المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مرسى السُفُن .. الرصيف العاشر



معتز الشمالي
07-09-2013, 09:30 PM
كم هو جميل أن نحظى برحلةٍ كهذه..على الرغم من تكرارها..إلا أن لها هذه المرة طعماً آخر..فلقد قطعنا الوعود تلو الوعود وعقدنا الأمنيات تلو الأمنيات بأن نستفيد من رحلتنا هذه قدر المستطاع..ففي المرة السابقة..لم نحسن التصرف..وانتهت رحلتنا كما بدأت..فلم نستفد..ولم نستمتع..لذا كان لزاماً علينا أن نتجاوز أخطائنا التي ارتكبناها وأن نحاول ألا نعيدها مرة أخرى..



أخذ ربان السفينة بالنداء للطاقم للإستعداد للإبحار..فلقد حانت الرحلة..نظرة سريعة للإطمئنان على أن جميع الأمور تسير على مايرام..انفردت الأشرعة..واندفعت السفينة..تمخر عباب البحر..فيالروعة انطلاقتها..وهي تشمر عن ساعديها تلاطم الأمواج ..وتلكمها..فكأنها في صراعٍ معها..وبالرغم من ذلك ..إلا أنها تداعبها .. وتحاكيها. بنبرة الواثق: سأبحر فوق ظهرِك..وسأرشف مائك المالح..شئت أم أبيت..!!..


مرت الرحلة في بدايتها بسلام..الكل متفائل برحلة جميلة..يسودها الأمن..وتردد أنغامها طيور النورس التي أبت إلا أن تشارك الجميع روعة الأجواء..نظر قبطان السفينة الى خريطته البحرية..وهو يقيس حجم مسافة الرحلة..أدار برأسه ..وأخذ يفرك ذقنه..ويعبث بشعر لحيته الكث..فأومأ برأسه محدثاً نفسه..وطوى خريطته ووضعها جانباً..ثم اتجه الى سطح السفينة..وقال منادياً: ياقوم..ارعوني سمعكم..فاشرأبت أعناق الطاقم تجاه صوت قبطانهم..فاستطرد قائلاً: بعد دراستي لخط سير سفينتنا..وقياس المسافة لرحلتنا هذه..قررت بأن أقسم رحلتنا الى ثلاثة أقسام..القسم الأول هو مرسانا الذي ابحرنا منه..والقسم الثاني مرفأ يبعد عن مرسانا الأول مسافة عشرة أيام.والقسم الثالث..والذي سيكون خاتمة رحلتنا.ستفصله عن المرفأ الثاني مسافة عشرة أيام..لذا..وددت بأن أطلعكم على خطة سيرنا هذه..قال هذه الكلمات وقفل راجعاً الى مقصورته..وكأنه يخبرنا بأن هذا الأمر سيكون رغماً عنا..فلا جدوى من مناقشتنا له ..

لم يكن وقع كلمات القبطان على أسماع الطاقم مشابهاً لبعضه..فبعضهم استكثر المدة..وبعضهم سعيد بذلك..وبعضهم لم يكترث سواءً قصرت الرحلة أو طالت..فسيقضي رحلته نائماً في مقصورته..


مر اليوم الأول..الفئة السعيدة بقرار القبطان قضته في همةٍ ونشاط..فهذا يفرد الأشرعة..وهذا ينظف السفينة..وهذا يرتبها..وآخر يساعد قبطانها..الكل في حركة دؤوب..وهمة عالية..وعزيمة قوية..لم تغرب شمس هذا اليوم الا والكل قائم بمهمته..ومؤديها على اتم وجه..نظر أصحاب الفئة الممتعضة لهؤلاء القوم..فقال بعضهم: يا أيها الحمقى..هاقد مر اليوم ونحن في سخطٍ على المدة التي سوف نقضيها في رحلتنا هذه..لم نستفد شيء..إلا بتقطب الجبين..ونرفزة الاعصاب..فلم نزداد الا غماً..فغر أحدهم فاه متسائلاً: وماذا تريدنا ان نفعل يا صاحب الرأي الحصيف؟..فرد عليه مباشرةً: من الغد..سنعمل مع القوم..ونساعدهم..بالنسبة الي..لا أستطيع أن أطوي يداي على بعضهما وأنا أراقب همة القوم ونشاطهم..فلا بد من أن أكون معهم..هذا هو قراري النهائي الذي لارجعة فيه..فمن منكم يساندني؟!!..ساد الصمت برهةً.. والقوم يديرون بأبصارهم بينهم..وصاحبهم ينظر اليهم..ينتظر منهم أن يجاوبوه..رفع أحدهم بصره اليه..وقال.: حسناً..وهو كذلك..سأكون معك..تهللت أسارير صاحبه..ونظر اليه نظرة الممتن ..وهو يدير براسه الى البقية..وكأنه يستجديهم عطفهم..فقال آخر: أنا كذلك..سأكون معكم..وقال الذي بجانبه : وأنا أيضاً..وما لبث أن بدأ الحماس يدب في نفوس البقية..فأخذ الكل يسابق صاحبه في إعلان إنضمامه مع صاحبهم..حتى أعلنوا عن بكرة أبيهم رغبتهم الاكيدة في أن يبدئوا يومهم التالي في همة ونشاط..


أما الذين لم يكترثوا ..فلقد أمضوا يومهم في خوض مسابقةٍ لاعلى صوت شخيرٍ بينهم..فلم يروا صبح ذلك اليوم..ولم يلقوا التحية الى شمس ظهره..ولم يودعوها وهي غارقة في أفق البحر..حتى إذا خيم الليل.. واطبق على البحر بنواجذه..بدأوا بالإستيقاظ فرداً فرداً..وكأنهم ضمن روزنامة زمنية.. تجري وفق مخطط زمني دقيق..حتى إذا افاقوا..قال احدهم..: آآآي..لقد آلمني ظهري..فرد عليه صاحبه..: حسناً..اخلد الى النوم مرة أخرى..فأنا اعتقد بانك لم تنم بما فيه الكفاية..وهذ الذي يجعلك تشعر بالم في ظهرك..لم يستوعب صاحبه الكلام الذي قيل له..فعيناه مازالتا ملتصقتين ببعضهما..ولكنه أجابه وهو يفرك عينيه : صدقت..ولكن ..!! أشعر باني أحتاج الى بعض الطعام..فأنا جائع...لم ينتهي صاحبنا من نطق كلمة جائع حتى انفتحت الأعين المغلقة.. مخلفةً رموش اصحابها على وجناتهم..: ماذا؟ طعام؟..أين؟!!فاستدركوا الأمر..وأيقنوا بانهم في حاجة ملحةِ الى تناول بعض الطعام..فوثبوا من فورهم وهم يتسابقون الى مطبخ السفينة..فلما دخلوه..لم تمض سوى هنيهات قليلة..إلا وكأن سرباً من الجراد قد هجم على حقلٍ من الذرة..فلم يتركوا دسماً ولا ناشفاً الا واتوا عليه..بإخلاص نادرٍ.. وهمة عالية..أكملوا واجبهم..والعرق يقطر منهم قطراً..ويبلل ملابسهم..فكأنهم للتو قد ركضوا مسافة خمسة اميال ..ولم يدر القوم بانهم ركضوا بأرجل بطونهم مسافة تزيد على الالف ميل..!!وهذا سبب تعرقهم وشعورهم بالظمأ..
وبعد ليلة عنفوانية مع انواع الطعام والشراب..أخذوا يجرون ارجلهم بثقلٍ وكسل..وهم بين تأوهٍ وتجشؤ..زائغةً أبصارهم..كالحة وجوههم..بطيئة أنفاسهم..أخذوا بالإنحدار تجاه أسرتهم..فلهم معها واجبٌ لم يكملوه في ليلتهم السابقة..ولعلهم أن ينيخوا ركاب بطونهم.. ويتركوها تتأرجح معهم..فلم تعد بطونهم ذلك الجزء الملتصق من اجسادهم..فكل بطن اصبح له كينونته الخاصة..واستقلاليته المنفردة..مما يحتم على أن يصبح لكل بطن سرير مستقل له..بجانب صاحبه..


مرت العشرة أيام الاولى..ووصلت السفينة الى مرساها الثاني بأمن وسلام..لم يشعر الجميع بمدة الرحلة..فلقد كانت جميلة..هادئة..قبطانها ادار دفتها بحنكة وفطنة.. .أصحاب الهمة العالية ازداد عددهم..حتى أضحى الطاقم الى فريقين ..فريق رشيق..والآخر يغط في سبات عميق..مرت الأيام العشر..ولكن البعض ممن كان ممتعضاَ ..وبعد ان عمل مع القوم..ارتابه شعور من الملل..فقال في نفسه: الكل يعمل هنا..والعمل يسير على اتم وجه وأكمله..ومعنا في سفينتنا من لاهم له سوى النوم والأكل..!!والسفينة تجري بدونهم..وأنا فرد واحد..ولا أعتقد من ان أصحابي بحاجة الي..!!!




..يتبع..

معتز الشمالي
07-19-2013, 02:22 AM
هتف القبطان منادياً بأعلى صوته: ياقوم..مالي اراكم قد هجعت همتكم؟!!..مالي اراها قد تأرجحت وترنحت؟..اين العزيمة العالية؟..أين الحماس المتوقد؟..أين من كنت استحقر نفسي عند همتهم؟..انسيتم رحلتنا..؟؟انسيتم وعودنا؟..مابالكم يا اخوتي؟..انها رحلتنا.. انها سفينتنا...من سيقودها؟..من يراعي سيرها؟..من يداعب مجاديفها؟..من يربت على اشرعتها؟..ما بالكم ياقوم؟..

قال هذا الكلام بعد أن لاحظ انه بعد اليوم العاشر أن القوم ليسوا هم بالذين بدأوا بالإبحار معه..فالسفينة قد تباطأت سرعتها..قطعة من الشراع قد تمزقت..جانب من السفينة قد تعرض لثقب صغير..وإذ لم يتداركونه ربما سيؤل هذا الثقب الصغير الى جرح غائر..وحينها..ستتعرض السفينة لخطر الغرق..


اخذ القبطان يطوف ارجاء السفينة..لم يخطر بباله أنه سيتعرض لمثل هذا الموقف..فالموقف ينبئ بحدوث امر جلل..وبينما هو يجول ببصره..تفاجأ بأن هناك ثلة مازالت في حركة دؤوب..أخذ يخطو تجاههم بخطوات واسعة ..بطيئة..اقترب منهم..توجه اليه احدهم..فوقف مبتسماً..وقال: مرحباً ايها القبطان..مابالي اراك على غير عادتك؟..وكأنك تفكر بشيئ ما...مابالك..؟؟..سكت القبطان برهة..ثم قال:وكأنك قد قرأت الذي بعقلي..نعم..إني أفكر بشيئ اجده جداً مهم..وإذا لم نتدارك الأمر ..أشك بأن كارثةً ستحصل..قال الرجل فزعاً: أعوذ بالله من الكوارث..مابالك يارجل.؟؟قل لي لقد تملكني الذعر..؟!!..أجاب القبطان: أخي..إن الحياة لم يُعرف عنها بانها تعطي عطاءً يغني من هم ساكنيها بلا مقابل..فكلنا نعرف بأنه على قدر الجهد الذي تبذله على قدر النتائج التي ستحصل عليها..الحياة يا اخي عبارة عن قنطرة..ستنقلنا من مكان الى مكان آخر..لم يشتهر عنها بأنها أخلدت ساكنيها..انها كسفينتا هذه..ان لم نحسن الإبحار بها..ونرعاها..ونتبع خطة سيرها سيؤدي هذا الأمر الى نتيجتين لاثالث لهما..إما ان نضيع في غياهب البحر..أو نغرق..وفي كلا الحالتين سنموت..وطبعاً..لا أعتقد بأن من على متن السفينة يرضى بأن يحدث له مثل هذا..وهذا بالضبط الذي يحدث على متن سفينتنا..انتهى القبطان من كلامه...وقف الرجل واجماً..لم ينبس ببنت شفه..أغمض عينيه..وكأنه يسترجع لحظاتهم لحظة بداية ابحارهم..تذكر..كم كانوا سعداء حينما سنحت لهم الفرصة بالإبحار ..تذكر..كم شخصٌ فاتته هذه الرحلة..كم عددهم؟..عشرة؟..عشرين..؟لا..بل أكثر..مئات..تذكر بأن فرصته هذه ربما ستكون الأخيرة..فهو كغيره من البشر..لايملك من عمره شيئا..رفع الرجل رأسه ببطء..ونظر الى القبطان نظرة من يريد الكلام ولا يستطيعه..أدار ظهره واتجه تجاه صندوق كبير كان يسند ظهره عليه..نظر اليه القبطان نظرة المشفق..ياليتني لم أخبره..يقوله القبطان في نفسه..لم اجد إلا هذا الشخص..!!..سحقاً..يا لغبائي..جلس الرجل مستنداً الى صندوقه..رفع رجليه.. ودفن رأسه بينهما..وكأنه قد أصيب بمصيبة..جلس القطبان بجانبه..يريد أن يحدثه..لكن حروفه تبعثرت..لم يستطع الحديث..يريد أن يتكلم..ينعقد لسانه..كم يشعر بالأسف تجاه هذا الرجل..ليته لم يحدثه..ليت رجله لم تسوقه اليه..ترتجف شفتيه ..تتلعثم..ينتبه اليه الرجل..رفع رأسه ونظر الى القبطان..سكت برهةً..ثم قال:سيدي القبطان..لاتظن بانك أغضبتني بكلامك..لاوالله..والله لم تسيء الي قيد انملة..ولكني تذكرت حينما تذكرت ..بأني ربما لن أركب البحر مرة أخرى..ربما ستكون هذه الرحلة آخر رحلة لي..تذكرت..ربما قد ضعفت همتي وقل عملي بدون وعيٍ مني..مع إني أبذل قصارى جهدي..ولكن..إسمي يظل: إنسان..يجري الشيطان في عروقي أكثر من جري دمائي بها..ربما لم تكن هناك دماء..ربما هي مجرد أوهام من الشيطان ..ليوهمني باني على قيد الحياة..وبأني أعمل..وبأني ربما أحسن القوم في عملهم..وأخاف بأن أكون مجرد جسد اجوف..يحركه الشيطان كيفما يريد..ولكن..كلي ثقة بالله العظيم بان يتولاني برحمته..نظر القبطان اليه وعيناه تبحر في بحر من الدموع.. كحال سفينته..سالت الأولى..تبعتها الثانية..والثالثة..أخذ القبطان بطرف كمه..ومسح ماتناثر من دموعه..ونظر الى الرجل..وارتسمت على وجهه ابتسامة لطالما اشتاقت له..وهنا ..زال رباط شفتيه..وكأن ثقلاً قد أزيح عن كاهلها..فتسابقت قائلة: اخي..لن أخاف..لن أشعر بالإحباط..لن تموت همتي..لن تضعف عزيمتي..مادام أن في السفينة رجلٌ مثلك..أحسبك والله حسيبك..ولا ازكي على الله احدا..استدار القبطان من لحظته..وكأن ألف روح قد دبت بجسده..اتجه الى حيث الكل يسمعه..تسبقه حماسته..ويحدوه أمله..بأن ماحدث كان حدثاً عابراً..وقف في منتصف سفينته..وقال رافعاً صوته..وكأنه نطق بألف حنجرة: يــــــــا طاقم السفينة..يــــــا أفراد المركب..لمَ اليأس؟..لمَ الخنوع..؟هذه سفينتنا..لا لن أعيدها عليكم مرة أخرى..مازال هناك من الوقت متسع..أنت..قم وسد الثقب..أنتم..قوموا وأصلحوا الشراع..أنتم..قوموا وأصلحوا الدفة..هيــــــا ..لا أريد أن أرى متكاسلاً...أنتم يامن تنامون ..أنتم يا أبطال الموائد..اليس فيكم رجلٌ رشيد..؟!!أليس فيكم روح تتنفس..؟؟!!أليس منكم من يهزه حيائه؟..أيها الغافلون..أيها النائمون..لاتجعلوا بطونكم أكبر همومكم..نحن لم نُخلق لنأكل..نحن خُلقنا لنعمل..وسيجزى كل عامل بعمله..أليس فيكم رجلٌ رشيد..!!.


.سمعه أحد الرجال الذين توسدوا أطباق طعامهم..أنزل رأسه ..ونظر الى صورة وجهه المنعكسة في قعر طبقه..كم هو كالحٌ وجهي..سحقاً..يقوله الرجل..ما الذي فعلته؟..هل أصبحت كالبهيمة.!!لاهم لها سوى أن ترعى الكلأ..؟!!ادار رأسه الى رفاقه..كم أنتم رفقاء سوء..ياترى...كيف أعوض مافاتني؟..كيف أعتذر الى رفاقي؟..كيف أقابلهم؟..والله منذ بداية الرحلة لم أرهم..هم يعرفوني..ويعرفون بأني هنا..ولكن.!!لماذا لم يسألوا عني..؟..هل هو الخوف من الإحراج؟..!!آآآه..كم أخطأت في حقهم..قال هذا الكلام في نفسه..ووقف وهو ممسكٌ بطبقه..تكاد يده أن تهشمه..ومالبث حتى سرت في جسده رعشة قوية..فصرخ وهو يقذف بطبقه: كلااااااااا..لست بهيمة..!!..قال هذا الكلام..وولى خارجاً من سرداب السفينة..وهو يصعد عتبات الدرج..تتلقفه خيوط الشمس..وكأنها ترمي اليه بطرفها..هيا ..امسك بي..اتبعني..فهنا النور..فهنا النور..أخذ يسابقها..يريد أن يمسكها..وهويمد يديه..هاهي..تعالي..أمسكتك!!..فوصل الى سطح السفينة..يااااااااه..ما أجمل نسيم البحر..قاله والهواء يداعب شعره..وينفح مسامعه..ياااه..طيور نورس..!! ما اجملها..صوت البحر..ما أروعه..وكأنه يشاهده للمرة الاولى في حياته..أغمض عينيه..وهو يستنشق نسيم البحر..بكل قوته..وكأنه يريد أن يفجر رئتيه..شعر بيد تمسك كتفه من خلفه..ادار ظهره..وإذا بقبطان السفينة ..يصافحه بابتسامته..!!





يتبع..

معتز الشمالي
07-29-2013, 11:15 PM
واشرفت الرحلة على نهايتها..بل هي نهايتها..وترائت في الأفق أنوار المرفأ الأخير..الذي هو ختام الرحلة..نعم..قرابة الثلاثين يوماً..وهم يجوبون البحر..كم قابلتهم عاصفة..كم انكسرت مجاديفهم..كم تمزقت اشرعتهم..كم مالت بهم سفينتهم..كم أوشكت على الغرق..كم يئسوا من رحلتهم..كم وكم وكم ..أحداث..وذكريات..تكاد من كثرتها أن تمزق شريط الرحلة الذي عج بمثلها..

وقف القبطان على سارية في مقدمة سفينته..وهو يمسك بمنظاره الذي اعتاد أن يرى به ماوراء الأفق..القى نظرة كاثبة من منظاره..هاهو المرفأ الأخير..كم اشتقت اليك..يقوله القبطان في نفسه وكأنه يحدثه..أرجع منظاره الى داخل جيبه..ووثب من على السارية التي كان يقف عليها..قابله أحد الطاقم..فقال له: سيدي القبطان..نظر اليه القبطان وقال: ماذا هناك يا أخي.؟..قال الرجل: سيدي..لا أعرف ماذا اقول..ولكن!!..سكت الرجل..وكأن الكلمات توقفت ..أحس بغصة في حلقه..حاول ان يكتم عبراته..وهو يدافعها..ولكنها تمكنت منه..وأخذت دموع الرجل بالنزول كقطرات الماء على خده..ذهل القبطان مما رأى..أمسك بكتفي الرجل وقال له: مابالك يا اخي؟..لماذا تبكي؟..هل اصابك مكروه..؟؟قل لي بالله عليك..أخذ الرجل ينشج..وهو يرد دمعة وينزل عشراً..فقال له: لا لا شيء..رد عليه القبطان: لاتكذب..دموعك لم تنزل عبثاً..قل لي مابك؟..قال الرجل: سيدي..منذ أن بدأت رحلتنا..ومن أول يوم..أخذت على نفسي عهداً بأن أكون من أنشط القوم واجلدهم صبراً ومثابرةً على العمل..وعلى بذل الخير والسعي فيه..وأشار بيده الى من كانو معه: هؤلاء اخوتي..ثلاثون يوماً ونحن ننام سوياً ..ونستيقظ سوياً..عملنا معاً..أكلنا معاً..إذا تقاعست شدوا همتي..وشحذوها..وإذا نسيت ايقظوني من غفلتي..وبتروها..كم جمعتنا أمواج البحر ..شربنا هوائه..تدثرنا بسحابه..ونمنا على انفاس هديره..وهانحن الآن..على مشارف نهاية رحلتنا..وتقول لي لماذا ابكي؟..نظر القبطان اليه..وكأنه غاص في مقلتي الرجل..كأنه يرى الدموع داخل عينيه قبل أن تخرج..كم هو محظوظ هذا الرجل..يقوله القبطان..ليتني مثله..اجابه القبطان: أخي..والله لن أكذب عليك حينما أقول لك كلنا ذلك الرجل..لاتظن باني سعيد بنهاية رحلتنا..نعم..لاتظن ذلك..ووالله إني لفي حزن شديد..وحتى لو رأيت البسمة على ثغري..ليست إلا بسمة مصطنعة..لا أود بأن يراني الجميع وأنا أتثلم الحزن..وأحطم وجهي بالعبوس..ولكن الحقيقة..هي أن الحزن قد تمكن مني..قال هذا الكلام بعد أن أغرورقت عيناه بالدموع...ثم أردف قائلاً: حينما أتذكر بداية رحلتنا..كنت أقول في نفسي بأن هذه الرحلة ربما سيعتريها نوع من اللامبالاة..كباقي رحلاتي السابقة..ولكني تفاجأت بأن هذه الرحلة حبلى بالمفاجآت..كنت أقول في نفسي: أين أنا من كل هذا؟..لماذا لم أستكشفه من قبل؟..ووجدت الجواب يصفعني بقوة..نعم..إنها الغفلة يا اخي..كم كنت غافلاً..كنت أنوي بان أقضي رحلتي هذه بتحريك الدفة فقط..لم أكن أنوي الزيادة على ذلك..ولكن..,لحسن حظي..إني وجدت ضالتي فيكم..نعم..انتم والله من كنت أبحث عنهم..أنت من أدار السفينة هذه وقادها..انتم من فرد أشرعتها..انتم من اعتنى بها..أنتم كل شيء في هذه السفينة..بل أنتم السفينة..السفينة التي ستبحر بعون الله بكل ثقة واطمئنان..وبكل جسارة وسؤدد ..لايقف في وجهها حاجز مرجاني..لاتهزها الرياح العاتية..لاتنكسر مجاديفها..لاتتمزق أشرعتها..وبعد كل هذا..هل تصدقني حينما قلت باننا كلنا ذلك الرجل؟..






نعم..والله كلنا ذلك الرجل..وإننا على فراقك يارمضان لمحزونون..ها أنت قد تصرمت أيامك..وانقضت دقائقك..وأصبحت في عداد الموتى..لا لن تموت..بل نحن الذين سنموت..وأنت ستحل ضيفاً على أناس غيرنا..ياترى؟؟..هل سيجعلونك مجرد شهر كباقي الشهور؟..هل يهينونك؟؟..هل يجعلونك شهراً لموائدهم؟..هل يتسابقون فيك الى شاشاتهم؟..هل يجاهرون فيك بمعاصيهم؟..هل لايقيمون لك وزناً؟..هل وهل ؟؟





وكأنك ستجاوبني..وكأني أسمع كلماتك تداعب أذني..وكأني اسمع أنينك..بكائك..وكأني أرى دموعك..ليت لي القدرة على مسحها؟..ولكن..ليس بيدي حيلة..




..رمضان..هل تسمعني..!! أجبني !!..قل لي..هل كرهتني في الله يوماً؟..هل خنت الله فيك؟..هل مزقت أيامك لهواً وفجوراً؟..هل استحقيت في يوم من أيامك بان أكون: صـــائماً؟؟..نعم..لقد توقفت عن الأكل من الفجر الى غروب الشمس..والله لم يدخل في جوفي شيء خلال نهارك..ولكن..لا ادري..هل دخل في قلبي شيء منك؟...هل دخل في عيني شيء منك؟..هل دخل في أذني شيء منك؟..





رمضان...لاتجبني عن اسألتي السابقة..عندي سؤال واحد فقط..أريد جوابه..





رمضان..هل تعتقد أني سأعيشك في العام المقبل؟؟...







انتهت..

لمياء العرادي
08-02-2013, 08:32 AM
لم أعلم بأني أقراها
في أخر جمعة من رمضان ....


أكثر ما أفتقد في رمضان ..

تلك الملامح التي تاتي من كل بلد .
لتصطف بجانبي وجانب أهلي في كل يوم من رمضان

خلف شيخ واحد ...

أجواء روحانية .. نفتقدها .. في كل شهر عدا رمضان ..

وإن أفتقدناها في رمضان ... فقد ماتت روح الإيمانية فينا ..

ولسؤال الذي يبقى معلقا لدي ...

لما نبكي على ذلك الرجل ... أليست السفينة هي ما جعلتنا بذالك القرب
والقبطان كان ليس سوى محفز ...
لما لا يمتلك كل رجل في كل شهر سفينة تحافظ على روحانيته وإيمانه

أحترامي

ابوقضاعة
08-03-2013, 10:37 PM
ويل لنا كادت الرحلة تنتهي وكل ما استطعناه التخمة..جميل ما سطر قلمك.....

معتز الشمالي
08-04-2013, 07:03 PM
لم أعلم بأني أقراها



في أخر جمعة من رمضان ....



أكثر ما أفتقد في رمضان ..


تلك الملامح التي تاتي من كل بلد .
لتصطف بجانبي وجانب أهلي في كل يوم من رمضان


خلف شيخ واحد ...


أجواء روحانية .. نفتقدها .. في كل شهر عدا رمضان ..


وإن أفتقدناها في رمضان ... فقد ماتت روح الإيمانية فينا ..


ولسؤال الذي يبقى معلقا لدي ...


لما نبكي على ذلك الرجل ... أليست السفينة هي ما جعلتنا بذالك القرب
والقبطان كان ليس سوى محفز ...
لما لا يمتلك كل رجل في كل شهر سفينة تحافظ على روحانيته وإيمانه



أحترامي




نحنُ نبكي سفينة رمضان وحُق لنا ان نبكيها. فالذي حباهُ الله جل وعلا لليالي رمضان دون غيرها من الشهور كفيلٌ لان نُريق من أجله المُقل.
القبطان كان هو " الضمير الحي" الذي يسكن بدواخلنا. والذي لايفتأُ إلا وأن يصطدم بما هو يُثبِّطُ من همّته.
الكلُ منا يمتلك تلك السفينة. ويُمسك بتلك المجاديف. ويخوضُ البحر. فالسفينة هي إسلامُنا. والمجاديف هي سُنّة نبينا صلى الله عليه وسلم. والبحرُ هو حياتنا الدنيوية. إن نرجو السلامةَ لابُد أن نسلك مسالك السلامة. والتي تمتثلُ باتّباع سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم. وإلّا. فقاعُ البحر اولى بنا.

شُكراً لمياء..وأسئلُ الله أن يمُد في عمرك على طاعته اعواماً مديدة.

معتز الشمالي
08-04-2013, 07:05 PM
ويل لنا كادت الرحلة تنتهي وكل ما استطعناه التخمة..جميل ما سطر قلمك.....

الله المستعان يا أبات قُضاعة. نسئلُ الله القبول..

انرت متصفحي ..
شكراً لبوحك..

لمياء العرادي
08-09-2013, 01:20 PM
نحنُ نبكي سفينة رمضان وحُق لنا ان نبكيها. فالذي حباهُ الله جل وعلا لليالي رمضان دون غيرها من الشهور كفيلٌ لان نُريق من أجله المُقل.
القبطان كان هو " الضمير الحي" الذي يسكن بدواخلنا. والذي لايفتأُ إلا وأن يصطدم بما هو يُثبِّطُ من همّته.
الكلُ منا يمتلك تلك السفينة. ويُمسك بتلك المجاديف. ويخوضُ البحر. فالسفينة هي إسلامُنا. والمجاديف هي سُنّة نبينا صلى الله عليه وسلم. والبحرُ هو حياتنا الدنيوية. إن نرجو السلامةَ لابُد أن نسلك مسالك السلامة. والتي تمتثلُ باتّباع سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم. وإلّا. فقاعُ البحر اولى بنا.

شُكراً لمياء..وأسئلُ الله أن يمُد في عمرك على طاعته اعواماً مديدة.



أسئت الفهم في بداية الأمر ...

وكما قلت لنا كل الحق بأن نبكي على رمضان ...
ولكن الهمم والضمير الحي كالبذرة
إذ لم تلقى الرعاية والأهتمام فتموت ..

"أسئلُ الله أن يبعد عنك كل سوء بلاء "

معتز الشمالي
08-11-2013, 02:19 PM
أسئت الفهم في بداية الأمر ...



وكما قلت لنا كل الحق بأن نبكي على رمضان ...
ولكن الهمم والضمير الحي كالبذرة
إذ لم تلقى الرعاية والأهتمام فتموت ..



"أسئلُ الله أن يبعد عنك كل سوء بلاء "


صحيح يا طاهرة..
اثريتي موضوعي ..شكراً لك..