المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ومضات حول بناء الذات



موسى بن ربيع البلوي
03-17-2004, 01:05 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
ومضات.. حول بناء الذات

كمال المصري - 04/11/2002م


إن صح أن للمسلم معركة، فهي معركة بناء الذات، إنها معركة المسلم مع نفسه، وهي معركة سلمية في أساسها، إنها صراع ذاتي لاستعادة الهوية، ورسم معالم الشخصية، وظهور هذه المعالم الشخصية للفرد المسلم والمجتمع المسلم.

كل ما يريده الإسلام هو أن نبني أنفسنا من الداخل، أن نوجد فيها الخير والعزم والإرادة، وأن نجعل صراعاتها خارج النفس لا داخلها، أن تكون حرب الدنيا المهلكة حربًا خارج النفس لا داخلها، فليس المسلم شخصا يضبط طبيعته، يقهرها مرة وتقهره مرة، ولكن طبيعته تضبط شخصها فهي قانون وجوده.

ولعل شهر رمضان الخير هو الوقت الأنسب للقيام بهذا البناء، بل لعله فُرض على المسلمين لأجل ذلك، فهو بما فيه من طاعاتٍ وعباداتٍ وأخلاق، البيئة المثالية لبناءٍ يتأسس على تقوى من الله تعالى، ويكون أثبت من الجبال الرواسي.

لماذا الدعوة لبناء ذات المسلم؟

لأن فشل الإنسان في بناء ذاته يعني فشله في اتخاذ قراراته بوعي، وإخفاقه في القدرة على الفعل.

إن الحرية هي القدرة على الفعل والتأثير في الآخرين، ومتى ما أصبح الفرد قادرا على امتلاك ناصيته فإنه سيملك إرادة الفعل والقدرة على التأثير.

لذلك فإن أزمة الأمة الحقيقية هي فقدان الفرد المسلم لقدرته على التحكم بذاته، وهذه الأزمة خلَّفت ركامًا هائلاً من الضعف، والوهن، والتخلف، والتبعية، وجعلت المسلم عاجزًا عن استخدام فكره وحيويته لتحقيق وجوده الإنساني، وهو السبب الذي خلقه الله تعالى له، وهو الدور الذي قام به الأنبياء والرسل عليهم السلام، عبر بث الروح والحياة في الفرد، وإيجاد روح التكامل الذاتي فيه، وإيقاظ عنصري الحرية والفعل في نفسه، ومن ثَمَّ بث كل ذلك في المجتمع.

لقد عبَّر القرآن الكريم عن ذلك تعبيرًا بديعًا حين قال تعالى مبيِّنًا حكمة بعث محمدٍ صلى الله عليه وسلم: "وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ".

إنه إذن تحرير الإنسان من مخاوفه، من قيوده وأثقاله، ثمَّ بث الثقة بقدرته وحريته، وتحريك روح المسئولية في داخله، ليعطي انعكاسًا حقيقيًّا للمسلم في عالمه الخارجي. وتناغم ذات المسلم وداخله مع خارجه يأتي بالمعجزات.

كيف نبني ذواتنا؟؟

يقوم بناء الذات على نقطتين أساسيتين:

1- تأسيس.

2- إلغاء.

1- التأسيس

يكون عبر إيجاد الوعي كحاجة من الحاجات الأساسية في بناء الشخصية والخبرة والكفاءة، وهذا يأتي من روافد عدة:

- متابعة الأحداث يوميًّا وباستمرار:

بدءًا بما يجري في محيط العالم الإسلامي، ثم ما يرتبط بهذا العالم من أحداث تحدث خارجه، ثم ما يحدث في العالم كله.

وينبغي أن تكون هذه المتابعة واعيةً ناقدة، لا مجرد استعراض أو قبول مطلق بكل ما يقال، ولكن إيجاد نظرةٍ ثاقبةٍ تقرأ ما بين السطور، وتربط ما بين الأحداث، وتفهم ما أمامها وما وراءها.

ويجب ألا تقتصر هذه المتابعة على وسيلة دون غيرها، أو رافد دون سواه، بل كلما نوعنا الوسائل، وكلما وسعنا دائرة الروافد، كان العائد أكبر وأكثر إفادة، فلا نقتصر على الجرائد فقط، أو على التلفاز، وإنما نقرأ هنا، ونطالع هناك، ونستمع للمذياع، ونتابع المواقع على الإنترنت، ولا نكتفي عادةً بجريدةٍ أو محطة تلفازٍ واحدة، وإنما ننوع ونشكِّل.

- القراءة كنزٌ لا يفنى:

فالقراءة هي الوسيلة الممكنة لكل فرد في عملية التثقيف الذاتي، ومجتمع المسلمين هو مجتمع "اقرأ". ولنفهم كم من المعلومات يمكن أن نحصِّله من القراءة نقوم بحسبة بسيطة: لو قلنا إن من سيقرأ في العشرين من عمره، وقرر أن يحصل على معلومةٍ واحدةٍ فقط كل يوم، إذن هي 365 معلومة في السنة، فلو قرأ هذا الشخص لمدة عشرين عامًا فقط، فتكون حصيلة معلوماته: 365 × 20 = 7300 معلومة، ولنتخيل كم سيتضاعف هذا الرقم لو بلغ عدد المعلومات اليومية 5 أو 6 أو 10 معلومات.

فالقراءة خطوة أساسية في برنامج بناء الذات وخلق الوعي، والمطالعة هي مفتاح المعرفة. وكي تكون قراءةً حقيقيةً مؤسِّسة، يجب أن تكون متنوعةً متعدِّدة المشارب والعلوم، ولا تقتصر على ما نحبُّ من علومٍ دون غيرها، فنقرأ في معظم المجالات، ونهتم بمعرفة كل ما يمكننا معرفته.

وخير القراءة التي تبني الذات هي القرآن الكريم، ورمضان الخير هو شهر القرآن الكريم، فلنجعله فعلاً شهرَ القرآن الكريم، فيكون القرآن الكريم وسيلة قراءتنا الأهم، ونستمر على ذلك ما حيينا.

ويمكن الاطلاع على كيفية القراءة بمنهجية عبر الرابط التالي: في حفظ القرآن.. تقوية الذاكرة.. القراءة المنهجية: كلمات وبرامج

- المشاركة في البرامج المنظمة والدورية:

فهذا يخدم مشروعات تنمية الذات، كالتدريب على مهاراتٍ معينة كالرسم والخط والنجارة والكهرباء وإصلاح السيارات، أو كتعلُّم دراساتٍ معينة كاللغات، والكمبيوتر، والإنترنت، والدراسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ثم ممارسة وإتقان ما يمكن إتقانه من كل ذلك، وحبَّذا لو بدأنا بما يوافق ميولنا وهواياتنا، لأننا حينها سنكون أكثر إتقانًا وإبداعًا.

- إعداد الدراسات والأبحاث:

ويفضَّل أن نبدأ بما نحب، وأن تكون بالكيفية التي تتناسب وخصوصيات مجتمعاتنا، لتوفير تراكم معرفيٍّ حول القضايا الحيوية، ولخلق حوار حول الموضوعات، والإنترنت وسيلةٌ تسمح لنا بالبحث والحصول على المعلومة وإعدادها بشكلٍ جيدٍ وسهل.

- توجيه المواسم والمناسبات الدينية والاجتماعية:

من الجيد توجيه هذه المواسم في خدمة بناء الذات وخلق الوعي، وأخص بالذكر شهر رمضان لما له من قدرة على تغيير أنماط وعادات الحياة، وتصحيح مسارات سلوك المسلم، إضافةً إلى ما يتمتع به الشهر الكريم من خصوصيات اجتماعية وتربوية ودينية وثقافية.

- اكتب فليس المرء يولد كاتبًا:

كثير منا من قد يملك مهارة الكتابة، ولكن لم تُتح له الفرصة ليكتشفها، وكم خسرت أمتنا أساليب كان من الممكن أن تحرِّك الجبال لو ظهرت ومارست وتدرَّبت، لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا" رواه البخاري، لذلك كان الأسلوب وسيلةً مهمة في توصيل المعلومة، فما كل من كتب قد كتب، وما كل من خطَّ قد أثَّر، وكلنا يشهد بانجذابه لكاتبٍ دون آخر، واقتناعه بأحدهما رغم أنهما قد يكونان قد عالجا القضية نفسها.

والكتابة لا تقتصر فوائدها على من يقرأ، بل هي في الأساس من أنجع الوسائل لتنمية الذات، ولنتخيل رجلاً "أدمن" الكتابة، وكتب في كل ما يجيد الكتابة فيه، ترى هل سيتوقَّف قلمه؟ إنه محتاجٌ لزادٍ جديدٍ يمارس عبره إدمانه هذا، حينها سيقرأ ويقرأ ويقرأ، وستبقى القراءة مفتاح قلمه ومحركه.

إن إهمالنا لإيجاد الوعي في نفوسنا وفي أمتنا يسبب العديد من المشاكل التي تصل بنا إلى الضياع، ومن هذه المشاكل:

- عدم فهم اللغة التي يتخاطب بها الناس من حولنا، سواءً على مستوى الألفاظ ومدلولها، أم على مستوى الأساليب وأبعادها.

- عدم القدرة على استقراء اتجاهات الأحداث في العالم.

- العجز عن وضع الخطط المناسبة للتحرُّك.

- الوقوع في تناقضاتٍ حول الخطوات المناسبة للعمل.

- السقوط في مصيدة الاختراق الفكري، ممَّا يبلبل الأمة.

- عدم الاستفادة من الفرص المتاحة مما يؤدي إلى ضياعها وخسارة الأمة بسبب ذلك.

- فقدان الثقة بالنفس.

- آخرها وأهمها ضياع الفرصة على العالَمين بالاطلاع على نور الهداية حين يعجز أهل هذا النور عن حمله حق حمله، والقيام بواجبه كما أمر ربنا سبحانه وتعالى.

2- الإلغاء

مرحلةٌ تسبق وتتواكب وتلي مرحلة التأسيس، وهي في كل أحوالها مبنيةٌ على قيام المسلم بتفريغ قلبه ونفسه من كل داءٍ أو علةٍ أو مرض، ومن كل ما تتركه هذه الآفات من آثار وترسُّبات ضارة، فعملية البناء كي تتم بشكل مناسب يجب أن تتم عملية طردٍ وإحلال، طرد لكل الآفات وترسباتها، وإحلال مكانها مبادئ بناء الذات وسلوكياتها، وما لم يبنِ المسلم نفسه على أساسٍ نقيٍّ متين فسيبقى بنيانه على حرفٍ وعلى شفا جرُفٍ هارٍ يوشك أن يتهاوى ويقع.

إن على المسلم أن:

- يراجع نفسه باستمرار، ويلاحظ سلوكياتها، ويقوِّمها.

- يحاسب نفسه بدقةٍ مع كل خطأٍ يخطئه أو هفوةٍ يقع فيها، من أين أتت؟ ولِمَ وقعت؟ وألا يترك الأمر للظروف.

- يتخلَّص من أمراض السلبية والإهمال والكسل والجهل والرجعية أيًّا كان شكلها أو موضوعها.

- يثق في دينه وينتمي له، ويتخلى عن التبعية لأي كيانٍ أو جهةٍ غير دينه وربه تعالى.

إن استخدام العديد من المسلمين لكلماتٍ مثل "قدَّر الله وما شاء فعل"، "خيرًا إن شاء الله"، وغيرها لتبرير خطأٍ وقعوا فيه بسبب الإهمال أو قلة المبالاة لهو استخدامٌ خاطئٌ للشرع، فما كان الله تعالى ليسامحنا على إهمالنا، ولا كان تقديره سبحانه لتبرير لا مبالاتنا.

هذه الكلمات تُستخدَم حين نقوم بواجبنا حق القيام، ونأخذ بالأسباب، ثم تكون النتائج على غير ما نتوقع، حينها يكون قدر الله تعالى، ويكون فيه الخير إن شاء الله تعالى وإن بدا غير ذلك.

الإلغاء ليس أمرًا صعبًا:

لقد قال الله تعالى: "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها"، وقال سبحانه: "وهديناه النجدين"، وقال جلَّ شأنه: "إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا".

هذه الآيات الكريمات تبين أن الإنسان في أعماق نفسه مفطورٌ على الخير. ومعنى "ألهمها": أفهمها، ومعنى "هديناه": عرَّفناه، وكلاهما يحصل بالوعي والإدراك والعقل، فالإنسان ليس –كما يظن الكثيرون- مجبولاً على الخير والشر معا، وأن الأمرين موجودان في فطرته، ولكن النفس البشرية بطبيعتها سوية، والانحراف أمرٌ طارئ تواجد بفعل عوامل خارجية، طمست على قلب الإنسان، وحجبت وعيه وإدراكه، ولا يوجد في الآيات ما يشير إلى أن الشر والفجور طبيعة نفسية قد فطر الله تعالى عليها الإنسان، وما دام الشر بكل أشكاله أمرًا طارئًا وليس أصيلاً في النفس، فالسيطرة عليه وإلغاؤه لن يكون أمرًا صعبًا إذا صدقت النية وصحَّ العزم، ووافق هذا الإلغاء ملء المكان وتأسيسه على تقوى من الله ورضوان.

مسألة بناء الذات بشقيها "التأسيسي" و"الإلغائي" هذه مسألة ضرورية وأساسية كي يبني المسلم بعد ذلك مجتمعه وأمته والعالم من حوله، ولو سأل الإنسان نفسه لماذا تركنا -نحن المسلمين- سبيل التقدم وقيادة الركب، وقام بها الآخرون، بالرغم من أنَّ لدينا أمرًا صريحًا من الله تعالى بأن نكون أمة الشهادة والقيادة؟ فالإجابة أنَّ قيادة الركب يجب أن تتمَّ بغضِّ النظر عمَّن سيقوم بها، وهذه سُنَّة الله في الكون، التي ستحدث بالتأكيد، والأمر متروكٌ بعد ذلك للمسلمين، يستفيدون منها بكونهم الأوفق مع سنن الكون أو لا، فالله سبحانه وتعالى قال: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيَّن لهم أنَّه الحقّ"، ولو وعى المسلمون هذه الآيات وفهموها، وبنوا بها ذاتهم وثقافتهم، لكانوا ساعدوا أنفسهم وقادوا العالم، وقاموا بدورهم المنوط بهم.

لقد جاءنا شهر الفضائل رمضان ليكون الفرصة السانحة الذهبية للقيام بعمليتي التأسيس والإلغاء، فنؤسس أنفسنا تأسيسًا متينًا في ظل إيمانياته وروحانياته وبركات الله تعالى المتنزلة علينا فيه.

وكما رمضان يخلصنا خلاله من بعض العادات السيئة، فلنجعله مفتاح إلغائنا لكل ما نفوسنا من سيئات، فتفرغ وتتخلص وتتنقى، وتعود كما خلقها الله تعالى بيضاء لا تشوبها شائبة، فنحسن حينها البناء.

إن بناء الذات يجب أن تظهر نتائجه في تفعيل هذه الذات، فإنما الأفعال مغاريف القلوب، والسلوك مصداق القول، وهذا التفعيل يحتاج إلى بسط و تفصيل في مقام آخر بإذن الله.

موسى بن ربيع البلوي
03-18-2004, 01:31 AM
تفعيل الذات.. بل تفعيل الكون!(1)

كمال المصري - 30/01/2003





إذا كنتُ قد تحدثتُ عن بناء الذات، أسبابه وأقسامه ووسائل تطبيقه، في المقال السابق: ومضات حول بناء الذات

وأشرت في آخره إلى أن هذا البناء يجب أن يستتبعه التفعيل، فإنما الأفعال مغاريف القلوب، والسلوك مصداق القول، ولا خير في علمٍ لا يتبعه عمل، فإذا كان بناء الذات معناه: "من أنت؟"، فتفعيل الذات يعني: "ماذا فعلت؟".

تبدأ عملية تفعيل الذات بجوانبها المختلفة عندما ينبع في عقل المسلم وقلبه نبع الوعي وإرادة الفعل، فيغدو كالنهر المتدفق الجاري المتجدد الذي يضفي خيره على النفس والمجتمع والعالَمين.

أما عملية التفعيل في ذاتها فلها جوانب أربعة:

الجانب الأول: تفعيل الذات مع الله تعالى.

الجانب الثاني: تفعيل الذات مع النفس.

الجانب الثالث: تفعيل الذات مع الأمة.

الجانب الرابع: تفعيل الذات مع الآخر.

نتناول في هذا المقال الجانبين الأولين منهما، على أمل أن نستكمل الجانبين الآخرين في مقال لاحق بإذن الله تعالى:

الجانب الأول: تفعيل الذات مع الله تعالى:

أما وإن المسلم عبر بنائه لذاته قد عرف من هو، فإنه في تفعيلها عليه أن يعرف ماذا فعل، وهذا التساؤل يطير بجناحين: جناح "ماذا فعلت مع ربك؟"، وجناح "ماذا فعلت مع نفسك؟".

والحديث هنا عن فعل العبد مع ربه تعالى، فإذا أحسن المسلم فعله نحو ربه سبحانه، فسيحسن فعله مع نفسه، وإذا أحسن فعله وفعَّل نفسه، غدا فعله في المجتمع والآخرين نتاجًا حاصلاً لا محالة، لذلك كان تفعيل الذات مع النفس مفتاح الدنيا والعالم والكون كله.

ومفتاح تفعيل الذات مع النفس هو في فعل النفس مع ربها جل شأنه؛ فعلاقة المرء بربِّه أمرٌ ينبغي أن يضعه المسلم نصب عينيه، وأن يتذكَّر ليل نهار كيف ومع مَن يتعامل، وأن تبقى آيات رحمة الله تعالى به وفضله عليه أمام ناظريه، يتذكَّر: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف:156)، و{مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} (فاطر:2)، وإذا مسَّه سوءٌ قرأ: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} (الزمر:36).

وعندما يرى مظاهر رحمة ربِّه سبحانه إذا بلسانه يذكر: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذاريات:21)، {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (الروم:50).

وإذا يئس إذا بذهنه يذكِّره بسعة رحمته جل شأنه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53)، ثم يكتشف قول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة:186)، فيتقرب أكثر وأكثر، ولا يجد أمامه مفرًّا من أن يعمل ويعمل ويعمل، كي يقترب من مولاه وخالقه أكثر وأكثر وأكثر.

وعندما يحب المسلم إلهه وربه جلَّ وعلا حقَّ الحبِّ، تتحرك كل صغيرةٍ وكبيرةٍ فيه إلى طاعته وابتغاء رضوانه، وإذا بهذه الطاعة تتحول بذلاً وفعلاً للخير يلقي بثمره على كل من يدنو من فيء هذا المسلم وظله.

أما كيف نحب ربنا تعالى وتزداد صلتنا به فالأمر ليس سهلاً وليس صعبًا في الوقت ذاته؛ فالقرب من الله تعالى له عناءٌ لذيذٌ لا يستشعره إلا من سعى إليه، ولا يهنأ به إلا من وصله وناله.

وبرامج الحب والقرب والوصال متعددةٌ كثيرةٌ بفضل الله تعالى، منها:

1- الالتزام الكامل بالعبادات:

فلا صلاة تفوت، ولا الجماعة تُترَك، ولا الفجر تتغافل عنه العيون، ويؤدى الصيام بحقه كاملاً غير منقوص، وتؤتى الزكاة بلا شح أو بخل أو حتى تردد، وللحج مقامٌ عظيمٌ لو نعلم قيمته لسعينا إليه سعيًا، حين نعلم أنه لقاء الرحمن الرحيم، وأننا أضيافه، ومن أكرم من الله تعالى مع أضيافه وأجود؟!

2- الطاعات.. الطاعات:

- قيام الليل مدرسة المؤمنين ومناجاة رب العالمين.

- صيام الإثنين والخميس والأيام المخصوصة باب آخر لمناجاة رب العالمين، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: "كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به" متفق عليه.

- القرآن الكريم: كلام الله تعالى وحديثه، ونهج القلوب والعقول.

- الأذكار والأوراد: رطابة اللسان، وزكاة القلب من شوائبه، واستكمال ما نقص من العبادة، والتواصل الدائم بالله تعالى في كل وقتٍ وأوان.

ليجعل المسلم لنفسه من كل ذلك أورادًا محددةً يلتزم بها، وهناك غيرها كثير، وليؤكد دائمًا على إخلاص النية، وحسن الأداء وإتقانه.

3- إيمان المعاملة وفعل الخير:

فالمسلم إنسانٌ ممتدٌ بنفعه إلى العالمين، وحسن المعاملة جزءٌ لا يتجزأ من دينه، والمسلم مأمورٌ بإحسان التعامل مع الناس، والتبسم في وجوههم، واللين، والرفق، والأناة، والحلم، وضبط اللسان، وحفظ الأعراض، وعدم التجسس والغيبة، وغير ذلك من المأمورات والمنهيات التعاملية التي لا يمكن إلغاؤها بحال.

كما أن المسلم مأمور بإعانة المحتاج، وإغاثة الملهوف، وتفريج كرب المكروب، وبذل الخير، كل الخير، بأي شكلٍ، وبأي صفةٍ، وفي أي وقت.

يفعل المسلم كل ذلك من منطلق الإيمان، ومن باب التقرُّب إلى الله تعالى وتوطيد الصلة به سبحانه، لا من أي باب آخر، ولو فعل المسلم ذلك من هذا الباب لزاد رصيده الإيماني تمامًا كما تفعل العبادة والطاعة به، فهما صنوان: إيمان العبادة والطاعة، وإيمان المعاملة، لا فضل لأحدهما عن الآخر، لو كنا نعلم.

الجانب الثاني: تفعيل الذات مع النفس:

يلحق جناح "ماذا فعلت مع نفسك؟" بأخيه "ماذا فعلت مع ربك؟"، ليسأل المسلم: ما ملَكاتك وقدراتك التي خلقها الله تعالى فيك، وكيف عليك أن تؤدِّي حقَّها؟

فتكون الإجابة الحتمية اللازمة: بصيانة ما وهبني الله تعالى، وتنمية ما أفاض عليَّ من قدراتٍ وملكاتٍ خاصة، ثم أستخدم كل ذلك لدعوة العالَمين وخدمة هذا الدين كزكاةٍ لكل ذلك الفضل وتلك النعم.

أصون عقلي ونفسي وجسمي وجوارحي من كل سوء، فلا مجال للمسكرات بأنواعها، ولا لاشتغال الذهن فيما يضر أو لا يفيد.

ولا اقتراب من مواطن الشبهات، ولا مكان لقلة العزم وضعف الإرادة وفقدان الثقة، ولا إهمال لجزءٍ من جسمي حتى يعلوه الصدأ وتتملكه العلل.

ولا فرصة لخطأ الجوارح وتجاوزها؛ فالبصر يُغَضُّ، والأذن تُصَمُّ عن كل ما هو محرم أو حتى لا فائدة منه، واللسان -مصدر الهمِّ والهلاك- أخرس أبكم عن كل باطل، صادقٌ لاذعٌ في قول الحق، واليدان والرجلان تصدق ذلك وتعين عليه وتثبته، تسير إلى الخير، وتسعى إليه، دون كللٍ أو تعب، وإجادة العمل الذي يقوم به وإتقانه ركن أساسيٌّ كذلك.

والحق أن الإجادة والإتقان في كل شيءٍ هو رمز المسلم وعلامة وجوده.. من إتقان العبادة والطاعة والمعاملة، إلى إتقان المهام والواجبات في العمل وفي البيت وفي المجتمع وفي الأمة، وفي النفس وفي الأولاد وفي الأهل وفي البشر أجمعين.

ولا أتوقف عند هذا، بل أنمي ما وهبني الله تعالى من ملَكاتٍ خاصة مخلِصًا في ذلك لله رب العالمين، قاصدًا بها نفع المسلمين وعونهم، فمَن يهوى العلم والبحث فليجتهد وليبلغ منازل العلماء الأفذاذ والمخترعين والمكتشفين، ومَن مجاله الإلكترونيات أو الكمبيوتر أو الجيولوجيا أو القانون أو الشريعة أو.. أو.. فليجتهد ولا يدخر وسعًا في ذلك، ومَن مهاراته يدوية كالنجارة والحدادة والكهرباء فمجاله كذلك مهمٌّ وإتقانه أساسيّ، ومَن يميل للرياضة فليحسن بناء نفسه وإعدادها وليتميز فيما يجيد.

وما التاجر عن ذلك ببعيد، فإن كان كما وصفه رسولنا صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى" رواه البخاري، إن كان كذلك فقد حقق دوره المطلوب منه، "وكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِق له" كما يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه.

وما دام الأمر كذلك، فكل واحدٍ في مجاله هو أقدر الناس على إتقان مهمته، وتيسير الله تعالى وعونه معه، فلا يقصِّر أو يتكاسل.

يفعل ذلك كل مسلمٍ في مجاله وتخصصه والحقل الذي هو فيه، بالفكر والجسم، لا يستصغر فيها أحدٌ نفسه ولا جهده ولا قدرته، فكلٌّ له دورٌ لا يقوم به إلا هو، وبدونه لن يسير أحد، ولا عبرة هنا لحجم الأعمال ومسمياتها، ولكن العبرة في إتقانها وإخلاصها كي تحقق دورها في منظومة الاستخلاف في الأرض التي أمرنا الله تعالى بها، وأمة الخيرية التي جاءت لهداية العالَمين.

ولا مجال من قريبٍ أو بعيدٍ للـ"أنا"؛ لأن الإنسان لا يكون شيئًا ولا يرتقي إلا بقدر تفاعله مع مصلحة الأمة، بحيث ينسجم معها، ويعي بأن مصلحته تتحقق عبرها، وعندما يسعى المسلم ويتحرك في إطار مصلحة الأمة فإنه ينسجم ويتفاعل ويتطور أكثر، ونقيض ذلك يحدث حين ينغلق على نفسه ولا يرى إلا ذاته، فالانغلاق على المصالح الشخصية وتفويت العامة منها يجمد الفرد ويعزله عن المجتمع، ويُفقِد المجتمع كيانه، فيفقد غاية وجوده، فيهلك ويهلكون جميعا.

تغدو هذه الحقيقة غايةً في الوضوح حين نقرأ قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر9-10).

وهذه رؤى تعبر عن القمة التي يصل فيها الفرد في نكران ذاته، ثم كيف يفعلها لصالح بناء ذات الأمة.