موسى بن ربيع البلوي
11-30-2002, 11:48 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
وظائف العشر الأواخر من رمضان
والعيد وما بعده
د.عبدالله بن علي الجعيثن
ها هو شهر رمضان قد اصفرّت شمسه ، وآذنت بالغروب فلم يبق إلا ثلثه الأخير ، فماذا عساك قدمت فيما مضى منه ، وهل أحسنت فيه أو أسأت ، فيا أيها المحسن المجاهد فيه هل تحس الآن بتعب ما بذلته من الطاعة . ويا أيها المفرّط الكسول المنغمس في الشهوات هل تجد راحة الكسل والإضاعة وهل بقي لك طعم الشهوة إلى هذه الساعة .
تفنى اللذاذات ممن نال صفوتها *** من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها *** لا خير في لذة من بعدها النار
فلنستدرك ما مضى بما بقى ، وما تبقى من ليال أفضل مما مضى ، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إذا دخل العشر شد مئزره ، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله )) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها . وفي رواية مسلم : ( كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره ) وهذا يدل على أهمية وفضل هذه العشر من وجوه : أحدها : إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت العشر شد المئزر ، وهذا قيل إنه كناية عن الجد والتشمير في العبادة ، وقيل : كناية عن ترك النساء والاشتغال بهن . وثانيها : أنه صلى الله عليه وسلم يحي فيها الليل بالذكر والصلاة وقراءة القرآن وسائر القربات . وثالثها : أنه يوقظ أهله فيها للصلاة والذكر حرصاً على اغتنام هذه الأوقات الفاضلة . ورابعها : أنه كان يجتهد فيها بالعبادة والطاعة أكثر مما يجتهد فيما سواها من ليالي الشهر .
وعليه فاغتنم بقية شهرك فيما يقرِّبك إلى ربك ، وبالتزوُّد لآخرتك من خلال قيامك بما يلي :
1- الحرص على إحياء هذه الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والقراءة وسائر القربات والطاعات ، وإيقاظ الأهل ليقوموا بذلك كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل . قال الثوري : أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه ويُنهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك . وليحرص على أن يصلي القيام مع الإمام حتى ينصرف ليحصل له قيام ليلة ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنه من صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة )) رواه أهل السنن وقال الترمذي : حسن صحيح .
2- اجتهد في تحري ليلة القدر في هذه العشر فقد قال الله تعالى :{ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ }[القدر:3]. ومقدارها بالسنين ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر . قال النخعي : العمل فيها خير من العمل في ألف شهر . وقال صلى الله عليه وسلم (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه . وقوله صلى الله عليه وسلم [إيماناً]أي إيماناً بالله وتصديقاً بما رتب على قيامها من الثواب. و[احتساباً] للأجر والثواب وهذه الليلة في العشر الأواخر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ) متفق عليه . وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ) رواه البخاري . وهي في السبع الأواخر أقرب , لقوله صلى الله عليه وسلم : ( التمسوها في العشر الأواخر , فإن ضعف أحدكم أوعجز فلا يغلبن على السبع البواقي ) رواه مسلم . وأقرب السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال : ( والله إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين ) رواه مسلم .
وهذه الليلة لا تختص بليلة معينة في جميع الأعوام بل تنتقل في الليالي تبعاً لمشيئة الله وحكمته .
قال ابن حجر عقب حكايته الأقوال في ليلة القدر : وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأواخر وأنها تنتقل ...ا.هـ. قال العلماء : الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها , بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها ...ا.هـ وعليه فاجتهد في قيام هذه العشر جميعاً وكثرة الأعمال الصالحة فيها وستظفر بها يقيناً بإذن الله عز وجل .
والأجر المرتب على قيامها حاصل لمن علم بها ومن لم يعلم , لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط العلم بها في حصول هذا الأجر .
3- احرص على الاعتكاف في هذه العشر . والاعتكاف : لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله تعالى . وهو من الأمور المشروعة . وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وفعله أزواجه من بعده , ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت :( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله - عز وجل – ثم اعتكف أزواجه من بعده ) ولما ترك الاعتكاف مرة في رمضان اعتكف في العشر الأول من شوال , كما في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين .
قال الإمام أحمد – رحمه الله - : لا أعلم عن أحد من العلماء خلافاً أن الاعتكاف مسنون والأفضل اعتكاف العشر جميعاً كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل لكن لو اعتكف يوماً أو أقل أو أكثر جاز . قال في الإنصاف : أقله إذا كان تطوعاً أو نذراً مطلقاً ما يسمى به معتكفاً لابثاً. وقال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله : وليس لوقته حد محدود في أصح أقوال أهل العلم .
وينبغي للمعتكف أن يشتغل بالذكر والاستغفار والقراءة والصلاة والعبادة , وأن يحاسب نفسه , وينظر فيما قدم لآخرته , وأن يجتنب ما لا يعنيه من حديث الدنيا , ويقلل من الخلطة بالخلق . قال ابن رجب : ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس , حتى ولا لتعليم علم وإقراء قرآن , بل الأفضل له الانفراد بنفسه والتحلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه , وهذا الاعتكاف هو الخلوة الشرعية ...ا.هـ .
ختام الشهر
ها هو شهر رمضان قد قوِّصت خيامه ، وغابت نجومه . وها أنت في ليلة العيد ، فالمقبول منا هو السعيد . وإن الله قد شرع في ختام الشهر عبادات تقوي الإيمان وتزيد الحسنات . ومنها :
1- التكبير ، من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد قال تعالى :{ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[البقرة:185] .
ومن الصفات الواردة فيه : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ولله الحمد .
2- زكاة الفطر ، وهي صاع من طعام ويبلغ قدره بالوزن : كيلوين وأربعين غرماً من البر الجيد . فإذا أراد أن يعرف الصاع النبوي فليزن كيلوين وأربعين غراماً من البر ويضعها في إناء بقدرها بحيث تملؤه ثم يكيل به . والأفضل أن يخرجها صباح العيد قبل الصلاة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما : (( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة )) متفق عليه . ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين .
3- صلاة العيد . وقد أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم أمته رجالاً ونساء مما يدل على تأكدها . واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أنها واجبة على جميع المسلمين وأنها فرض عين . وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد واختاره ابن القيم أيضاً .
ومما يدل على أهمية صلاة العيد ما جاء في حديث أم عطية رضي الله عنها قالت : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى : العوائق والحيض وذوات الخدور , فأما الحيض فيعتزلن المصلى , ويشهدن الخير ودعوة المسلمين , قلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( لتلبسها أختها من جلبابها ) متفق عليه .
والسنة : أن يأكل قبل الخروج إليها تمرات وتراً ثلاثاً أو خمساً أو أكثر , يقطعهن على وتر , لحديث أنس رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وتراً ) رواه البخاري .
ويسن للرجل أن يتجمل ويلبس أحسن الثياب . كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ عمر جبة من استبرق تباع في السوق فأخذها فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله , ابتع هذه تجمل بها للعيد والوفود . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما هذه لباس من لا خلاق له ) وإنما قال ذلك لكونها حريراً. وهذا الحديث رواه البخاري . وبوب عليه : باب في العيدين والتجمل فيهما . وقال ابن حجر : وروى ابن أبي الدنيا والبيهقي بإسناد صحيح إلى ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يلبس أحسن ثيابه في العيدين .
وأما المرأة فإنها تخرج إلى العيد متبذّلة , غير متجملة ولا متطيبة , ولا متبرجة , لأنها مأمورة بالستر , والبعد عن الطيب والزينة عند خروجها .
ويسن أن يخرج إلى مصلى العيد ماشياً لا راكباً إلا من عذر كعجز وبعد مسافة لقول علي رضي الله عنه : ( من السنة أن يخرج إلى العيد ماشياً ) رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن . والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم , يستحبون أن يخرج الرجل إلى العيد ماشياً , وأن لا يركب إلا من عذر ... ا.هـ .
وينبغي مخالفة الطريق بأن يرجع من طريق غير الذي ذهب منه . فعن جابر رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق ) رواه البخاري . وفي رواية الإسماعيلي كان إذا خرج إلى العيد رجع من غير الطريق الذي ذهب فيه . قال ابن رجب وقد استحب كثير من أهل العلم لللإمام وغيره إذا ذهبوا في طريق إلى العيد أن يرجعوا في غيره . وهو قول مالك والثوري والشافعي وأحمد.
ويستحب التهنئة والدعاء يوم العيد . فعن محمد بن زياد قال : كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض : تقبل الله منا ومنك . قال أحمد : إسناده جيد . وقال ابن رجب : وقد روي عن جماعة من الصحابة التابعين أنهم كانوا يتلاقون يوم العيد ويدعو بعضهم لبعض بالقبول .
تنبيهات مهمة على أمور تحصل في يوم العيد
1- لا يجوز للمرأة أن تخرج إلى الرجال متبرجة متزينة متعطرة , حتى لا تحصل الفتنة منها وبها , فكم حصل من جرّاء التساهل بذلك من أمور لا تحمد عقباها . قال الله تعالى : (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) [الأحزاب : 33] وقال صلى الله عليه وسلم : ( أيما امرأة استعطرت فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية ) رواه أحمد والثلاثة وقال الترمذي حسن صحيح . وصححه ابن خزيمة وابن حبان . وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : ( لما نزلت ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) [ الأحزاب : 39] خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية ) رواه أبو داود وصححه الألباني .
2- الحذر من الاختلاط المحرم بين الرجال والنساء , وهو محرم كل وقت وحين . وإنما حصل التنبيه هنا لكثرة اجتماع الناس في هذا اليوم وتكرر الزيارات واللقاءات العائلية والرحلات البرية فيه .
3- تحرم المصافحة بين المرأة والرجل الأجنبي . وهي عادة قبيحة مذمومة . وإذا كان النظر إلى الأجنبية محرماً فالمصافحة أعظم فتنة . ولما طلبت النساء المؤمنات من النبي صلى الله عليه وسلم في المبايعة على الإسلام أن يصافحهن امتنع وقال : ( إني لا أصافح النساء ) أخرجه مالك وأحمد والنسائي والترمذي بنحوه . وقال : حسن صحيح . وصححه ابن حبان . قال ابن عبد البر في قوله صلى الله عليه وسلم : ( إني لا أصافح النساء ) دليل على أنه لا يجوز لرجل أن يباشر امرأة لا تحل له , ولا يمسها بيده ولا يصافحها . وفي حديث معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له ) رواه الطبراني والبيهقي , وقال المنذري : رجال الطبراني ثقات رجال الصحيح . وصححه الألباني .
4- صلة الرحم فريضة وأمر حتم , وقطيعة الرحم كبيرة من كبائر الذنوب , قال صلى الله عليه وسلم ( لا يدخل الجنة قاطع رحم ) متفق عليه . ويوم العيد فرصة لصلة الرحم وزيارة الأقارب وإدخال السرور عليهم . وهذا من جلائل الأعمال وسبب في بسط الرزق وتأخير الأجل , قال صلى الله عليه وسلم : ( من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه ) متفق عليه . ولا تكن صلتك لأقاربك مكافأة لهم على قيامهم بحقك, بل صلهم ولو قطعوك , قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ليس الواصل بالمكافىء, ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ) رواه البخاري . واعلم أن من صلة الرحم الاتصال الهاتفي على الأقارب عند تعذر المقابلة , والاطمئنان على صحتهم , وسؤالهم عن أحوالهم , وتهنئتهم عند المحاب , ومواساتهم عند الشدائد والمكاره .
5- العيد مناسبة طيبة لتصفية القلوب , وإزالة الشوائب عن النفوس وتنقية الخواطر مما علق بها من بغضاء أوشحناء , فلتغتنم هذه الفرصة , ولتجدد المحبة , وتحل المسامحة والعفو محل العتب والهجران ,مع جميع الناس من الأقارب والأصدقاء والجيران . وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم : ( وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ) رواه مسلم . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث , يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا , وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) متفق عليه من حديث أبي أيوب رضي الله عنه ورواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وزاد : ( فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار ) وصححه الألباني . وقال صلى الله عليه وسلم: ( من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه ) رواه أبو داود , وصححه الألباني .
وماذا بعد رمضان ؟!
لقد تقضى شهر رمضان بأيامه ولياليه ودقائقه وثوانيه , ولئن كان ذلك الشهر موسماً عظيماً من مواسم الخير والطاعة فإن الزمان كله فرصة للخير والتزود للدار الآخرة , وليست العبادة خاصة بشهر رمضان بل الحياة كلها عبادة قال الله تعالى : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) [الحجر :99]. فعليك أيها المسلم أن تواصل أعمال الخير من الصلوات والصيام والصدقة والذكر وقراءة القرآن وسائر القربات . فإن من علامة قبول العمل اتباع الحسنة بالحسنة .
فبادر بالعمل قبل حلول الأجل , واغتنم حياتك وشبابك وفراغك وصحتك وغناك قبل حصول أضدادها . فقد قال صلى الله عليه وسلم : (اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك , وصحتك قبل سقمك , وغناك قبل فقرك , وفراغك قبل شغلك , وحياتك قبل موتك ). رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي وحسن إسناده العرابي .
أيها الصائم القائم , لئن كان رمضان موسماً للصيام والقيام فإن العام كله موسم للأعمال الصالحة , وإليك طائفة من الأعمال المشروعة في مجال الصلاة والصيام فاحرص على فعلها وتحقيقها :
1- صيام ستة أيام من شوال : ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من صام رمضان ثم اتبعه ستاً من شوال ك
وظائف العشر الأواخر من رمضان
والعيد وما بعده
د.عبدالله بن علي الجعيثن
ها هو شهر رمضان قد اصفرّت شمسه ، وآذنت بالغروب فلم يبق إلا ثلثه الأخير ، فماذا عساك قدمت فيما مضى منه ، وهل أحسنت فيه أو أسأت ، فيا أيها المحسن المجاهد فيه هل تحس الآن بتعب ما بذلته من الطاعة . ويا أيها المفرّط الكسول المنغمس في الشهوات هل تجد راحة الكسل والإضاعة وهل بقي لك طعم الشهوة إلى هذه الساعة .
تفنى اللذاذات ممن نال صفوتها *** من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها *** لا خير في لذة من بعدها النار
فلنستدرك ما مضى بما بقى ، وما تبقى من ليال أفضل مما مضى ، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إذا دخل العشر شد مئزره ، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله )) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها . وفي رواية مسلم : ( كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره ) وهذا يدل على أهمية وفضل هذه العشر من وجوه : أحدها : إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت العشر شد المئزر ، وهذا قيل إنه كناية عن الجد والتشمير في العبادة ، وقيل : كناية عن ترك النساء والاشتغال بهن . وثانيها : أنه صلى الله عليه وسلم يحي فيها الليل بالذكر والصلاة وقراءة القرآن وسائر القربات . وثالثها : أنه يوقظ أهله فيها للصلاة والذكر حرصاً على اغتنام هذه الأوقات الفاضلة . ورابعها : أنه كان يجتهد فيها بالعبادة والطاعة أكثر مما يجتهد فيما سواها من ليالي الشهر .
وعليه فاغتنم بقية شهرك فيما يقرِّبك إلى ربك ، وبالتزوُّد لآخرتك من خلال قيامك بما يلي :
1- الحرص على إحياء هذه الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والقراءة وسائر القربات والطاعات ، وإيقاظ الأهل ليقوموا بذلك كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل . قال الثوري : أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه ويُنهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك . وليحرص على أن يصلي القيام مع الإمام حتى ينصرف ليحصل له قيام ليلة ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنه من صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة )) رواه أهل السنن وقال الترمذي : حسن صحيح .
2- اجتهد في تحري ليلة القدر في هذه العشر فقد قال الله تعالى :{ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ }[القدر:3]. ومقدارها بالسنين ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر . قال النخعي : العمل فيها خير من العمل في ألف شهر . وقال صلى الله عليه وسلم (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه . وقوله صلى الله عليه وسلم [إيماناً]أي إيماناً بالله وتصديقاً بما رتب على قيامها من الثواب. و[احتساباً] للأجر والثواب وهذه الليلة في العشر الأواخر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ) متفق عليه . وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ) رواه البخاري . وهي في السبع الأواخر أقرب , لقوله صلى الله عليه وسلم : ( التمسوها في العشر الأواخر , فإن ضعف أحدكم أوعجز فلا يغلبن على السبع البواقي ) رواه مسلم . وأقرب السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال : ( والله إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين ) رواه مسلم .
وهذه الليلة لا تختص بليلة معينة في جميع الأعوام بل تنتقل في الليالي تبعاً لمشيئة الله وحكمته .
قال ابن حجر عقب حكايته الأقوال في ليلة القدر : وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأواخر وأنها تنتقل ...ا.هـ. قال العلماء : الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها , بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها ...ا.هـ وعليه فاجتهد في قيام هذه العشر جميعاً وكثرة الأعمال الصالحة فيها وستظفر بها يقيناً بإذن الله عز وجل .
والأجر المرتب على قيامها حاصل لمن علم بها ومن لم يعلم , لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط العلم بها في حصول هذا الأجر .
3- احرص على الاعتكاف في هذه العشر . والاعتكاف : لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله تعالى . وهو من الأمور المشروعة . وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وفعله أزواجه من بعده , ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت :( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله - عز وجل – ثم اعتكف أزواجه من بعده ) ولما ترك الاعتكاف مرة في رمضان اعتكف في العشر الأول من شوال , كما في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين .
قال الإمام أحمد – رحمه الله - : لا أعلم عن أحد من العلماء خلافاً أن الاعتكاف مسنون والأفضل اعتكاف العشر جميعاً كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل لكن لو اعتكف يوماً أو أقل أو أكثر جاز . قال في الإنصاف : أقله إذا كان تطوعاً أو نذراً مطلقاً ما يسمى به معتكفاً لابثاً. وقال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله : وليس لوقته حد محدود في أصح أقوال أهل العلم .
وينبغي للمعتكف أن يشتغل بالذكر والاستغفار والقراءة والصلاة والعبادة , وأن يحاسب نفسه , وينظر فيما قدم لآخرته , وأن يجتنب ما لا يعنيه من حديث الدنيا , ويقلل من الخلطة بالخلق . قال ابن رجب : ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس , حتى ولا لتعليم علم وإقراء قرآن , بل الأفضل له الانفراد بنفسه والتحلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه , وهذا الاعتكاف هو الخلوة الشرعية ...ا.هـ .
ختام الشهر
ها هو شهر رمضان قد قوِّصت خيامه ، وغابت نجومه . وها أنت في ليلة العيد ، فالمقبول منا هو السعيد . وإن الله قد شرع في ختام الشهر عبادات تقوي الإيمان وتزيد الحسنات . ومنها :
1- التكبير ، من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد قال تعالى :{ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[البقرة:185] .
ومن الصفات الواردة فيه : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ولله الحمد .
2- زكاة الفطر ، وهي صاع من طعام ويبلغ قدره بالوزن : كيلوين وأربعين غرماً من البر الجيد . فإذا أراد أن يعرف الصاع النبوي فليزن كيلوين وأربعين غراماً من البر ويضعها في إناء بقدرها بحيث تملؤه ثم يكيل به . والأفضل أن يخرجها صباح العيد قبل الصلاة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما : (( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة )) متفق عليه . ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين .
3- صلاة العيد . وقد أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم أمته رجالاً ونساء مما يدل على تأكدها . واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أنها واجبة على جميع المسلمين وأنها فرض عين . وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد واختاره ابن القيم أيضاً .
ومما يدل على أهمية صلاة العيد ما جاء في حديث أم عطية رضي الله عنها قالت : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى : العوائق والحيض وذوات الخدور , فأما الحيض فيعتزلن المصلى , ويشهدن الخير ودعوة المسلمين , قلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( لتلبسها أختها من جلبابها ) متفق عليه .
والسنة : أن يأكل قبل الخروج إليها تمرات وتراً ثلاثاً أو خمساً أو أكثر , يقطعهن على وتر , لحديث أنس رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وتراً ) رواه البخاري .
ويسن للرجل أن يتجمل ويلبس أحسن الثياب . كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ عمر جبة من استبرق تباع في السوق فأخذها فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله , ابتع هذه تجمل بها للعيد والوفود . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما هذه لباس من لا خلاق له ) وإنما قال ذلك لكونها حريراً. وهذا الحديث رواه البخاري . وبوب عليه : باب في العيدين والتجمل فيهما . وقال ابن حجر : وروى ابن أبي الدنيا والبيهقي بإسناد صحيح إلى ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يلبس أحسن ثيابه في العيدين .
وأما المرأة فإنها تخرج إلى العيد متبذّلة , غير متجملة ولا متطيبة , ولا متبرجة , لأنها مأمورة بالستر , والبعد عن الطيب والزينة عند خروجها .
ويسن أن يخرج إلى مصلى العيد ماشياً لا راكباً إلا من عذر كعجز وبعد مسافة لقول علي رضي الله عنه : ( من السنة أن يخرج إلى العيد ماشياً ) رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن . والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم , يستحبون أن يخرج الرجل إلى العيد ماشياً , وأن لا يركب إلا من عذر ... ا.هـ .
وينبغي مخالفة الطريق بأن يرجع من طريق غير الذي ذهب منه . فعن جابر رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق ) رواه البخاري . وفي رواية الإسماعيلي كان إذا خرج إلى العيد رجع من غير الطريق الذي ذهب فيه . قال ابن رجب وقد استحب كثير من أهل العلم لللإمام وغيره إذا ذهبوا في طريق إلى العيد أن يرجعوا في غيره . وهو قول مالك والثوري والشافعي وأحمد.
ويستحب التهنئة والدعاء يوم العيد . فعن محمد بن زياد قال : كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض : تقبل الله منا ومنك . قال أحمد : إسناده جيد . وقال ابن رجب : وقد روي عن جماعة من الصحابة التابعين أنهم كانوا يتلاقون يوم العيد ويدعو بعضهم لبعض بالقبول .
تنبيهات مهمة على أمور تحصل في يوم العيد
1- لا يجوز للمرأة أن تخرج إلى الرجال متبرجة متزينة متعطرة , حتى لا تحصل الفتنة منها وبها , فكم حصل من جرّاء التساهل بذلك من أمور لا تحمد عقباها . قال الله تعالى : (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) [الأحزاب : 33] وقال صلى الله عليه وسلم : ( أيما امرأة استعطرت فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية ) رواه أحمد والثلاثة وقال الترمذي حسن صحيح . وصححه ابن خزيمة وابن حبان . وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : ( لما نزلت ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) [ الأحزاب : 39] خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية ) رواه أبو داود وصححه الألباني .
2- الحذر من الاختلاط المحرم بين الرجال والنساء , وهو محرم كل وقت وحين . وإنما حصل التنبيه هنا لكثرة اجتماع الناس في هذا اليوم وتكرر الزيارات واللقاءات العائلية والرحلات البرية فيه .
3- تحرم المصافحة بين المرأة والرجل الأجنبي . وهي عادة قبيحة مذمومة . وإذا كان النظر إلى الأجنبية محرماً فالمصافحة أعظم فتنة . ولما طلبت النساء المؤمنات من النبي صلى الله عليه وسلم في المبايعة على الإسلام أن يصافحهن امتنع وقال : ( إني لا أصافح النساء ) أخرجه مالك وأحمد والنسائي والترمذي بنحوه . وقال : حسن صحيح . وصححه ابن حبان . قال ابن عبد البر في قوله صلى الله عليه وسلم : ( إني لا أصافح النساء ) دليل على أنه لا يجوز لرجل أن يباشر امرأة لا تحل له , ولا يمسها بيده ولا يصافحها . وفي حديث معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له ) رواه الطبراني والبيهقي , وقال المنذري : رجال الطبراني ثقات رجال الصحيح . وصححه الألباني .
4- صلة الرحم فريضة وأمر حتم , وقطيعة الرحم كبيرة من كبائر الذنوب , قال صلى الله عليه وسلم ( لا يدخل الجنة قاطع رحم ) متفق عليه . ويوم العيد فرصة لصلة الرحم وزيارة الأقارب وإدخال السرور عليهم . وهذا من جلائل الأعمال وسبب في بسط الرزق وتأخير الأجل , قال صلى الله عليه وسلم : ( من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه ) متفق عليه . ولا تكن صلتك لأقاربك مكافأة لهم على قيامهم بحقك, بل صلهم ولو قطعوك , قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ليس الواصل بالمكافىء, ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ) رواه البخاري . واعلم أن من صلة الرحم الاتصال الهاتفي على الأقارب عند تعذر المقابلة , والاطمئنان على صحتهم , وسؤالهم عن أحوالهم , وتهنئتهم عند المحاب , ومواساتهم عند الشدائد والمكاره .
5- العيد مناسبة طيبة لتصفية القلوب , وإزالة الشوائب عن النفوس وتنقية الخواطر مما علق بها من بغضاء أوشحناء , فلتغتنم هذه الفرصة , ولتجدد المحبة , وتحل المسامحة والعفو محل العتب والهجران ,مع جميع الناس من الأقارب والأصدقاء والجيران . وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم : ( وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ) رواه مسلم . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث , يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا , وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) متفق عليه من حديث أبي أيوب رضي الله عنه ورواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وزاد : ( فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار ) وصححه الألباني . وقال صلى الله عليه وسلم: ( من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه ) رواه أبو داود , وصححه الألباني .
وماذا بعد رمضان ؟!
لقد تقضى شهر رمضان بأيامه ولياليه ودقائقه وثوانيه , ولئن كان ذلك الشهر موسماً عظيماً من مواسم الخير والطاعة فإن الزمان كله فرصة للخير والتزود للدار الآخرة , وليست العبادة خاصة بشهر رمضان بل الحياة كلها عبادة قال الله تعالى : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) [الحجر :99]. فعليك أيها المسلم أن تواصل أعمال الخير من الصلوات والصيام والصدقة والذكر وقراءة القرآن وسائر القربات . فإن من علامة قبول العمل اتباع الحسنة بالحسنة .
فبادر بالعمل قبل حلول الأجل , واغتنم حياتك وشبابك وفراغك وصحتك وغناك قبل حصول أضدادها . فقد قال صلى الله عليه وسلم : (اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك , وصحتك قبل سقمك , وغناك قبل فقرك , وفراغك قبل شغلك , وحياتك قبل موتك ). رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي وحسن إسناده العرابي .
أيها الصائم القائم , لئن كان رمضان موسماً للصيام والقيام فإن العام كله موسم للأعمال الصالحة , وإليك طائفة من الأعمال المشروعة في مجال الصلاة والصيام فاحرص على فعلها وتحقيقها :
1- صيام ستة أيام من شوال : ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من صام رمضان ثم اتبعه ستاً من شوال ك