طلحة بن البراء البلوي رضي الله عنه : قلبٌ في عشق النبوة، وضحكةٌ في رحاب السماء

في صفحات التاريخ، حيث تتلألأ أسماء الصحابة كنجمات تهدي السائرين في ظلمات الدجى، يبرز اسم طلحة بن البراء بن عمير البلوي (رضي الله عنه )، ذاك الفتى الذي لم يكن قلبه ينبض إلا بمحبة النبي (صلى الله عليه وسلم )، ولم تعرف جوارحه طريقًا إلا طاعة الله ورسوله.

النشأة في كنف الإيمان وُلِد طلحة بين قومه في قبيلة بلي، حيث الأصالة والشهامة، وحيث القلوب التي تلين لنداء الحق. وما إن أشرقت شمس الإسلام على يثرب، حتى كان قلب طلحة أول القلوب التي انفتحت لنوره، فهرع إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم )، فتى لم تكد الدنيا تفتح له أبوابها، لكنه اختار أن يجعلها طريقًا إلى الآخرة.

حبٌّ سماويٌّ لا يعادله حب لم يكن طلحة مجرد تابع، بل كان عاشقًا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم ) حبًا فاق الوصف. كان يراه النور الذي بدد ظلمات الجاهلية، والنبراس الذي يهدي إلى الصراط المستقيم. وذات يوم، من فرط شوقه للنبي، أقبل إليه وقبَّل بطنه الطاهر، نظر إليه النبي (صلى الله عليه وسلم ) بعين الأب الرحيم، وسأله: “تحبني يا طلحة؟”، فقال طلحة بقلبٍ صادقٍ ولسانٍ موقن: “نعم يا رسول الله”، فرفع النبي يديه إلى السماء وقال: “اللهم أحبه”.

يا لها من دعوةٍ ترفع المقام، وتجعل القلب مطمئنًا بأن حبه في الأرض ما هو إلا ظلٌّ لحبٍّ في السماء!

اختبار الولاء والطاعة وذات مرة، أراد النبي (صلى الله عليه وسلم ) أن يختبر ولاء طلحة، فقال له مازحًا: “اذهب فاقتل أباك”، فما كان من طلحة إلا أن نهض، ممتثلًا للأمر بلا تردد، مؤمنًا أن حب الله ورسوله فوق كل حب، وأن طاعة النبي (صلى الله عليه وسلم ) فوق كل اعتبار. لكنه لم يكد يبتعد حتى ناداه النبي (صلى الله عليه وسلم )، وقد ملأ صوته الرحمة وقال: “إني لم أبعث بقطيعة الرحم”. وهنا أدرك طلحة أن الإسلام دين المحبة والوفاء، دين يرفع شأن الأسرة ويجعل صلة الرحم من أعظم القربات.

المرض واللقاء المنتظر لكن الأقدار خبأت لهذا الفتى الصالح رحلة قصيرة في الدنيا، فما لبث أن ألمَّ به مرض شديد، أرهق جسده وأضعفه، لكن روحه ظلت محلقةً في سماء الطهر واليقين. وكان النبي (صلى الله عليه وسلم ) يعود طلحة في مرضه، يواسيه بحنان الأب، ويدعو له بما يفيض من رحمته. وفي إحدى زياراته، قال النبي (صلى الله عليه وسلم ) لأهله: “إني أرى طلحة قد حدث فيه الموت، فإذا مات فآذنوني حتى أصلي عليه، وعجلوا، فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله”.

وفي ليلةٍ من ليالي المدينة الهادئة، أسلم طلحة الروح إلى بارئها، ليلقى ربه وهو مغمور بمحبة نبيه (صلى الله عليه وسلم )، مضى طاهر القلب، نقي السريرة، فكان رحيله خفيفًا كما كانت حياته.

وداع النبي (صلى الله عليه وسلم ) وكرامة الختام حين بلغ الخبر مسامع النبي (صلى الله عليه وسلم )، جاء إلى قبره، ورفع كفيه الطاهرتين نحو السماء، ثم دعا له دعاءً تهتز له السموات والأرض: “اللهم القَ طلحة وأنت تضحك إليه، وهو يضحك إليك”. يا لها من كرامةٍ عظيمة! أن يكون اللقاء الأول بين طلحة وربه لقاءً تتجلى فيه البِشرى، ويُستقبَل فيه بروحٍ تضحك لنور الله، كما كان يضحك لنور نبيه (صلى الله عليه وسلم )!

سيرة لا تُنسى مضى طلحة، لكنه لم يغب، فقد ترك في قلوب المؤمنين قصةً تتلى على مر الأزمان، درسًا في الحب الصادق، والوفاء المطلق، والطاعة الممزوجة بالإخلاص. إنه مثالٌ للشاب الذي باع دنياه ليفوز بآخرةٍ أبدية، واختار طريق الحق، فرفع الله ذكره، وأعلى منزلته.

ختام المسيرة وهكذا طوى طلحة بن البراء صفحة حياته في الدنيا، لكنه لم يغب عن ذاكرة الزمن، بل بقي اسمه خالدًا يبعث في قلوب المؤمنين شغف الطاعة، ويذكرهم بأن حب الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم ) هو النور الذي لا ينطفئ، والطريق الذي لا يُضل سالكوه. رحم الله طلحة، وجمعنا به في جنات الخلد، حيث اللقاء الذي لا فراق بعده.

Related posts

الفقيه يحيى بن عمر بن يوسف بن عامر الكناني البلوي (رحمه الله )

موطن قبيلة بلي عبر الزمن: رحلة في أعماق التاريخ

أبو الحجاج البلوي: فارس الحرف ومهندس البيان

1 تعليق

افضل 8 مارس، 2025 - 9:24 ص
موضوع مميز وتاريخ طويل الله يرحم اموات المسلمين أجمعين.
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. نفترض أنك موافق على ذلك، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا رغبت في ذلك. اقرأ المزيد