المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التوفيق للتلفيق



موسى بن ربيع البلوي
04-21-2006, 09:44 PM
ب1




التوفيق للتلفيق


كتاب التوفيق للتلفيق لأبي منصور الثعالبي ( 350 – 429هـ ) حوى ثلاثين باباً شمل كل باب أروع ما أستطاع المؤلف وضعه في بوتقة قصيرة تحوي النثر و الشعر و الحكمة فظهر الكتاب جامعاً لمتع شتى في مواضيع مختلفة فدعونا نسبح في بحره لنقل شيئاً مما يوافق مقتضيات العصر .


ففي باب أوصاف خصائص الأشياء يقول أبو عثمان الخالدي في رد أوصاف الغيم إلى أوصاف المحب و التلفيق بينهما :




أما ترى الغيم يا من قلبه قاس = كأنه أنا مقياسا بمقياس


قطر كدمع و برق مثل نار هوى = في القلب مني و ريح مثل أنفاسي




و أقول إن كل محب لعالمنا الإسلامي سيذرف الدمع كقطرات الغيم و سيتأجج قلبه ناراً كبروق الجون ، وسينفث أنفاسه الحزينة كالرياح عندما يبصر هذا العالم يلهث وراء لقمة العيش ليلقيها إليه غيره ، رغم وجود عناصر الإنتاج لديه سوى الإدارة الصادقة المخلصة و النوايا المنبثقة من الإحساس بالمسؤولية و ما أحسب أن أمة تستطيع النهوض من الوحل الذي تعيش فيه دون إصلاح الأفراد ليعم الإصلاح ، وإصلاح الفرد يتطلب إصلاح الذات و إصلاح الذات يتطلب نبذ الأنانية و القدوة الصالحة كتطبيق عملي لنبذ الأنانية .


و طلب أحد العزاب من دلالة بغداد امرأة يتزوجها فقالت له لك عندي امرأة كأنها طاقة نرجس ، فنزوجها فوجدها عجوزاً فقرع الدلالة على كذبها فقالت : و الله ما كذبتك ، أما تراها تجمع أوصاف النرجس في بياض شعرها و صفرة وجهها و خضرة ساقها ؟


و أقول ما أكثر دلالات بغداد في زماننا هذا فالكذب أصبح ديدننا للبعض و إظهار الأمور على غير حقيقتها أصبح مألوفاً كألفة الماء و الهواء و نجد ذلك في التعامل التجاري و الإداري عياناً بياناً .


و أغلب ما يكون ذلك عند تحقيق مصلحة أو بلوغ مرام فهنا تبدع الدلالات في الوصف مع استخدام أمثل للمحسِّنات البديعية في عبارات منمقة منسقة تجر معها المغلوب على أمره إلى غير ما في نيته حتى إذا باتت الحقائق لديه كانت القدرة على التخلص بقدر القدرة على الإقناع ، شأن دلالة بغداد .


و من لطائف الكتاب قول أحمد بن صالح بن سيرازاد في جارية كاتبه ، رد على أوصافها إلى أوصاف كاتبها .


كأن خطها أشكال صورتها ، و كأن مدادها سواد شعرها و كأن قرطاسها أديم وجهها و كأن قلمها بعض أناملها ، و كأن بيانها سحر فعلتها و كأن سكينتها غنج لحظها و كأن مقطفها قلب عاشقها .


و كأني بوصفه منطبق على أولئك المعجبين ببعض مظاهر الحضارة الغربية فغشهم لها جعلهم ينحون منحى أحمد بن صالح في وصف جاريته الكاتبة فقد أعماه الإعجاب بحسنها و حسن خطها كما خيل إليه فأسبغ عليها من صنوف الوصف ما قد لا يتفق مع حقيقة حالها فأخذ خياله يسترسل في إبراز محاسن جمال الخط و الوجه معاً و يلفق بينهما ليضع هذا الجمال في صورة تبدو له قبل القارئ أنها قد كانت كذلك ، و لدى المعجبين بالحضارة الغربية أسلوب يشابه أسلوب صاحبنا فعند سماعك للبعض و هو يلوك لسانه استحسانا و طربا بكل إفرازات تلك الحضارة يخيل إليك كما خيل إليه أنها و لا غيرها هي الطريق المثلى بل تكاد تكون الوحيدة القادرة على إسعاد البشرية و قد يكون محقا في بعض الجوانب لكن من الإنصاف ألا ينسينا الإعجاب بالبعض عيوب البعض الآخر و أثاره السلبية على المجتمع و النتائج السلوكية و النفسية و لكنه العشق الذي يصرف العقول لتتحدث القلوب و هنا مكمن الخطر .


و كتب ابن عباد في وصف متكبر فقال :


كأنما أمتطى السماكين و انتعل الفرقدين و ملك الخافقين و استبعد الثقلين .


و ما أكثر المتكبرين في زماننا هذا الذي لا يسعهم امتطاء السماكين و لا انتعال الفرقدين بل هم في طغيان مستمر و كبر ممل ينظرون إلى الناس نظرة دونية إن أقبلت للسلام عليه مد يده إليك و هو يحدث من جانبه و كأنك قد جئت للتمتع بملامسة يده الطرية و إن تحدث فلا يخرج حديثة عن إبراز ما لديه من ثروة و قدرته على صنع المعجزات و معرفة بذوي الحل و العقد .


يبحث عن المحافل ليتحدث عن نفسه و ينظر لمستخدميه نظرة الاحتقار و يزهو بنفسه على غيره .


و إن كان ممن أعطاه الله العلم أخذ يوحي للناس روائع أبحاثه و مقدار قدرته حتى و إن تجاوزت أوهام خياله ، لا يقر لمن سواه بقدر حتى و إن فاقه علماً و أدباً و قدم حال .


و مما قيل في التلفيق قول أحدهم عن رجل أكول :


يحاكي حوت يونس في جردة الالتقام و ثعبان موسى في سرعة الالتهام و دعا بعضهم على بعض فقال : سلط الله عليهم طوفان قوم نوح و رياح عاد و صاعقة ثمود .


و من كلام أبو العيناء قال قلت : ما تقول في صالح بن سيرازاد ؟


فقال : يتلهى بخروف و يتغدى بفصيل و يتعشى بغريز و يثب على فريسته وثوب النمر و يراوغ خصمه مراوغة الثعلب .


أليست هذه حال بعض الدول التي تفترس غيرها من الدول الآمنة المطمئنة و شواهد ذلك من الواقع كثيرة و حتى نكون منصفين مع زماننا و أهله فإن مثل هذا السلوك البشري كان قائماً منذ الأزل فالقبائل كانت و مازالت في صراع طمعاً في السلطة و التسلط و الدول التي خاضت حروبا مريرة و مات من صفوة شبابها الكثير في سبيل السيطرة و غمط الآخرين حقوقهم و غالباً ما يكون تحقيق نزوة قائد أو مجموعة كبعض الأحزاب الشيوعية هدفاً يضحي في سبيله بالغالي و النفيس .


أما مراوغة الثعالب فهي كثيرة و بألوان زاهية مختلفة و جميلة أحيانا و قبيحة حينا آخر و يعلم الله أن أحط ما أرى مراوغة الثعالب فهي تفقد المرء من مروءته و أمانته و صدقه كما أنها تقلل من قدره عند النابهين لكنها لا تكون ظاهرة للعيان لدى الغالب من العامة فيحقق المأرب و ينال المقصد على حساب الغير أليس ذلك شأن بعض من الدول و الأفراد ؟


و في ضرب المثل بما يستهان و لا يبالي به ما عسى أن يبلغ به عض النملة و قرص القملة و لسع النحلة ووقوع البقة على النخلة و نباح الكلب على السحاب و ما الذباب و ما مرقته .


و للصابي من رسالة : مثل فلان كمثل الفراش المتهافت على الشهاب و الذباب المتهالك في الشراب .


و أحسب أن من الأولى ترك الكثير من الأمور التافهة و النظر إليها كعض النملة و قرص القملة حتى لا تكون حجر عثرة في التلاحم و التآخي بين بني البشر .


و في التلفيق بين الطيور قول الشاعر في صدق القطاة ، و كذب الفاختة :


قد كنت تصدق صدق القطاة = فقد صرت أكذب من فاختة




و ذلك لأن القطاة لها صوت واحد لا تغيره و هو حكاية تقول فيها قطاقطا و فاختة تقول في الربيع : هذا أوان الرطب فيضرب بها المثل في الكذب .


و ما أقل القطا و أكثر الفواخت .


و وصف أبو بكر بن مكرم رجلا شريف الأصل و ضيع النفس ، و لفق بين المحاسن و المساوئ فقال : هو من الطاووس بصلة و من الورد شوكة و من الماء زبده ، و من اللجين خبثه ، و من النار دخانها .


و في التلفيق المذكور طغت المحاسن على المساوئ فالرجل أصغر من الطاووس ذاته و الماء أكثر من الزبد و اللجين أكثر من الخبث و يكفي المرء أن تكون محاسنه أكثر وزناً من مساوئه ، و لكن ماذا نقول فيمن كانت مساوئه أكثر وزناً من محاسنه ؟ ففراقه أجدى و البعد عنه أولى و اتقاء شره أحرى .


ألم يجمع هذا الكتاب شيئاً من التوفيق و التلفيق حتى يحسن منظره و يطيب مطعمه و يفهم معناه من يفهمه دون حاجة إلى إسهاب ممل أو إيجاز مخل ؟ و كأني به كذلك قد أفاد ، أو أتاح لنا الإفادة ، و نقل جزءاً منها إن كان بها ما يفيد .





المصدر / كتاب " كلمات لها معنى "




للدكتور . محمد بن عبد الرحمن البشر


سفير المملكة العربية السعودية


لدى الصين الشعبية

يوسف سنيد أبو ذراع
04-21-2006, 11:24 PM
ماشاء الله عليك يا موسى
مواضيع قيمه تسلم عليها بارك الله فيك وجزاك الله الف خيررررر

مشرف الإسلامية (3)
04-22-2006, 12:27 AM
أسال الله العلى العظيم أن يبارك فيك
يأبو نادر وشكرا على الموضوع الجميل الذي يستحق التميز وغفرالله لك

موسى بن ربيع البلوي
04-22-2006, 03:43 PM
ماشاء الله عليك يا موسى
مواضيع قيمه تسلم عليها بارك الله فيك وجزاك الله الف خيررررر


سلمت أخي الغالي

و نفعنا الله و إياك .

موسى بن ربيع البلوي
04-22-2006, 03:44 PM
أسال الله العلى العظيم أن يبارك فيك
يأبو نادر وشكرا على الموضوع الجميل الذي يستحق التميز وغفرالله لك



آمين


شكرا لك و جمعنا الله بك في جنته .

عاصفة الشمال
04-22-2006, 10:02 PM
أخي / موسى بن ربيع البلوي


لله درّك أخي الكريم أشعر أنني اقرأ وأريد المزيد


وحقيقةٌ شـــــــــوقتني للإطلاع على هذا الكتاب ...ولي نية بإذن الله


للغوص في المكتبـــــــــة لشراء بعض الكتب القيمة التي عرفتها


من خلال هذا المنتدى وكاتبيه الكرام ...


بارك الله فيكم ونفعنا بعلمكم..


مع خالص تقديري .

منصور العرادي
04-22-2006, 11:50 PM
بارك الله فيك أخي الفاضل
لقد متعتنا بقطعة أدبية رائعة, وحكمة بالغة
جعلها الله في موازين حسناتك

موسى بن ربيع البلوي
04-23-2006, 12:45 AM
أخي / موسى بن ربيع البلوي


لله درّك أخي الكريم أشعر أنني اقرأ وأريد المزيد


وحقيقةٌ شـــــــــوقتني للإطلاع على هذا الكتاب ...ولي نية بإذن الله


للغوص في المكتبـــــــــة لشراء بعض الكتب القيمة التي عرفتها


من خلال هذا المنتدى وكاتبيه الكرام ...


بارك الله فيكم ونفعنا بعلمكم..


مع خالص تقديري .




شكرا لك أختنا الفاضلة هذا الثناء ، وفقك الله و جزاك خيراً .

بخصوص الكتاب موجود في مكتبة العبيكان ( الرياض - تبوك ) .

موسى بن ربيع البلوي
04-23-2006, 12:48 AM
بارك الله فيك أخي الفاضل
لقد متعتنا بقطعة أدبية رائعة, وحكمة بالغة
جعلها الله في موازين حسناتك


حفظك الله أخي منصور العرادي

لك الشكر هذا التشجيع .

حماد سعد السحيمي
04-23-2006, 09:23 AM
بارك الله فيك

موسى بن ربيع البلوي
04-23-2006, 03:49 PM
بارك الله فيك

و أنت أخي حماد

بارك الله فيك

طيف
05-21-2006, 03:22 AM
قد كنت تصدق صدق القطاة = فقد صرت أكذب من فاختة

حقا أخي ما أكثر الفواخت !
و ما أقل القطا!

اختيار جميل و موفق
لا حرمك الله الفائدة
كن بخير

موسى بن ربيع البلوي
05-22-2006, 05:19 AM
قد كنت تصدق صدق القطاة = فقد صرت أكذب من فاختة



حقا أخي ما أكثر الفواخت !
و ما أقل القطا!


اختيار جميل و موفق
لا حرمك الله الفائدة

كن بخير





حفظك الله أختي (( طيف ))


أشكر لك تواجدك و إضافتك .

أحمد شاهر البلوي(رحمه الله)
06-21-2006, 01:39 PM
الغالي / أبو نادر


أحسنت الإنتقاء , وهكذا أنت دائماً


نفع الله بما نقلت لنا وجعله في ميزان حسناتك


أكرر الشكر والتقدير

ولا تحرمنا من المزيد



تحياتي وشكري
.