جابر بن أحمد العرادي البلوي: رجل صنع مجده بالصبر والإصرار

حكاية رجل صنع مجده بالصبر والإصرار

في قلب الصحراء، حيث تتعانق الرمال مع الأفق البعيد، ولد جابر بن أحمد بن سعيد بن فالح بن شهبي العرادي البلوي، رجلٌ لم يكن مجرّد اسمٍ في صفحات التاريخ، بل كان نموذجًا حيًّا للكد والاجتهاد والإخلاص في خدمة وطنه وأبناء مجتمعه. جسّد الإصرار في أبهى صوره، متحملًا الصعاب ومتجاوزًا العقبات، ليكون أحد رجالات المملكة العربية السعودية الذين ساهموا في نهضتها الأولى.

ميلادٌ محفوف بالتحديات

وُلِد جابر في بادية البلوية بالقرب من مدينة الوجه، وما لبث أن واجه قسوة الحياة حين فقد والده وهو لم يتجاوز الرابعة من عمره. لكن أمّه، التي حملت إرث القوة والعزم، قررت أن تسير به على درب العلم رغم المصاعب التي أحاطت بهما. انتقلت معه إلى الوجه، حيث كان التعليم آنذاك تحديًا صعبًا في ظل الفقر وانتشار الأمراض. لم يُقبل في المدرسة في بادئ الأمر، لكن عزيمته كانت أقوى من أي عائق، فكان يقف خارج الصفوف ليسترق السمع إلى الدروس، حتى انتزع اعتراف المدرسة بحقه في التعلم.

لكن الحياة لم تمنحه هدنة، فقد توفيت والدته وهو في السادسة، ليجد نفسه يتيمًا في وجه الحياة القاسية. لكن العناية الإلهية سخّرت له عائلة الوجيه أحمد الفرشوطي رحمه الله، التي احتضنته ومنحته الحنان الذي فقده، فكان لهم ابنًا، وكانوا له السند والدافع ليكمل مشواره.

الطريق إلى العلم والعمل

درس جابر في مدرسة الوجه حتى أكمل المرحلة الابتدائية وهو في العاشرة من عمره، متفوقًا في الدراسات الإسلامية والقرآنية. ولم يكن طموحه ليتوقف عند حدود المدرسة، إذ سرعان ما التحق بأول وظيفة له كمعلم لتعليم القرآن الكريم، بناءً على طلب أمير الوجه آنذاك، حمد المبارك. كان حينها لا يزال صبيًّا، لكنه أثبت نبوغه واستعداده للقيام بالمهمات الجسام.

إلا أن شغفه الحقيقي كان بالتكنولوجيا الناشئة آنذاك، خاصة إشارة المورس، التي كانت أساس التواصل اللاسلكي في ذلك الزمن. ثابر على تعلمها، حتى أصبح معلمًا لها، وخرّج على يديه العديد من الكفاءات الذين تبوؤوا مناصب مرموقة في الدولة.

في عام 1949م، سافر إلى المملكة الأردنية الهاشمية، حيث حصل على دبلوم اللاسلكي والكهرباء، ليعود بعدها إلى المملكة موظفًا في مدينة الجوف، ثم في رفحاء، حيث كان له دور بارز في تطوير الاتصالات والبريد. وعُيّن لاحقًا كأول مدير لمطار رفحاء عام 1962م، وهو المنصب الذي شغله بكل تفانٍ وإتقان.

شخصيته وإنجازاته

لم يكن جابر العرادي مجرد موظف يؤدي عمله فحسب، بل كان مثالًا للرجل صاحب الرؤية، فكان من أوائل الداعمين لتعليم البنات، رغم ما واجهه من انتقادات. لطالما قال بثقة: “سيأتي يوم يتسابق فيه الجميع لتعليم بناتهم، حتى أولئك الذين يرفضونه اليوم”. وقد تحقق ما آمن به، إذ صار التعليم اليوم حجر الأساس في بناء الوطن.

أبقيت فينا خصالًا لا نعددها

،،،، إلا المعارف ما زالت لنا عضدا

قد غبت عنا وما غابت فضائلك

،،،،أنت المساوي بين البنت والولد

إنا محبوك نحو العلم ناظرنا

،،،،عين ترى وأخرى تمع البرد

شعر أ.أميه عليوي

كان رجلًا كريمًا بطبعه، لا يتوانى عن مساعدة الآخرين، خاصة المسافرين والوافدين إلى المطار، حيث كان يحرص على أن يصل الجميع إلى وجهاتهم بأمان، حتى في زمنٍ كانت فيه وسائل النقل نادرة. كما حرص على تدوين كل تفاصيل عمله في أوراق صغيرة يحملها معه، فهو يرى أن الإنسان غير المنظم لا يستحق وظيفته ولا الراتب الذي يتقاضاه.

الرحيل المفاجئ

في عام 1394هـ، قرر أن يؤدي مناسك الحج، مصطحبًا زوجته وبعض الأصدقاء. وبعد أن أتموا المناسك، شاءت الأقدار أن تنتهي رحلته الدنيوية في حادث سير أودى بحياته، لكنه ترك وراءه سيرةً عطرةً ومكانةً لم تتزحزح في قلوب من عرفوه.

لم يكن جابر العرادي مجرد اسمٍ يُذكر، بل كان قصةً تُروى، عنوانها العزيمة، والتضحية، وحب العلم، والوفاء للوطن. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

Related posts

سلامة بن محمد الهرفي البلوي: سيرة علمية زاخرة بالعطاء والمعرفة

قصة عبقرية طبية ملهمة: الدكتور حرب عطا الهرفي البلوي: رائد الطب والمناعة من البادية إلى العالمية

الوجيه / سعد دخيل الله سمران الوحيشي البلوي

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. نفترض أنك موافق على ذلك، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا رغبت في ذلك. اقرأ المزيد