذ وخيما

إذا ماتتوجنا فلا ناس غيرنا
ونمنع من شئناه أن يتعمما

وكنا ذوي التيجان قبل محمد
ومن بعده نلنا الفخار المعظما

نصرنا وآوينا ونلنا بنصرنا
له شرفاً ضخماً وعزاً مقدما

فقل لمنايونا : صهٍإن عزنا
جميع ملوك العجم والعرب أرغما

ألسنا ضربنا بالسيوف وجوهكم
على الدين حتى قد أبنتم عن العمى

وقدناكم للحق قوداً وأنتم
ترون الهدى غياً وجرماً محرما

ونحن جعلنا للبهاليل منكم
على الدين من فوق العذارين ميسما

الى أن علا الاسلام وانتشر الهدى
وأصبح دين الله أكرم منتهى

وأشرقت الدنيا لأحمد وارتمت
بنا همة الاسلام أبعد مرتمى

ففاخر بقحطان بن هود ويعرب
إذا أنت فاخرت امرءاً فهما هما

ومن شعره أيضا :
يا ذا الذي في خده
جيشان من زنج وروم

هذا يغير على القلو
ب وذا يغير على الجسوم

إني وقفت من الهوى
في موقف صعب عظيم

كوقوف عارضك الذي
قد حار في ماء النعيم

صاح الجمال به فعرج
خيفة كجناح جيم

ويعد الشاعر الاديب احمد بن محمد بن فرج البلوي المعروف بالبساري من مشاهير شعراء قبيلة بلي في الاندلس في القرن الثالث وبالتحديد في عهد عبدالرحمن بن الحكم ( 206 – 238 هـ / 821 – 852 م ) ومن نماذج شعره تلك القصيدة التي هجا بها الوزير حامد بن محمد الرجالي :

فعل اللئيم وليلته لم يفعل
وأتى بفعل مثله لم يجمل

ذبح الضفادع في الصنيع ولم يدع
للنمل جارحة ولا للقمل

وضع الطعام فلو علته ذبابة
وقعت لتكمل شعبة لم تكمل

وكأنما خرطت صحاف طعامه
من دقة ودمامة من خردل

وكأن فترة صحفه
في البعد والإبطاء فترة مرسل

ومن شعراء بلي الظرفاء الشاعر أبو بكر عبدالرحمن بن سليمان البلوي السبتي وهو أديب شاعر من اهل العلم له أشعار لطيفة في ممازحة الاصدقاء
روى ابن حزم في طوق الحمامه انه كان يجتاز الطريق مع عبدالرحمن البلوي الشاعر السبتي فأنشده البلوي لنفسة :
سريع الى ظهر الطريق وانه =الى نقض اسباب الموده أسرع
والى جانب هؤلاء الشعراء تذكر لنا المصادر أسماء بعض النسوة من هذه القبيلة ممن قرضن الشعر ومن هذه النسوة أم ضيغم البلويه ، وهي شاعرة من شواعر العرب ، قالت :

وبتنا يقيناً ساقط الطل والندى
من الليل برداً يمنه عطران

نذود بذكر الله عنا من الشذى
إذا كان قلبانا بنا يجفان

وذكر عمر رضا كحال ايضا بأن خيرة بنت أبي ضيغم شاعرة من أظرف الشواعر .
ومن الجدير بالملاحظة ان قبيلة بلي قد قدمت لنا علماء رواداً في حقل البلاغة والنثر ، فأهل البلاغة يذكرون بكل تقدير الكاتب البليغ البلوي الذي عاش في أوائل العصر العباسي الاول وعاصره ولاة أبي جعفر المنصور والمهدي وهارون الرشيد على بلاد اليمن التي عاش فيها .
لقد نصب بشر البلوي نفسه لدفع ظلم الظالمين وفجور الفاجرين وتحيز المتحيزين ، فكتب عدة رسائل الى حكام وولاة الدولة العباسية ينهج فيها اسلوبا جديداً اعتمد فيه على اقتباس من القران الكريم فجاءت كلماته درراً لامعه تأسر من يقرأها وقد وصف بعض الأدباء بلاغته بأنها كانت تتهادى في البلاد وكان فيها مأخذ لم يسبقه اليه أحد ولم يلحق فيه ، وانه فيها أوحد ، وانه لا بشابه في بلاغته البلغاء ، وانه منفرد بحسن الاقتباس من آي الذكر الحكيم .
هذا وقد نشرت هذه الرسائل اخيراً وصدرت في كتاب يحمل اسم رسائل بشر البلوي .
هذا لمحة سريعة أردنا من خلالها ان نبرز بعض اسهامات هذه القبيله في الحياة الادبية في الدولة الاسلامية عبر ادوارها التاريخية ، علماً بأنه يوجد العديد من الشعراء والادباء الذين لم نعرج عليهم .

شارك هذا الموضوع
أ.د.سلامة محمد الهرفي البلوي الميــلاد : 5/9/1957 م – الزرقا – الأردن الجنســية: أردني الوظيفة الحالية بالتفصيل : أستاذ تاريخ إسلامي في جامعة الشارقة محـل الإقامة والمراسلة : الشارقة – جامعة الشارقة – كلية الآداب والعلوم المؤهلات والشهادات العليا : حاصل على بكالوريوس تاريخ بالجامعة الأردنية والأول علي القسم 1978م ودرجة الماجستيرفي التاريخ الإسلامي جامعة من أم القرى بتقدير ممتاز 1982م و درجة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة أم القرى ممتاز 1985م عمل رئيساً لقسم الدراسات الاجتماعية جامعة الملك فيصل ورئيساً لقسم الدراسات الإسلامية الجامعة العالمية ماليزيا ومساعداً لعميد كلية الدراسات العربية والإسلامية دبي المؤلفــــات : 1- كتاب القضاء في الدولة الإسلامية تاريخه ونظمه في مجلدين . 2- كتاب تاريخ دولة المرابطين في عهد علي بن يوسف ابن كاشفين . 3- كتاب اللمسات الإنسانية في الحضارة الإسلامية . 4- كتاب المخابرات في الدولة الإسلامية .
اترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version