المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صفحات من التاريخ ظاهر العمر: ملك الجليل الذي أربك السلطنة العثمانية ..؟؟



ماجد سليمان البلوي
03-06-2018, 11:28 PM
صفحات من التاريخ ظاهر العمر: ملك الجليل الذي أربك السلطنة العثمانية وأغفلته المناهج العربية..؟؟

منطقة بلاد الشام، كانت من أهم مناطق الإمبراطورية العثمانية الكبرى، ولكن الواقع أن في هذا الوقت من تاريخ العثمانيين، بدأت الأمور بالخروج من أيديهم لصالح القوى المحلية.

فبعد عهود الولاة المبعوثين من الباب العالي، جاء عهد الأسر المحلية القوية، التي حكمت وتوارثت الحكم، وإن حافظت على الولاء الاسمي للسلطان العثماني—خاصة ما يتعلق بالحقوق المالية، وانهمكت تلك الأسر في لعبة الصراعات والتحالفات فيما بينها… على رأسها آل العظم في سوريا، الشهابيون في جبل لبنان، والزيدانيون في شمال فلسطين.

أصغر الأخوة يرث الحكم
كان الزيدانيون قد نزحوا إلى الجليل في فلسطين قبل ذلك العهد بنحو نصف قرن، وتقرّبوا إلى الفلاحين ودعموهم ضدّ أحد عتاة جامعي الضرائب، وكان من الدروز، وتغلبوا عليه، فانحسر النفوذ الدرزي في منطقة الجليل وتصاعد النفوذ الزيداني.

قام الأمير بشير الشهابي في العام 1698م بتكليف الشيخ عمر الزيداني بجمع الضرائب في صفد ومحيطها، وكان هذه المهمة تترافق مع إطلاق يده في حكم هذا القطاع، لم يعمر الشيخ عمر في منصبه سوى خمس سنوات، فقد توفي في العام 1703م، وخلفه أصغر أبنائه المدعو “ظاهر”، وكان في الرابعة عشر من عمره.

وكان سبب ذلك رغبة أخوته بالتنصل من أية التزامات مستقبلية متأخرة بإلقاء تبعتها عليه، وكذلك فقد تأملوا أن يتخذوا من الفتى ستاراً ليحكموا من وراءه.

قضى ظاهر العمر نحو عقدين من الزمن يوطد سلطته في صفد، وبدأ يتصرف كما يتصرف الملوك، فاتخذ حاشية وأسس نظاماً عسكرياً وسياسياً وإدارياً لمنطقة حكمه، وأشرك إخوته في أمور الإدارة.

وكان خلال ذلك يصطدم بملتزمي الضرائب في المناطق المحيطة، لكن جدارته في حفظ الأمن وتقديم الالتزامات المطلوبة كانت تدفع والي صيدا لتدعيمه وضم التزامات منافسيه إليه، وفي عقد الثلاثينيات من القرن الثامن عشر، بدأت طموحاته تقلق كلاً من الأسر المحلية المنافسة والسادة في الأستانة.

الصراع مع ولاة دمشق
في ذلك الوقت كان ظاهر العمر قد اصطدم ببعض حلفائه من البدو خلال محاولاته فرض الأمن، فقد مارس بعضهم أعمال الاعتداء فسارع ظاهر لقمعهم، فردوا عليه بأن حالفوا آل جرار وآل ماضي زعماء نابلس التي كان الزيدانيون يحاولون ضمها لدولتهم، ولأن نابلس كانت تابعة إدارياً لدمشق فقد اتخذ الوالي “سليمان باشا العظم”—عميد آل العظم—من اعتداء الزيدانيين عليها ذريعة لمهاجمة ظاهر العمر.

احتاط هذا الأخير بتحصين قلعة طبرية التي هاجمها جيش سليمان باشا وحلفاؤه عرب بنو صقر—أصهار ظاهر العمر وحلفاءه القدامى—في عام 1737م، لكنهم أخفقوا في إسقاطه، وإن نجحوا في أسر أخيه “صالح” الذي حمله سليمان باشا إلى دمشق وشنقه هناك.

وتكررت هجمات سليمان باشا العظم، ولكنه هذه المرة أراد أن يحكم الخناق على خصمه، فسعى لتعيين ابني أخيه إبراهيم باشا وأسعد باشا على حكم صيدا—التابع لها ظاهر رسمياً—وقد نجح في هذا بالفعل وحكماها على التوالي.

وفي عام 1742م خرج على رأس حملة لمداهمة ظاهر العمر، وانضم له بعض الزعماء المحليين المعادين للزيدانيين، وضربت القوات المتحالفة الحصار على طبرية لمدة ثلاث أشهر، إلا أن انعدام التنسيق بين الحلفاء، مقابل انضباط قوات المرتزقة التابعة لظاهر العمر، إضافة لتمكن هذا الأخير من تلقي المؤن خلسة رغم الحصار، كل تلك العوامل أفشلت الحصار ودفعت سليمان باشا للانسحاب بذريعة اضطراره لقيادة رَكب الحجيج الشامي.

أما الهجمة الثالثة—والأخيرة— لوالي دمشق فقد جاءت في العام التالي، حيث عاد سليمان باشا وبصحبته قوات عثمانية داعمة، وحاول هذه المرة تغيير الخطة بأن سعى لحصار حصن “دير حنا” التابع لقلعة طبرية.

وكان يقوده “سعد” أخو ظاهر، بهدف قطع التواصل بين الحصنين وضرب الروح المعنوية للزيدانيين، لكن سليمان باشا توفي فجأة فاضطرت القوات التابعة له وتلك العثمانية الداعمة للانسحاب ورفع الحصار.

بعد وفاة سليمان باشا خلفه ابن أخيه أسعد باشا العظم، وبعكس عمه كان الوالي الجديد راغباً في تهدئة الأوضاع مع الزيدانيين.

وكذلك فعل والي صيدا الذي سالَم ظاهر العمر إلى حد إعطاءه مدينة عكا سنة 1746م مضافة إلى التزامه، فنقل ظاهر عاصمته من طبرية إلى عكا.

في تلك الفترة الآمنة كانت الأوضاع المالية للزيدانيين قد انتعشت جداً بحكم سيطرتهم على تجارة المحاصيل، وعلى رأسها القطن، مع التجار الأوروبيين وخاصة الفرنسيين، مما مكن ظاهر من تطوير قدراته العسكرية وتسليح جيشه.

كما حرص على إرسال المستحقات المالية إلى السلطة في إسطنبول تأكيداً على ولائه، بل وقبض على بعض الجند الإنكشارية الهاربين وأعدمهم وأرسل رؤوسهم للباب العالي تدليلاً على طاعته.

في عام 1756م عيّن العثمانيون “حسين باشا مكّي” والياً على الشام، في إشارة واضحة لتجدد رغبتهم في القضاء على الزيدانيين، وحاول حسين باشا التحرش بهؤلاء باتهامهم بالمسؤولية عن هجوم وقع على قافلة الحج الشامية، إلا أنهم نفوا ذلك بل وقدموا أدلة لتبرئة ساحتهم دون جدوى.

ثم في عام 1760م وضعت إسطنبول عثمان باشا الكرجي على ولاية دمشق، فسعى لتعيين ابنيه على كلّ من صيدا وطرابلس ليكونا بمثابة “كماشة” على ظاهر العمر.

كان التحالف مع علي بك الكبير، مع حلول عام 1770م، ففي ذلك الوقت كان علي بك الكبير المملوكي المستولي على حكم مصر قد تمرد على العثمانيين وقرر غزو الشام، وبالفعل فقد احتلت قواته غزة والرملة.

وكان كلّ من ظاهر العمر وعلي بك يشتركان في العداء لعثمان باشا الكرجي، فتحالفا.

وساهم هذا التحالف إضافة لسخط الأهالي على عثمان باشا في سرعة سيطرة قوات علي بك على فلسطين، وانضمام بعض القوى الصفدية والشيعية لجيش التحالف “الظاهري–المصري” حتى استطاع الحلفاء احتلال دمشق في عام 1771م والتي كان عثمان باشا قد غادرها قبلها.

عدوّ عدوّي: التحالف مع المماليك والقوى الصفدية والشيعية
إلا أن مفاجئة قد وقعت، فبعد عشرة أيام من السيطرة على المدينة قام محمد بك أبو الذهب، قائد قوات علي بك، بالانسحاب من دمشق بعد توصله إلى اتفاق مع العثمانيين على خلع سيده مقابل تولي مصر مكانه.

أدى هذا لأن وجد ظاهر العمر نفسه “في وجه المدفع” بمفرده، رغم تمكنه من تحقيق بعض الانتصارات كالاستيلاء على صيدا، وزاد حرج موقفه فرار علي بك إليه لاجئاً وتحول القوات المصرية من حليف إلى مصدر تهديد يمثل الطرف السفلي من “الكماشة”.

ورست سفن العثمانيين في بيروت استعداداً لمداهمة صيدا.

وتجنباً لهذا التهديد الأخير سارع ظاهر العمر وعلي بك للتواصل مع الكونت أورلوف قائد الأسطول الروسي في المتوسط، وطلبا منه ضرب ميناء بيروت لمنع العثمانيين من مهاجمتهم، وبالفعل فقد قصفها الأسطول الروسي وأنزل قواته فيها، لكن الروس انسحبوا بعد خمسة أيام، وسارع الأمير الشهابي لطلب النجدة العثمانية، فأُرسِلَت له ومعها أحمد الجزار الذي سيصير يوماً والياً للشام.

بعد ذلك انفصل علي بك عن حليفه “سيد الجليل وعكا” واتجه إلى مصر في محاولة لاستردادها من محمد بك أبو الذهب، لكنه هزم ولقي مصرعه بعدها متأثراً بجروحه، وأبرم العثمانيون مع الروس اتفاقية السلام عام 1774م، فصار بقدرتهم أن يتفرغوا لذلك المشاغب الذي دوخهم كثيراً.

كانت هذه بداية النهاية لظاهر العمر، وبتكليف من الباب العالي، قام محمد بك أبو الذهب بالخروج بجيش تعداده 60000 مقاتل لغزو فلسطين وإسقاط الزيدانيين.

وأخذت مدن “دولة” ظاهر العمر تسقط في يد المصريين واحدة تلو الأخرى، حتى اضطر للهرب إلى جبال صفد، وفي عاصمته عكا دخل جيش أبو الذهب وأوقع مذبحة مريعة بأهلها.

لكن أبو الذهب بك توفي متأثرًا بالحمى، فانسحب قواته وعاد ظاهر العمر لعكا محاولًا إنقاذ ما يمكن إنقاذه، إلا أنه فوجئ بالأسطول العثماني على رأسه القبودان حسن باشا يضرب المدينة بالمدافع.

هنا حاول كل طرف النجاة بنفسه، وانفض عن ظاهر العمر حلفاءه بل وحتى أبناءه، وسقط في النهاية قتيلاً على يد قائد قواته، أحمد أغا الدنكزلي.

ماذا بقي من تراث ظاهر العمر؟
لماذا لا يذكر ظاهر العمر عند سرد تاريخ الفترة العثمانية، أسوة بحكام بحجم نفوذه، مثل علي بيك ومحمد علي باشا؟ عدة أسباب قد تقف وراء ذلك:

فمن ناحية “المركز” الذي شغله ظاهر العُمَر، وإن سيطر فعلياً على مساحة واسعة من الأرض، وعلى مواقع شديدة الأهمية، إلا أنه في مواجهة “السادة” العثمانيين لم يكن رسمياً سوى “شيخ قبلي محلي” وليس من فئة “الباشاوات” الذين تخاطبهم الأستانة مباشرة.

والملاحظ أن العثمانيين في حربهم ضده كانوا يوكلون بعض هؤلاء “الباشاوات” للتعامل معه، فكأنه ليس الخصم الذي تسمح الكرامة العثمانية بالاعتداد به.

من ناحية ثانية فإنه –بخلاف كلّ من علي بك الكبير ومحمد علي باشا كمثالين– لم يهدد المصالح العثمانية مباشرة، ولم ينشق عن الدولة صراحةً.

فعلي بك خرج من حدود ولايته وحاول ابتلاع ولاية مجاورة وأعلن الانشقاق بشكل صريح، ومحمد علي باشا هدد العاصمة العثمانية ذاتها، فتصنيف ظاهر العمر إذاً أنه “من العصاة” وليس من كبار المتمردين.

كذلك فرغم إبرام الشيخ ظاهر اتفاقات تجارية مع الأوروبيين خاصة فرنسا إلا أنه يبقى مجرد “زعيم محلي”، وليس صاحب سياسة خارجية مستقلة تستدعي انتباه القوى العظمى، كمحمد علي باشا.

ولا هو حليف محلي لبعض تلك القوى مثل علي بك الكبير الذي حالف الروس.

وحتى خلال توغل علي بك في الشام واجتياحه سوريا فإن ظاهر العمر بدا في تحالفه معه بمثابة “التابع” أو “صاحب الدور الثاني” وليس “الحليف المساوي في المكانة”.

وثمة تفسير آخر يمكننا أن نقرأه من بين السطور، هو أن تسليط الضوء على ظاهر العُمَر كنموذج للمتمرد المحلي، يتطلب بالضرورة إبراز أهم أعماله “التمردية” أو “المارقة”، وهي أعمال تُظهِر السلطة العثمانية مظهر الضعف خاصة مع طول الفترة الزمنية التي كان ظاهر العمر فيها يحتل موقع الحاكم الفعلي لما تحت يديه.

إذاً فالمؤرخ العثماني–أو المتعاطف مع فكرة “ولي الأمر” العثماني لن يجد في عرضها أمراً إيجابياً ولا رسالة مفيدة بقدر ما قد يجد في ذلك ما يخدش هيبة الحاكم، وهو أمر مفهوم بالنسبة للمؤرخين الأتراك، ولكن ليس بالنسبة للمؤرخين العرب، خاصة الذين أرخوا للفترة العثمانية وهم خارج سلطتها.

كل ما سبق قد يفسر اختفاء قصة ظاهر العمر الزيداني بين طيات كتب التاريخ وعدم إبرازها كقصص أقرانه من الزعماء المحليين الذين دوخوا السلطة العثمانية.

جدير بالذكر أن قصة “ظاهر العمر الزيداني” قد قدمها الأديب الفلسطيني إبراهيم نصر الله في روايته “قناديل ملك الجليل” متناولاً أدق تفاصيل حياة هذا الرجل

المصادر:
فلسطين في عهد العثمانيين، عبد الكريم رافق؛ العرب، يوجين روجان؛
تاريخ الشام الحديث والمعاصر، محمد سهيل طقوش؛
دراسات في تاريخ العرب الحديث، صلاح هريدي؛
تاريخ الأقطار العربية، لوتسكي..
ولكم تحيات
ماجد البلوي