المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بحــــــــــــــر المــــــــــــــــودة



صوت المطر
10-22-2003, 09:19 PM
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، محمد صلى الله عليه وآله وسلم .. أما بعد :


ما هي المودة ؟
هي الحب والمحبة، وإن كانت المودة أعم وأوسع . والحب الذي أعنيه هو:المودة بين الزوجين التي أخبر الله عنها، فقال:} وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[21]{ “سورة الروم” قال جمع من المفسرين:إن المودة: هي المحبة. وروي عن ابن عباس أنه قال: المودة: حب الرجل امرأته، والرحمة: رحمته إياها أن يصيبها بسوء .

سر السعادة الزوجية:
أن يقوم البيت على محبة الله وطاعته، الذي بيده وحده أن يوفق ويبارك، ويجمع بين هذين القلبين . فطاعة الله لها أثر كبير في الألفة والمحبة بين الزوجين، والمعصية لها أثر عجيب في كثرة المشاكل والخلاف، وعدم الوفاق بين الزوجين، ويكفي في هذا قول الحق:} وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ[30]{ “سورة القصص” قال ابن القيم رحمه الله:' وأما محبة الزوجات، فلا لوم على المحب فيها، بل هي من كماله- أي: من كمال محبة الله- وقد امتن سبحانه بها على عباده، فقال:} وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[21]{ “سورة الروم” فجعل المرأة سكناً للرجل؛ يسكن قلبه إليها، وجعل بينهما خالص الحب وهو المودة المقرونة بالرحمة'.

وقسم ابن القيم المحبة إلى قسمين: محبة نافعة، و محبة ضارة وقال:' فمن المحبة النافعة: محبة الزوجة وما ملكت يمين الرجل، فإنها معينة على ما شرع الله سبحانه له من النكاح وملك اليمين من إعفاف الرجل نفسه وأهله؛ فلا تطمع نفسه إلى سواها من الحرام، ويعفها فلا تطمع نفسها إلى غيره، وكلما كانت المحبة بين الزوجين أتم وأقوي؛ كان هذا المقصود أتم وأكمل...' .

من أسباب طرح هذا الموضوع:
أولاً: لقد تأملت أحوال الأزواج من خلال أسئلتهم، وعرض مشاكلهم الحياتية، فلاحظت خلال الحوار أن هناك أمراً عليه مدار أكثر المشاكل الزوجية إن لم يكن كلها، ألا وهو: المودة والمحبة بين الزوجين، ولقد توصلت إلى أن غياب هذا الأمر أو فتوره؛ سبب رئيس للفتور والملل في الحياة الزوجية، ويزيد الأمر علة: أننا نعيش عصر جنون الإعلام في وسائله، وسعار الجنس، والشهوة، وأفلام العشق والحب والغرام.

ثانياً: الجفاف العاطفي بين كثير من الأزواج، وعدم التعبير عن مشاعر الحب والمودة تجاه كل منهما، حتى وإن وجد هذا الحب، وهذه المشاعر إلا أنها تبقى مكتومة يثقل على اللسان إخراجها .

ثالثاً: غياب المودة، ومن ثم الاحترام والتقدير بين الزوجين بسبب الاضطراب النفسي، والقلق، والعصبية. وهذا الأمر ينعكس على الحياة الزوجية، بل على البيت والأولاد، بل على المجتمع بأسره.

رابعاً: لعل هذا الموضوع أن يكون لبنة في المحافظة على عش الزوجية من التصدع، وجعل البيت روضة غناء جميلة، مليئة بالحب والحنان، والتعاون والتفاهم، ليشعر كل من الزوجين أن بيتهما أجمل وأهدأ بقعة على الأرض، واجتماعهما فيه غاية الأنس والسعادة، وهل هناك شيء أجمل من لقاء الحبيب بالحبيب؟! والزواج: سكن للروح والنفس.. والبيت: سكن للزوجين معًا يشعران فيه بالأمن والاستقرار:

روحها روحي وروحي روحها ولهـا قلـب وقلبي قـلبـها
فلـنا روح وقـلـب واحـد حسبها حسبي وحسبي حسبها

إذاً: مفتاح السعادة لهذه المملكة الجميلة بيد الزوجين فقط.

خامساً: بيان حقيقة الحب، وجلاء أوهام الحب، وتوضيح لكثير من العبارات والأوهام التي تتردد على ألسنة المراهقين، سواء إن كانت المراهقة في السن أو الفكر، والتي شوشت على بعض البيوت المسلمة ومنها قولهم: الزواج مقبرة الحب.. الزواج بدون حب فاشل.. وغيرها مما سيأتي.

حقيقة الحب:

لنفهم حقيقة الحب، وما نريد من الحب، يقولون: الحب من أول نظرة.. والحب يصنع المعجزات.. والحب أعمى.. والحب عذاب.. ومن الحب ما قتل.. والحب يرد الكهل فتى.. وأقول قول الشاعر


إنما الحب صفاء النفـس من حقـد وبغـض
إنـه أفئـدة تهوى وتـأبى هتـك عرض
وجفـون حذرات تلمـح الحسن فتغضيه
إنني أكـره حبـًا يـجعل الفسق شعاراً

يجعـل اللذة قصـداً ويرى العفة عاراً

أعلن الحرب على أصحابه ليلاً ونهاراً

الحـب إخلاص وصفاء ونقاء

الحب عهـد ورسالة ومبدأ

الحب ماء الحياة، ولذة الروح، وبالحب تصفو الحياة وتشرق النفس، وبالحب تغفر الزلات، وتقال العثرات، وتشهر الحسنات،ويوم ينتهي الحب تضيق النفوس، ويكون البغض والمشاحنة والمشاكل، وإن كان للبحر ساحل، فإن بحر الحب لا ساحل له، فالحب الصادق بين الزوجين لا ساحل، له ليس له نهاية بدأ بأيام الزواج الأولى، وبسنته الأولى والوسطى والأخيرة من الدنيا، بل وفي الآخرة أليس الله تعالى يقول:} جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ...[23]{ “سورة الرعد”

إذاً:بالمودة والمحبة والتفاهم؛ يكون التعاون بين الزوجين على الصلاح والطاعة والخير، فالحياة الزوجية كائن حي يولد ويحيى ويموت، وهذا الكائن يعيش ويتغذى من تفاهم عقلين، وتعاطف قلبين وتجاذب جسمين. إذاً: فالحب وجدان شعوري مشترك، وأمر لا بد للإنسان منه.

ومن العرف الفاسد: أنه إذا أطلق لفظ الحب؛ انصرف إلى العشق والتغزل بالنساء الأجنبيات. الحب عندهم: خيانة وعشق ومجون، وجنون باللذة والشهوة العابرة، فها هي بلاد المسلمين تتعرض كل ليلة في القصف الجنسي من بلاد الغرب الكافر والذي يعيش جنوناً جنسياً محموماً، حتى أصبح العشق والحب والغرام من الأدواء التي انتشرت في مجتمعاتنا، وأصبحت من أهم القضايا التي تروجها وسائل الإعلام، وكأنها هي قضية الأمة الأولى والأخيرة! وكأن المسلم لا هم له إلا الجنس والشهوة! نسي أو تناسى هؤلاء أن الله عز وجل جعل هذه الغريزة في النفوس لأهداف سامية، وغايات عظيمة، وجعل لها آداباً شرعية، وأحكاماً فقهية؛ لنعيش في جنة الدنيا. والحب الصادق المبني على العفة والاحتشام بعيداً عن الفحش وبذاءة الإعلام فالحب تضحية وعطاء، وليس مجرد عز وادعاء، وهل يكون الحب ذا قيمة إذا خلا من لذة الطهر؟! وإذا ذكر الحب ذكر قيس وليلى.. وجميل وبثينة.
وكثير وعزة..وعنتر وعبلة، ولكن كم بين حب وحب! فالرابط بين هؤلاء رابط عاطفي، أرضي شهواني، وحبنا الليلة بين زوجين الرابط بينهما رابط شرعي سماوي رباني ، فحب الزوج لزوجته قربة وطاعة، وحب نافع به تحصل المقاصد التي من أجلها شرع الله النكاح: من غض للبصر والقلب عن التطلع إلى غير أهله، ولهذا يحمد هذا الحب عند الله وعند الناس . وأما المجنون، فلا يعرف إلا ليلاه يحيا لها ويموت من أجلها، أكبر همه أن تعطف عليه بنظرة، أو تجود له ببسمة، فشتان بين حب الزوج لزوجه، وبين حب المجنون لليلاه! فالحب الذي يربط بين الزوجين ليس أوراقاً ملونة ومعطرة -كما يتوهم بعض المراهقين- إنه بيت وأولاد وتبعات وهدف سام، بل نقول بثقة واطمئنان: إن الزواج بحلوه ومره؛ أجمل بكثير مما يرسمه خيال بعض الحالمين.

المودة في بيت النبوة صلى الله عليه وسلم:
يعلم الله لولا هذا الباب؛ ما تجرأت عن الحديث عن مثل هذا الموضوع، فها هو صلى الله عليه وسلم يضع لنا القواعد والأسس لبناء الحياة الزوجية من تقدير واحترام، وتودد ومحبة، ومكارم أخلاق؛ ليعلم كل الناس: أن في ديننا حباً ومودة ومشاعر وأحاسيس، ولكن العيب فينا، ومن الأمثلة على ذلك:
قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حديث أم زرع الطويل، وبعد أن استمع القصة الطويلة من عائشة بدون مقاطعة أو ملل، قال لعائشة- انظر أيها الزوج-: [ كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ] رواه البخاري ومسلم . يعني في الألفة والوفاء، فقد كان أبو زرع مع أم زرع بهذه الصورة فقالت عائشة- وانتبهي أيتها الزوجة للرد الجميل من الزوجة النبيهة-: [ لأنت خير لي من أبي زرع لأم زرع] رواه الطبراني والنسائي في الكبرى. قال ابن حجر:' وفيه- أي من الفوائد-: مداعبة الرجل أهله وإعلانه بمحبته لها ما لم يؤد ذلك إلى مفسدة تترتب على ذلك من تجنيها عليه وإعراضها عنه'.
وتأملوا هذا الفعل العجيب منه صلى الله عليه وسلم: فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: [ كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ فَيَشْرَبُ وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ] رواه مسلم والنسائي وأبوداود وابن ماجه وأحمد. و العرق: هو العظيم عليه بقية من لحم. وقولها:' أَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ ' أي: آكل عنه اللحم بأسناني، تقول: فيأخذ العظم، ويضع فاه على موضع في.. الله أكبر هكذا كان صلى الله عليه وسلم في إظهار المحبة والمودة لزوجته، وتأمل أيضًا: أن عائشة أكلت وشربت قبل الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولاشك أن الأولى: أن تبدأ الزوجة زوجها في الأكل والشرب وغير ذلك لكن لا بأس أن يتنازل الزوج أحيانا إظهاراً لمحبته لزوجه، وتقديراً لها.
وتفكروا في هذه الصورة والتي تظهر مدى المودة في بيته صلى الله عليه وسلم:عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: [ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ] رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبوداود وأحمد. تخيل هذا الموقف الجميل، وهذه الجلسة الرائعة بين الزوجين!! عبادة ومحبة ومودة.
ومن منهجه صلى الله عليه وسلم في المودة: معرفته لنفسيات أزواجه متي ترضى، ومتى تغضب، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قَالَتْ فَقُلْتُ مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ فَقَالَ أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلْتِ لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ] قُلْتُ: [ أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ] رواه البخاري ومسلم وأحمد . وهكذا ما أكثر المواقف في حياته صلى الله عليه وسلم.. تلك التي توضح حقيقة المودة والمحبة في التعامل مع الأزواج.

من مظاهر غياب المودة والركود في المشاعر والأحاسيس بين الزوجين:
أولاً: كثرة غضب وثورة الزوج لأي سبب: حتى وإن كان تافهاً، فالزوج غالباً ما يعبر عن فقد الحب، أو فتوره بأسلوب غير مباشر مثل: الغضب والفوران ولأسباب تافهة لا تستحق الغضب. أما المرأة فتصرح بحبها، أو بالسؤال، أو العتب المباشر عند فقدها المودة والمحبة.

ثانياً: مناداة الزوجة بغير اسمها: وهذا مشتهر في قول بعض الأزواج: يا هيه.. يا ولد.. ونحو ذلك مما هو مشتهر عند البعض، أو ندائها بصخب ورفع صوت. وقد بوب البخاري في 'الأدب المفرد' باب: 'كنية النساء 'عن عائشة رضي الله عنها قالت:' يا نبي الله ألا تكنيني، فقال: [ اكْتَنِي بِابْنِكِ عَبْدِ اللَّهِ] يَعْنِي ابْنَ اخْتهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ ،فكانت تكنى أم عبد الله . وإسناده صحيح .

ثالثاً: كثرة خروج الزوج وغيابه عن البيت وكذلك الزوجة: فالزوج للاستراحات والرحلات، والزوجة لأهلها، أو للمناسبات. ولو كان بينهما مودة وحب؛ لحرصا واجتهدا في تقليل ساعات الفراق. رابعاً: التبذل في الملبس والشكل من الزوجين: وخاصة المرأة، وتكون المصيبة مصيبتين عندما يكون التبذل للزوج والتزين لغيره، أو يكون التبذل داخل المنزل ويكون التزين خارج المنزل. وتجمل كل واحد منهما لصاحبه علامة المودة والمحبة

خامساً: عدم الاحترام والتوقير: والذي قد يصل للعناد والتسرع، وربما للسباب واللعان، وكلمات التنقص والازدراء بين الزوجين، وكثرة اختلاق المشاكل، فمرة بسبب المادة والراتب، ومرة بسبب الأولاد، ومرة بسبب الأهل وهكذا.. مشاكل لا تنتهي. والمشكلة الحقيقية:هي غياب المودة وبرود المشاعر، وتقصير الزوجين أو أحدهما في الحق العاطفي والجسدي للطرف الآخر، وربما حاول الزوجان علاج تلك المشاكل دون المساس بالمشكلة الحقيقية، فيكون البحث هنا بتعبير الفقهاء في غير محل النزاع. فلابد من التمييز بين المشاكل التي تنشأ بسبب برود العاطفة وفتور المودة بين الزوجين، وبين المشاكل الأخرى التي تتعلق بالأولاد، أو بالنواحي المالية، أو بالعلاقة بالأقارب وغيرها من أنواع المشاكل الأسرية. وأنا على يقين أن علاج المشكلة الأولى أعني: تطور المودة والمحبة بين الزوجين؛ عنصر رئيس في علاج الكثير من المشاكل الأخرى إن لم يكن كلها.

سادساً:الأنانية وحب الذات والتمسك بالرأي: واتهام كل منهما الآخر أنه هو سبب المشاكل، وهو الذي صبر وضحى ولكن لم ير أثراً لصبره وتضحياته .

سابعاً: كم من زوج أو زوجة فكر في الوقوع في الحرام: كالمعاكسات والزنا وغير ذلك. لماذا؟ بسبب الحرمان العاطفي، والتزام المودة بينهما، ومما زاد الطين بلة؛ وسائل الشر اليوم والتي تيسر الغرائز، وتحكي حياة الحب والعشق، وكلمات الغزل والتبذل، فيسمعها الأزواج، بل ويشاهدون الحركات المثيرة فتثير في أنفسهم العواطف والرغبة في محاكاتها، ثم تبدأ المقارنة بين ما يسمع ويشاهد، وبين واقعه الأسري الذي يعيشه؛ فيحدث ذلك هزة عاطفية في نفسه، فإن لم يكن في الحلال، فليس إلا القلق والتشنج، وكثرة المشاكل، وربما وصل الأمر للوقوع في الحرام- والعياذ بالله- فالظمآن في حاجة ماسة لشربة ما حتى ولو كانت ملوثة أو قاتلة .

الحب وحده لا يكفي:
وهذا أمر مهم، فإن هناك مجتمعات همها من الزواج فقط المتعة، ولا ترى في الحياة الزوجية سوى العشق والغرام وإلا فلا تستحق تلك الحياة الاستمرار- بزعمهم- ولذا سرعان ما يغير الزوجان، أو أحدهما الآخر بعاشق جديد.. وهكذا . أما المجتمع المسلم فلا يهمل جانب المتعة والمحبة بين الزوجين، بل يؤكد عليه دائمًا، ولكن هناك أهدافاً أخرى للحياة الزوجية ومن أهمها: النسل، وتربية الأولاد، وإحصان الفرج، وإتمام الدين، وتعارف الأسر وتقاربها . ومن تأمل وجد أن هذا مقدم على مجرد المتعة، ولا تعارض أصلاً بينهما، لكن لو لم تجد المودة والمحبة؛ فليس هذا نهاية الحياة الزوجية، وعدم نجاح الزواج، ويتضح هذا في قول الله:}وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ...[21]{ “سورة الروم”فقد بنى الله العلاقة بين الزوجين على أساسين: المودة والرحمة، فالمودة: الحب، وإذا نمت بين الزوجين؛ تمت السعادة واكتمل التوافق، فإن الحب يقضي على كل نقص، ويغطي كل عيب. وإن نقصت المودة أو ضعفت؛ فإن شيئًا آخر يحفظ الحياة الزوجية ويسيرها، ويكون السبب في بقاء العشرة وسلامتها، وهو الرحمة، فلم يقل سبحانه: مودة فقط، بل قال: ورحمة . قال ابن كثير:' }...وَرَحْمَةً...[21]{ وهي الرأفة، فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو لرحمته بها؛ بأن يكون لها منه ولد، أو محتاجة إليه في الإنفاق، أو للألفة بينهما وغير ذلك'. وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [ إن البيوت لم تبن كلها على المودة وقد بني كثير منها على الستر] وصدق رضي الله عنه، وبعض البيوت لا يوجد فيها حب ولا كره، فهي قائمة بالمعروف وحسن المعاشرة } وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ...[19]{ “سورة النساء” وقد جاء في بعض الإحصائيات أن:”88%” من الزيجات التي تتم نتيجة الميل العاطفي: الحب؛ انتهت بالطلاق.
وقد يتساءل البعض:لماذا تفشل أغلب الزيجات التي يسبقها ما يسمى بالحب؟! والإجابة سهلة فإن من يحب لا يستطيع أن يقوم الآخر، فهو ينظر إليه بعين العاطفة والميل الشديد إليه، ولا ينظر إليه بعين العقل، والتروي والتثبت، وبعد الزواج، وبعد هدوء العاطفة- والأصح العاصفة- ينكشف الغطاء، وتتلاشى الأحلام. بعكس الزواج الآخر حيث التثبت، والسؤال، وجمع المعلومات، والمشاركة من قبل الأهل والإخوان في تقويم هذا الشخص أيًا كان رجلاً أم امرأة .
إذاً: فلا يكفي الحب وحده لضمان الزواج الناجح، كما أنه من الممكن أن ينجح الزواج- ولو لم يكن هناك حب- إذا كان هناك رحمة، واحترام، وتقدير، كما قال تعالى:}وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ...[21]{ “سورة الروم” وهذا من رحمة الله جل في علاه .

الحب بين الزوجين يحتاج إلى وقت وتأسيس:
فإياكم والعجلة.. فالتوافق العاطفي والعقلي بين الزوجين يحتاج إلى وقت طويل، ولن يتم ذلك عادة دون أن يتنازل كل منهما عن بعض أنماط سلوكه، وعاداته القديمة، فتنبهوا . ويقع العبء الأكبر على المرأة خاصة في هذا المجال؛ لكونها تابعة للرجل، والمرأة الصالحة هي التي توافق زوجها فيما يحب ويكره، وتحرص على تحقيق رغباته ما لم تكن محظورة شرعاً . وهذه الصفة- أعني: التوافق- هي أحب وأفضل في نفس الرجل وعقله من أي صفة أخرى للمرأة، ومنها يتولد الحب، فبحسن التفاهم وطيب التعامل؛ ينمو الحب الحقيقي بين الزوجين على مر الأيام والشهور والسنين.

وأما قولهم الحب من أول نظرة:
فيكفي في رده قول الحق عز وجل:} أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[109]{ “سورة التوبة” فكل ما لايقوم على أساس متين؛ انهار.. فحب الخيال لا يكون إلا في عالم الأحلام، أو القصص والأفلام، ومن عاش الواقع؛ وجد الحب النافع .
فأوصي الزوجين: بالصبر وعدم العجلة حتى يتم التعارف والتآلف، وانظروا لهذا الزوج يقول- لقد كتب ذلك بيده-:' إليك تجربتي أرسلها لكل زوج وزوجة عسى أن تبعث المودة من بعد الموات: أنا شاب متزوج كان شرطي قبل الزواج أن أتزوج من فتاة فائقة الجمال وفقط، ولم أكن أريد شيئاً آخر غير ذلك، فخطبت من أكثر من عشرين بنتاً حتى تم الزواج، ولما كانت ليلة الزواج رأيتها؛ فلم أر فيها الجمال الذي كنت أطمح إليه ولا قريباً منه، وكدت أصاب بالإحباط، بل حتى والدي لما رآها قال لي: إنها ليست جميلة، وفيها كذا وكذا من المواصفات غير المرغوبة، وكأنه يحثني على الفراق، فما كان مني إلا أن قررت الصبر قليلًا ثم يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فرأيت أثناء هذه المدة من جمال روحها، وحسن عشرتها، وطيب تعاملها، وصدق محبتها، وطاعتها وحشمتها ودينها؛ ما جعلني لا أرضى بها بديلاً ولو أجمل فتيات الدنيا. وأكثر شيء يجذبني إليها أداؤها للصلاة في وقتها، وقيامها الليل، وسرعة تنفيذ ما أطلبه منها على أكمل وجه وبطيب نفس.. لا أكتم أنني أحبها الآن أكثر مما كنت أطمح إليه قبل الزواج من تلك الجميلة المزعومة، وإنما الجمال الحقيقي هو جمال الروح لا جمال الوجه المزيف، فهل يعي ذلك الشباب ويعي ذلك الفتيات؟! أرجو ذلك' انتهي كلامه .
وذكرني هذا بمن يقول: الزوجة الذكية هي التي تستطيع أن تزرع الجمال في قلب الرجل وإن لم تكن جميلة- تقولين: لي كيف؟- أقول: ينبغي أن تكون قادرة على الإلهام، والإيحاء، والإبداع في حياتها الزوجية، فتأملي أيتها المرأة.. قام جمال كلامها وخُلُقِهَا مقام جمال خَلْقِها، فهل تعين ذلك؟

أوهام الحب:
وأتمنى أن يتنبه لهذا المراهقون من الشباب والفتيات، الاندفاع وراء أوهام الحب لتأسيس الحياة الزوجية أمر يجب التنبه له ولخطورته فهو خداع فني وزيف إعلامي، تدغدغ به العواطف، وتثار به المشاعر، فالحب الحقيقي لا يمكن اكتشافه وظهوره إلا بعد الزواج، حيث تتاح الفرصة الحقيقية لإظهار المودة، وتبادل المنافع، وترجمة الكلمات المعسولة إلى عمل، والعقد الشرعي دليل على جدية هذا الحب، ودليل على صدق النوايا والمشاعر والعواطف، فالحب الجاد رجولة وتحمل للمسئولية. أما قبل هذا كله، ففي ادعاء الحب نظر، فالتغني والتغزل سهل ميسر لكل مدع، ولو أعطي الناس بدعواهم؛ لادعى الخلي حرقة الشجي، فلا يصدق الحب، ولا يتم إلا بعد الزواج، فبه تسكن النفس من الصراع.. ويكف النظر عن التطلع للحرام.. وتطمئن العواطف، فتخرج صادقة بريئة بما أحل الله، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج. وأما الحب الذي يصوره لنا الغناء، والقصص، والمسلسلات ما هو إلا نسيج أحلام تنشأ عن الأماني والتصورات، ويجعل الإنسان يري فيمن يحب صورة الرجل المثالي أو المرأة المثالية التي لا يمكن أن يحياها الإنسان في عالم الواقع والحقائق تقف في طريقه حجر عثرة، ومن أجل ذلك كان أكثر الناس فشلًا في الزواج ممن يسمون بالفنانين.



من محاضرة: بحر المودة للشيخ/ إبراهيم الدويش

==================================
منقوووول