المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحبل السري بين المغرب والجزيرة العربية في التاريخ والثقافة والعمارة



موسى بن ربيع البلوي
04-01-2006, 06:35 PM
س1

( موضوع لعل به شيء من الفائدة وقعت عليه أثناء البحث في الشبكة )



الحبل السري بين المغرب والجزيرة العربية في التاريخ والثقافة والعمارة - د. علي ثويني

يتضح من ضمن ما ذهبت إليه معطيات نظرية انفصال القارات الجغرافية بأن الجزيرة العربية والهلال الخصيب كانتا جزءاً من افريقيا في الزمان الغابر وتسني لهما أن ينفصلا عنها ويلتصقا في خاصرة آسيا الغربية مكونان عند اصطدامها جبال طوروس. أما وشائج القربي في الدماء بين القطرين فتعود إلي أولي الهجرات البشرية من الجزيرة العربية في العهد (النيوليتي) أو الحجري الحديث (5 ــ 7 آلاف سنة ق.م). وقد سرت العادة أن تتم تلك الهجرة من الجزيرة التي كانت نبعاً بشرياً لا ينضب ، ثم تسلك الجموع في تغريبها طريقين إحداها شمالي عن طريق سيناء ثم مصر والآخر طريق جنوبي عبر مضيق (باب المندب) ثم اختراق القرن الأفريقي باتجاه الغرب خلال السودان وتشاد (1) ثم الصعود بين كثبان رمال الصحراء ووهادها وهذا ما يؤكده (د.هنري فيلد). أما ما أورده (د.احمد فخري ) (2) في ذلك حيث ذكر قائلا: (وهناك حقيقة مهمة وهي أن خلال الألف الرابعة ق.م وصلت هجرات من جنوبي الجزيرة العربية إلي مصر و أفريقيا وكان هؤلاء المهاجرون علي قدر غير قليل من الثقافة).
ثم شهدت شمال افريقيا رحلات متتابعة عن هذين الطريقين للأقوام الحامية ومنهم المصريون والبربر والسامية ومنهم الكنعانيون والعموريون . أما الهكسوس (3) والعبرانيون (4) فقد أتوا مصر من سيناء ومكثوا فيها ردحا من الزمن وذابوا في جنباتها .وخلال تلك الفترة من الزمن شهد العالم انتقال نور الرسالات التوحيدية بين الشوطين . حيث جاء مصر نبي الله إبراهيم (ع) الأكدي الكلداني (العربي) (5) قادما إليها من فلسطين بعد أن وردها لاجئا من (اور) في العراق بعد المحرقة ، ليتزوج من السيدة هاجر الافريقية السمراء وينجب منها نبي الله إسماعيل (ع) (6) والذي كانت من ذريته ــ كما ذهبت إليه الكتب المقدسة والأساطير ــ أقوام العرب الذين شاءوا أن يرثوا الصوبين في آسيا وافريقيا تبعا لانحدار أجدادهم. ثم يليه نبي الله موسي (7) الأفريقي ذا السحنة السمراء ليعبر بشعبه الي آسيا قادما لها من مصر ثم ليتزوج أمة الله (كوشية). وأسم (كوش أو كوشي أو كوثي) هذا له دلالات حسب أساطير العهد القديم (التوراة) حينما يرد أنه من أبناء نوح الذين عاشوا الطوفان في العراق القديم ثم توجهوا نحو الغرب أي الي افريقيا لنشر الفكر التوحيدي.
ورد في ما كتبه المؤرخ المصري (هيرودوت) (حوالي العام 450 ق.م) ذكر بعض الفراعنة (العرب)، وأسهب في وصف هؤلاء الأجانب ودينهم الذي عم الأرض ومنها اليونان وآلهتهم التي جاءت صور عنها. ولقد ورد ذلك الخبر بعد حين في أخبار المؤرخ المصري (مانيتون) (حوالي العام 300 ق.م) وبأنهم كانوا عرباً. ثم ورد ما يؤكد ذلك في كتب المؤرخين العرب بما يسمي بـ(الفراعنة العرب) وقد ورد في تواريخ الطبري والفاكهي وابن الأثير والمسعودي وغيرهم من وجود هؤلاء في الحقب الفرعونية. وقد ورد في تاريخ ابن الأثير اسم (الريان بن الوليد بن مصعب) كأحد أبرز هؤلاء الفراعنة.
ومن الاكتشافات الأثرية التي تؤكد عمق الاتصال بين افريقيا الحامية والجزيرة العربية السامية هو فيما ذهب إليه باحثان أمريكيان هما (جون كولمان) و(ديبورا دارنل) والأخيرة امرأة تعد أطروحة للدكتوراه حول الآثار الفرعونية في جامعة (يال) الأمريكية. حيث عثروا علي كتابات منقوشة علي صخور كلسية وجدوها غرب منطقة (الأقصر) في صعيد مصر وبالذات في وادي (الهول) الواقع بعد وادي (الحلول) علي الضفة اليسري لنهر النيل بالقرب من (طيبة) العاصمة القديمة لمصر العليا والذي اشتهر بآثاره الفرعونية. وأكد الباحثان بأن الكتابات تعود الي مرحلة تاريخية تتراوح بين أعوام ــ 1900 ــ 1800 ق.م ــ وهي نفس فترة حلول النبي إبراهيم الي فلسطين ــ . والمفاجأة في ذلك هو أسبقيتها الزمنية بالمقارنة مع ما يسمي (خطوط سيناء) وربما تكون هذه الرقم الحجرية صلة وصل بين الهيروغليفية المصرية والأبجديات السامية التي انطلقت من الجزيرة العربية.
وتبدو تلك الرموز بأنها سامية ومجموع الأصوات والحروف والكلمات تشبه الي حد بعيد (اللغة الأكادية) التي تكلمها أقدم الساميين الذين هاجروا وسكنوا جنوب العراق. وقد تم ذلك الاكتشاف الرائد خلال أعوام 1993 ــ 1994 وتم التصريح بها وعرضها في 22 تشرين الأول (نوفمبر) عام 1999 في مؤتمر لمؤسسة (سوسايتي أوف بيداليكال ليتراتشور). وقد تم تمييز كلمة (رب) (8) التي تشير الي الإله أو السيد العربية.
ثم يردنا من أخبار الفينيقيين رواد البحر وجهابذته وهم من الكنعانيين القادمين من شرق الجزيرة العربية في الآلف الثالثة قبل الميلاد والذين استطاعوا أن يقيموا لهم مستعمرات علي طول الساحل المغربي ومنها قرطاجة ومالطة (9) وطنجة وطرابلس (10). وربما كان لإيثارهم كتمان سر فتوحاتهم ومواقعهم في هذه البقاع وخاصة بما يتعلق بطرق التجارة مع داخل افريقيا الذي أرادوا من خلاله تحاشي منافسة الغير لهم واطلاعهم علي سره وخاصة الرومان . وتشهد لنا كثير من قصص التاريخ علي تلك الفتوح غير المدونة مما حرمنا من أسرارها والتحقق من عمق روابطهم بمنطقة المغرب العربي ومما يثبت لنا ذلك أن آلهتهم كانت خلال تلك الحقب معبودة وتتمتع بالحظوة من لدن البربر سكان المنطقة.

مبالغة الدراسات الانثروبولوجية
وعروجا علي تلك التسمية فان كلمة البربر التي أطلقها الرومان جزافاً علي أهل المغرب التي أريد بها أن تكون كنية تميزهم عن الشعوب الأخري التي اعتقدوا بانها غير متحضرة، و في حقيقته ذلك نوع من الاحتقار والتفاضل غمزا. وقد ورث العرب تلك التسمية واستعملوها لفظاً وليس دلالة وقصداً. وكانت قد استعملت كلمة القبائل العربية ولا سيما في الجزائر وقسمها الفرنسيون بحذاقة إلي كبري وصغري بحسب أقاليمها. وتعمم اليوم كلمة (أمازيغ) وهي تعني الرجل الحر وهي الأنسب و الأكثر واقعية وصحة.
في عودة للدراسات الأنثروبولوجية والتي بدأ ضجيجها في أواخر القرن التاسع عشر وكان القصد منها تمهيد الأرضية للحقبة الاستعمارية التي شرعوا بها لاحقا والتي وصفها (جيرار لكلرك) (11) بانها (أصبحت أداة في يد السلطات الحاكمة في البلدان الأوربية التي كانت تشهد مع توسع البحث في الأنثروبولوجيا توسعا جغرافياً مذهلا حملها من جذورها الضيقة). وفي غلواء تلك الدراسات بدأ انتشار التسميات الأسطورية وذلك بتقسيم الشعوب الي الساميين و الحاميين اقتفاء بالأسطورة الواردة في العهد القديم (التوراة) والتي لم تجد ما يؤكدها علمياً أو يناقشها ويرد علي مغالطاتها ولا سيما عند تكريسها لتسمية اللاسامية التي يتشدق بها اليهود اختيالا يراد من ورائه التقوقع والمواربة ، بالرغم من كون العرب وسكان (القرن الأفريقي) ينتمون الي (السامية) تلك تماشياً مع ذلك التقسيم الساذج.
وفي خضم الطروحات العلمية (الأنثروبولوجية) الغربية التي وجدت لها صدي وهوي في بعض النفوس، والتي تضمنت البحث عن أصول البربر سكان المغرب القديم وربطهم بالغرب عنوة لنفس الأسباب الاستعمارية التي تبنتها فرنسا إبان تلك الحقبة حتي تمادوا في ذلك وكانوا يقولون أن البربر من أصول وندالية أو (غاليه gaulois Les) الذين هم أجداد الفرنسيين الذين يتشدقون بالفخر بهم، حتي لنتذكر في ذلك نشيد فرنسا الوطني في الايام الخوالي القائل (وطننا يمتد من الالزاس إلي تمنراست) وهي المدينة الطوارقية الواقعة في أقصي جنوب الجزائر.
وبنفس المنحي يؤكد هؤلاء العلماء بما لا يسمح بالدحض بان أقوام (البوشمن) و(الهتنتوت) وهم سكان جنوب افريقيا الاصليون قد جاءوها من الشمال الشرقي وبالتحديد من باب المندب والحبشة زاحفين هذا المدي الشاسع المتخلل بالجبال (كليمانجارو) والغابات والبحيرات الواسعة ليصلوا أقصي الجنوب، ويحّرمون بنفس الحين علي الأقوام السامية والحامية ذلك التواصل و السير قليلا وبدون ان تكون هناك ثمة عوائق تذكر من الجزيرة العربية إلي مصر والمغرب العربي خلال بطحاء من الأرض.

وصف افريقيا
ومن الطريف في سياق تصنيف أصول الشعوب ما ورد في دراسة للمخابرات الأمريكية جاءت بعد ندوة "علمية" عقدت في العام 1997 لدراسة تاريخ العراق (بعد حرب الخليج الثانية) توصل فيها (العلماء) إلي أن العراق بلد آرامي من أيام السومريين فقرأنا في وثائق تلك الندوة: السومريين الآراميين و الاكديين الآراميين ، الآشوريين الاراميين و الكلدانيين الاراميبن والآراميين الآراميين . ولم يدخل العرب في هذه السلسلة لانهم جاءوا من مصنفهم حاميين أي لا ساميين ولا سومريين أي صنواً مع شعوب مصر والمغرب وقد أصابوا في ذلك بالرغم من عدم رغبتهم بإثباتها وربما جاء معاكسا لرغباتهم . وهكذا يتجلي الهدف من التسميات ومدي توظيفها تماشياً مع اللعبة السياسية كما كان يوما مع الشعوب الهندية التي سميت آرية لتبرير الاستعمار البريطاني للهند، أو حتي ربط الكلدانيين والعراقيين القدماء مع أسكتلندا.
وفي الولوج الي معمعة التسميات فان اسم أفريقيا الدال اليوم علي كل القارة من شمالها حتي جنوبها كان يوما يطلق علي الجزء الخاص بتونس اليوم وقد حدده المؤرخ العربي البكري بانه اقليم يمتد من برقة حتي طنجة أي ما ندعوه اليوم بالمغرب العربي. وقد ورد في تاريخ (ابن خلدون) بان اسم أفريقيا متأت من اسم أحد ملوك اليمن القدماء المدعو (افريقوس بن قايس بن صايفي) وكأنه يريد أن يؤكد تلك الآصرة. أما (ابن الشّباط) فيقول انه وارد من اشتقاق الكلمة العربية بارق التي أصبحت فارق بسبب جوها وسمائها البارق والصافي والرائق . ويرد مصدر الاسم من كلمة (فرق) العربية كما تبناه بعض المؤرخين العرب وآخرهم (حسن الوزان) (12) الذي ورد في كتابه وصف أفريقيا الذي اختطه للفاتيكان في بدايات القرن السادس عشر الميلادي، حيث برر التسمية تلك لأن نهر النيل يفرقها عن أرض آسيا.
وكان العرب قد اسموا المنطقة المغرب وسكانها المغاربة وقسمها إلي أدني و أوسط وأقصي، ومن الطريف ذكره هنا أن سابقيهم من أجدادهم ونعني الآشوريين في العراق قد خضعوا لصيغة الاتجاهات السامية كذلك والتي أطلقوا بسببها اسم (غروبا) علي المناطق التي تلي آسيا الصغري و(بحر أيجا) والتي تعني وتنعت الغرب والذي حرف فيما بعد ابتداء من الإغريق و تدرج إلي كلمة (أوربا) المستعمل اليوم للدلالة علي اسم القارة بكاملها. ونجد لدلالات الكلمات ومعناها الرمزي ما يرد بمعني الهجرة والغربة في اللغة العربية من نفس الجذور،وهذه الكلمة لها دلالات اتجاهية صريحة تعني الغرب أي باتجاه أفريقيا.ونجد عكسها تماما في العقلية الغربية الأوربية التي تعتبر الهجرة والاتجاه لها هو الشرق حتي جاءت كلمة الاتجاه (Orientation) المشتقة من كلمة الشرق (Orient) .
وفي خضم انتقال البشر والفكر نجد أن المسيحية المولودة في كنف الأرض العربية في فلسطين ، لم تجد لها أرضا تطأها إلا في الهلال الخصيب واليمن و مصر والمغرب قبل حلولها في (جبال أتوس) في اليونان أو (روما) بأمد طويل. حيث نجد (القديس اوغسطين) وهو من أهالي مدينة قسنطينة الواقعة الان في الجزائر كان من أكثر المؤثرين في فلسفة الفكر المسيحي. وربما كل هذا يؤكد منطقية الزحف الإسلامي الفطري بهذا الاتجاه المطروق في السابق واقطع دليل عليه هو الانتقال الفطري لاوائل المهاجرين عام 615م هاربين من ظلم قريش نزولا لتوجيهات الرسول محمد(ص). وتبع ذلك لجوؤهم إلي النجاشي ملك الحبشة الذي يقال بسبب نصرا نيته وهذا مبرر ضعيف إذا تذكرنا أن النصرانية كانت منتشرة كذلك في شمال الجزيرة العربية وكان أسهل لهم أن يصلوا إلي الحيرة في العراق مثلا التي كانت تعج بالفكر السرياني النسطوري المسيحي أو حتي بصري أو حران في الشام أو القدس في فلسطين . وفي ذلك نتذكر الحظوة الاستثنائية التي كان يتمتع بها أصحاب السحن السمراء من المسلمين الأوائل القادمين من أفريقيا مثل بلال وسمية ومهجع.
وقد تبع ذلك حالة القبول بالعقيدة ولغتها وثقافتها بعد الفتح الإسلامي للمنطقة والانخراط بها علي عكس كثير من الشعوب التي انتقت لنفسها العقيدة بدون لسان العرب لبعده عن ذاكرتها التاريخية. حتي وصل العجب حد التساؤل لدي المستشرق الفرنسي (غوستاف لوبون) حينما ذكر في حضارة العرب عام1882: (إن ثلث اللغة البربرية من كلمات عربية وهو أمر طريف يثبت لنا مقدار تأثير العرب الذي لم يكتب مثله لأي أمة أخري ومن هذه الأمم الإغريق والرومان الذين دام سلطانهم في شمال أفريقيا دوام سلطان العرب وأكثر من غير أن يتركوا أي اثر في اللغة البربرية). وربما كان الأجدر بهذا الرجل المنصف أن يتعمق في جذور تلك الظاهرة ليجد لها مخرجا منطقياً مرتبطاً بالأصول المشتركة للجماعتين، وسلاسة التصاهر بينهما الحد الذي جعل أن تكون أم الخليفة المنصور العباسي وزوجه قيروانيتين مغربيتين، أو اختيار إدريس الأول (وليلي) قرب الرباط ملاذا له ولتابعه راشد البربري.
يحدثنا الأستاذ مولود آيت بالقاسم الوزير الجزائري المثقف والذي اخذ علي عاتقه مهمة التعريب في البلاد بعد الاستقلال بالرغم من كونه من الأمازيغ أو البربر والذي كان متوقد الذهن والجهد والضمير بهذا المنحي حيث سمعته قال يوماً: (كنت ضمن وفد يزور اليمن وكان مرافقي والسائق اللذين معي من أصول حميرية أو سبئية وكانا يتحدثان بلغتهما القديمة هذه فيما بينهما وكنت أصغي لها وافهم كثير من الجمل والمفردات حتي إنني واجهتهما بالأمر وفاجأتهما أيما مفاجأة عندما أخبرتهما بفهمي لفحوي حديثهما وبأني اشعر بذلك التشابه بين لغتهما ولغة البربر التي أجيدها). لو تكلف أحدنا وجهد واجتهد و أقام دراسة في اللغات المقارنة بين هذه و تلك سيصل حتما إلي فتوحات معتبرة في كشف الجذور المشتركة التي تجمع ثقافة المنطقتين التوأمين.

جدلية ابن خلدون
وعروجاً علي الجانب الاجتماعي للجماعتين فإن لتشابه طرق العيش لديهما أثر يلفت النظر فلكلاهما بدو وحضر وتنطبق عليهما بدون تردد جدلية ابن خلدون في البداوة والحضارة والانتقال بين شوطيهما، حتي انه كتب عن فحواها بالهام من ملاحظته لهم وعيشه بين ظهرانيهم فقال: (هذا الجيل من الآدميين هم سكان المغرب القديم ملأوا البسائط والجبال من تلوله و أريافه وضواحيه وأمصاره ويتخذون البيوت من الحجارة والطين ومن الخوص والشجر ومن الشعر والوبر). ولم يجد الرجل صعوبة في تفريق القياس لنظريته الاجتماعية هذه. ونجد في طبع الطوارق أو غيرهم من سكان الصحراء وتخومها في الجزائر والمغرب و هم بربر بداة مما يطابق الحس السيكولوجي لبداة العرب في الجزيرة من الحل والترحال ومن طباع التطلع إلي الغزو والسلب وكذلك الكرم والنخوة وما إليها من الصفات والخصال.
وابتعاداً عن تلك السيرة ذات الشجون ، وطرقاً لما هو ملموس أو باق أو مدون فقد شهد الدفق الحضاري بعد الفتح الإسلامي الذروة وشمل نظاماً شاملاً للحياة وتوج بحواضر لا تداني بالعظمة وسمو الشأن لم يأتِ التاريخ بمثلها سابقاً مثل القيروان وسجلماسه وفاس ومكناس وتيهرت وقلعة بني حماد والرباط ومراكش وتونس والمهدية وجل المدن المغربية، والتي يعود عمرانها وطرز معمارها الي حضارات الماضي التي ورثها الإسلام الحضاري والذي نقلها علي ظهور الإبل الي أقاصي الأرض.
وبعيداً عن تلك المدن التي يمكن أن يكون للتأثيرات الخارجية باع فيها أو بعيدا حتي عن المدن التي أنشأها المسلمون ولاسيما في العمارة الأولي والتي أتت متجانسة مع الأساس المادي والتنظيمي والفني الذي أرساه الفكر الإسلامي وجسدته في بعض جوانبه الدولة الإسلامية انطلاقاً من الكوفة ودمشق ثم بغداد والذي تطور مع الوقت و ترسخ بحيث وصل الي طراز العمارة المميز فيها حتي اليوم.
وقد يكون أجدر بالباحث عن الجذور المشتركة الأولي الولوج إلي بقاع لم تجد لتلك الطرز طريقاً سلكتها أو موقع قدم . وهذا يصله الي طرز العمارة لمدن الصحراء التي هي خير شاهد للثبات والرسوخ الحضاري الوارث لسنن القدماء ،وذلك بسبب العزلة التي اكتنفت كيانها وصانت خصوصيتها. ونجد أن لمادة الطين فيه حظوة وهيمنة كمادة بناء جوهرية أزلية قاومت الغزو الذي أتي بعمارة الحجر الي تلك الديار .إنه وببساطة صراع الطين والحجر.
وأقدم هذه المدن هو ما يقع في مناطق تخوم الصحراء مقابل الأطلس وفي ثناياه وفي السوس وتسمي هذه الأبنية (إغرم او تغرمت) أو ما تسمي بالقصور في بعض مناطق الصحراء في مناطق (النعامة) و(مشرية) و(بشار) في الجزائر. وتنحدر العمارة في هذه الأصقاع من أزمنة قبل إسلامية والتي ذكرها المؤرخ (احمد الصفريوي) حين معاينته لأطلالها وهي تشبه القلاع فوق قمم الروابي نظراً لاستغلالها تضاريس الأرض وبتربعها علي القمم يجعل منها صنواً لنفس المواقع المختارة ناهيك عن نفس الهيئة لجل البناءات الموجود في عمارة اليمن حتي اليوم .
وعروجاً الي الحواضر فإن أكثرها شأناً مدينة سجلماسة المبنية عام 757م من طرف مدرار الحداد من بربر (مكناسة) كما ذكره الجغرافي (البكري) والتي أسقطها الفاطميون في خضم النزاع علي الحظوة والتوسع قبيل انتقالهم إلي مصر لاحقا. وتقع المدينة اليوم في منطقة (الريصاني) في جنوب المغرب والتي تشرف علي أطلالها مدينة (تفلالت). وهي تقع علي طريق القوافل الذي كان يربط أفريقيا الوسطي والشمال منذ القدم وربما يذكر في بعض جوانبه العلاقة مع الفينيقيين الرواد الذين جلبوا الذهب والعاج والعبيد من داخل القارة .
وطرق البناء في هذه الأطلال والتي مازالت حية في أعراف البناء التقليدي حتي اليوم، ميزة استعمال الطين كمادة بناء أساسيه التي تخلط مع كسر الحجر المجلوب من باطن قاع الوادي وتصب في قالب متحرك او مباشرة بارتفاع 50سم تقريباً وتدك تلك المداميك أو يصب الطين بقوالب ويجفف بالخلاء تحت وهج الشمس وتبني به الحيطان الحاملة التي تكون علي الغالب بشكل مخروطي أو هرمي مقطوع . وترتفع في تلك الديار الأبراج وتضم حجرات الجلوس ذات الطيقان المنخفضة لتسمع بالرؤيا البانورامية والتمتع بمناظر الجبال والوديان . كل هذا نجده بحذافيره في بعض بيوت منطقة نجران في الجزيرة وبأكثر تواجداً إلي الجنوب في عمارة اليمن ولا سيما منطقة عمران وانحداراً نحو الشرق في عمارة مدن حضرموت التي تشبه في هيئتها و خط السماء فيها ونفس المعالجات الفنية صنو مع العناصر الزخرفية الناتئة المصنوعة من الطين المشكل والمطلي بالجير هنا. وكذلك الحال في عمارة (تهامة) الطينية التي تجد توأمها إلي الشرق من ذلك في (غدامس) ومدن طرف الصحراء الليبية.
ونجد أن طريقة البناء في عمارة اليمن الطينية المتميزة باستعمال الطين المعجون بالماء المحتوي علي الأملاح المعدنية التي تساعد في تماسك أجزائه المستعملة هي نفسها ما تطبق في عمارة الواحات في الصحراء الغربية في مصر وليبيا ولاسيما في واحات (سيوة) و(الخارجة) و(جغبوب) وفي الشمال حتي (غدامس) و(جبل نفوسه).

العلاقة مع القوافل التجارية
وفي مدائن (وادي مزاب) وهم (غرداية وبني مزغن وبونوره والعطوف) حيث أن مادة الطين وتشكيلها الفني الجميل ما يدعو للعجب بالمناظرة مع عمارة الجزيرة ولاسيما عمان والإمارات، حيث نجد في منطقة (الجميرة) مسجداً مبنياً بالطين وتعلوه القباب يعود تاريخه لأزمنة قديمة يكاد يكون صنواً لتلك العمارة في شرق الصحراء الجزائرية وربما بالتحديد لعمارة مدينة وادي الصوف ذي الألف قبة .أو جوامع (وادي مزاب) الجزائري المتجسد في في مسجد غرداية الجامع المسمي (مسجد سيدنا عمر) مع مساجد منطقة الجوف أو ابعد من ذلك في (شيئام) و(سيئون) في حضرموت.
لقد استطاع هذا الطراز من البناء أن ينتقل عن طريق القوافل التجارية إلي أواسط أفريقيا ويترك بصماته الحادة في عمارة مدن (تمبكتو) و(جاو) و(كانو) وممالك مالي وغانا والتي احتفظت بجذوتها وقوة رسوخها وسداد منهجها البيئي. وقد أتاها من المغرب العربي محمولا مع قوافل التجارة التي أوصلت إلي تلك الأصقاع الدين وسمو الأخلاق والحضارة والفن ومنها طرز العمارة الطينية منذ أن وصفها (ابن بطوطة) و(الحسن الوزان) حتي يومنا هذا. و مما يثير الإعجاب لدي معماريي العالم ولدينا صرح جامع (نيونو) في مالي الحاصل علي جائزة الآغا خان المعمارية في أواسط الثمانينات بالرغم من انتسابه لما يسمي بـ عمارة بدون معماريين التي يمقتها بعض الأكاديميين والتي نجد لها اكبر الأثر هنا مما يؤكد أصولها المشتركة بسبب عزلتها الطويلة ورابطتها مع عمارة الجزيرة العربية الطينية .
إن لعمارة منطقة الساحل الأفريقي الشرقي ولاسيما عمارة (الزنجبار) وبالذات مدينة (لامو) وأرخبيل الجزر المحيطة بها، تشابهاً كبيراً بينها وبين عمارة منطقة الخليج وعمان إلي درجة كبيرة وربما يكون لانتقال الشعوب من و إلي تلك المنطقتين قد نقل طراز العمارة إليها أو يكون للسبب المذهبي المتعلق بالفقه الأباضي المشترك الذي كان يعتنقة أهل البحرين وعمان ومدائن (وادي مزاب) و(جبل نفوسة) في ليبيا و(الساقية الحمراء) في الصحراء الغربية قد اثر في بناة هذه الديار ولاسيما بالطابع الزاهد والمتقشف والمباشر للعمارة أو حتي التنظيم العمراني البيئي البسيط .
وكل ذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يلغي تماما التقاليد القديمة لهذه الشعوب ويحل محلها ولكن الأكيد في تلك الظاهرة أن جذور الصلات بين تلك الأصقاع تمتد في أعماق التاريخ ويمكن أن تكون بواكيرها تعود الي حقب قبل الإسلام وما بعده والذي ختم بآخر الهجرات الكبري بين الشوطين بمجيء بني هلال وبني سليم(13) القادمين من مناطق الطائف وتهامة والحجاز واليمن وهم الذين كرسوا حالة التعريب في الدم واللسان لاهل هذه الديار إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها.

الهوامش
1 ــ كلمة تشاد محرفة من الكلمة العربية (شاطئ) نظراً لوقوعها علي شاطئ البحيرة التي تحمل اسمها .ومازالت هذه المنطقة وما يجاورها جنوبا تدعي منطقة الساحل حتي باللغات الأجنبية وربما تكون قد أخذت تحريفاً لهذا السياق .
2 ــ (دراسات في تاريخ الشرق القديم) الصفحة 36.
3 ــ الهكسوس وهم من بدو الجزيرة العربية الذين حكموا مصر خلال عهد العائلة الثانية عشرة بين أعوام (178 ــ 1580 ق.م) ويعتقد بأن قصة النبي يوسف قد حدثت خلال عهدهم. اسمهم هذا ورد في اللغة اليونانية وليس هو اسمهم الاصلي السامي ويمكن أن يكون مأخوذاً من المصدر لاسمهم المصري الذي هو (هيكو شوسوت Heku Shoswt) ومعناها (حكام البلاد الاجانب) وقد ورد اسمهم هكذا في العصور المتأخرة علي يد المؤرخ (مانيثيو Manitho) وهو أول من أطلق عليهم اسم الملوك الرعاة .
4 ــ كلمة (العبرانيون) تعني بالكنعانية (الأرض الملفوحة) ويعتقد أن الكلمة واردة من المصدر السامي عبر والتي تمت الدلالة الي فعل العبور أي عبورهم من مكان الي آخر كأن يكون من مصر الي طور سيناء.
5 ــ لقد تكرر ذكر النبي إبراهيم (ع) في 27 سورة من سور القرآن الكريم. واسم ابراهيم متكون من مقطعين كلدانيين (أب) وهي كما في العربية و(راهيم) وهي تقابل كلمة (الرحم) في العربية أو الذرية وتعني اجمالا ابي الذرية . ويدعون (العبرانيون) إنها تعني الأب رفيع المستوي بالعبرانية، وهو معني مقارب.
6 ــ كلمة إسماعيل تعني (ليسمع أيل) و(أيل) هو (الله) بالعربية ليصبح المعني (المطيع لله) وهو ما يتداخل مع قصته بطاعته لامر الله عندما أراد ان يمتحنه في المذبح.
7 ــ كلمة موسي ترد كثيرا باللغة المصرية القديمة بمعنة الابن . ومعني الكلمة إجمالا تعني (طفل الجدول) نظرا لما ورد في قصته التي جاءت في الكتب المقدسة لدي الديانات التوحيدية جميعا.
8 ــ إن كلمة (رابي) قد اقتبسها اليهود بعد الف عام من ذلك التاريخ الأكدي وهي تأتي بصيغة (رابي) أو (رابين) التي تعني رجل الدين .
9 ــ كلمة (مالطا) تعني ملاذ باللغة الفينيقية الكنعانية.
10 ــ طرابلس كان اسمها الفينيقي (ملكات) أي ملك الأرض تيمناً بآلهتهم المعبودة. ثم أسموها الإغريق (المدن الثلاث Tri Polis) والتي عربت و استمرت ملازمة لها.
11 ــ جيرار لكلرك في كتابه (الانثروبولوجيا والاستعمار) صفحة 6 ترجمة د.جورج كتوره. .بيروت 1990
12 ــ حسن الوزان رحالة ومغامر عربي أندلسي مغربي ولد في غرناطة عام 1487م وانتقل صغيرا من ضمن المهجرين الأندلسيين الي فاس عام 1495 وعاش فيها ثم رحل الي تمبكتو ومصر واسيا الصغري وعاد الي تونس حيث اختطفه بعض القراصنة وأهدوه الي بابا الفاتيكان ليو دي مديتشي الذي اطلق عليه (ليـــون الافريقـــي) وتســـني له أن يكتب لـــه كتابه المشـــهور (وصـــف افريقيــــا Discription de l، Afrique) والذي نعتبره بداية التفكير الغربي باستعمار أفريقيا وجمع المعلومات عنها بعد أن واكبها لاحقا مرحلة متطورة للاستشراق ثم الاستعمار.
13 ــ بني هلال وبني سليم هم قوم من عرب شمال اليمن ومنطقة الطائف. اشتغلوا في خدمة الحجيج ثم هاجروا الي الشمال بجموع كبيرة الي العراق ثم سوريا ثم صعيد مصر .وقد استطاع ان يستثمر الخليفة القادر بالله الفاطمي عام 1055م وجودهم وكثرة عددهم هذا وأراد ان يكيد أعداءه من ملوك الغرب فأعطاهم بعيراً وديناراً ذهباً وسرحهم باتجاه المغرب الأقصي فاستقروا بعد تيه ومغامرات في كل أصقاع المغرب العربي ولا سيما في تونس وطرابلس ونجد بقاياهم حتي اليوم. وقد تكلم عنهم ابن خلدون في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي وقال كلمته المشهورة بصددهم (لو عربت خربت) أي لو دخل الاعراب المدن يخربوها فاستغلها أعداء التعريب من الفرانكوفونيين المحدثين من الذين تنصلوا وأعاقوا سياسة التعريب التي اتبعتها بلدانهم بعيد الاستقلال والتي مازال اللغط فيها قائماً حتي يومنا هذا.

فايز ابن رويحل
04-01-2006, 09:56 PM
كم اشتاق لمواضيعك

الله يعطيك العافيه اخوي موسى سلمت وسلم لنا فكرك وتهذيبك وطرحك الدائم والاكيد المتميز

سعود الهرفي
04-02-2006, 03:35 AM
الاخ / موسي بن ربيع البلوي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يعطيك العافية على الطرح الرائع ويرحم ولديك ويجزاك خير


ودمت في خير وعافية