المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة كاملة لم يؤلفها بشر



موسى بن ربيع البلوي
02-03-2008, 01:51 AM
من روائع الشيخ علي الطنطاوي .. رحمه الله




قصة كاملة.... لم يؤلفها بشر



كنت أسرد في الذكريات أحداث حياتي ، فقال قوم : هلا نوعت الأساليب وذكرت ما مر بك من وقائع الناس ، ولم تقصر حديثك على نفسك ، فجربت أن أصنع ما قالوا ، فسردت خبر واقعتين ، عندي من أمثالهما الكثير ، فأعجب بهما جل القارئين ، وقال ناس : إنها ممتعة ، ولكنها ليست ذكريات .

قلت : ولِمَ لا تكون من الذكريات ؟ وهل الذكريات إلا ما وقع لي أنا ، وما رأيت وما سمعت به أو قرأته ، ولقد قرأت في هذه السنين التي عشتها من القصص الأدبية ، وقصص المغامرات وما يسمونه : ( القصص البوليسية ) ما لا يحصيه عد ، وعملت فترة من عمري – نحو سنة 1930 م – في الصحافةناقدا مسرحيا ، أشهد الرواية ، أو أرى الفلم في السينما ، فألخصه وأنقده ، وعندي بقية مما كتبت في ذلك منشورة تملأ كتابا صغيرا .

ولكني لن أعرض في الذكريات لشيء منه بل ألخص وقائع أغرب من القصص ، ما ألفها أديب قصصي ، ولا عمل فيها خيال روائي ، بل ألفتها الحياة ، فجاءت بأحداثها ومصادفاتها ، وبداياتها ، وخواتيمها ،أبلغ مما ألف القصاص من الأدباء ، هذه التي أعرض بعضها في هذه الذكريات ، وما تخيلت أحداثها تخيلا ، ولكن أخذت ما وقع فصغته بقلمي هذه الصياغة التي ترونها . وإنكم لتحسبون من إحكامها وترابط أجزائها ، أنها منقولة عن أهل الخيال من الأدباء ، وأنا أؤكد لمن لم يصدقني منكم بأنها واقعة .

ومن الوقائع ما هو أغرب من الخيال .

ِكنت ذاهبا إلى بيروت من أكثر من أربعين سنة ( نشرت هذه في 27/ 11/ 1986 م في جريدة الشرق الأوسط ) في سيارة صغيرة ، لصديق لي ، فلما جاوزنا شتورا وبدأنا نتسلق الجبل ، مرت بجنبنا سيارة " شيفروليت " من المقياس الواسع ، جديدة مسرعة ،فمشينا وراءها ، وإذا هي تسابق السيارات ، كلما رأت سيارة أسرعت حتى تسبقها ، فيصيح من فيها ويضحكون ويصفقون ، فلما رأينا ذلك تأخرنا عنها ، ولكننا لبثنا نراها ، حتى إذا وصلت إلى المنعطف الكبير ، حيث يمشي الطريق على شفير الوادي ، يشرف على سهل البقاع ، رأيناها تحاول أن تسبق سيارة صهريج كبيرة من التي تنقل البنزين ، ضخمةكلها من الحديد ، وكانت تريد أن تدور ، فلم تنتظر السيارة الصغيرة دورانها ، بل زاحمتها ومرت من جنبها ، فمال الصهريج عليها ، فصدمها ، فلم نرها إلا وهي ساقطة في الوادي ، تتدحرج كأنها كرة قذفتها قدما غلام ، فدهشنا ووقفنا سيارتنا ووقفت السيارات المارة كلها ، ونزلنا نرى فلم نصل إليها إلا بعد ربع ساعة ، فوجدنا أطفالا ثلاثة وبنتا في نحو التاسعة قد أصابتهم خدوش وجروح ولكنهم أحياء ، ووجدنا فتاة شابةإلى جنب السيارة قد أصابها الإغماء ولكن يبدو أنها سليمة ، أما باقي الركاب فقدصاروا عجينة واحدة ، منظر من أفظع المناظر التي يمكن أن تراها العين ، قد اختلط فيها اللحم والعظم ، منظر لم أر مثله إلا مرة أخرى سنة 1970 م في الطريق الدولي في ألمانيا ، عند ( دوسلدورف ) – إذ تمشي السيارات في المسرى الأيسر من الطريق بسرعة تزيد دائما عن المائة والخمسين كيلا ، فإذا وقفت واحدة منها فجأة ، لم تستطع التي وراءها أن تقف فيكون هذا الصدام الهائل – فأسعفنا الأولاد ولم نمس شيئا حتى تصل النجدة التي ذهبت إحدى السيارات لطلبها من المريجات على طرف الوادي ، وسرعان ما حضر المحقق والطبيب والشرطة ، وجعل الناس ينصرفون يتابعون طريقهم ، ووقفت مع المحقق وكنت يومئذ من رجال القضاء ، فاستمعت أول التحقيق وأمسكت بطرف الخيط . فلما رجعت إلى دمشق ، تتبعت بقية القصة واطلعت على الأوراق ، وجمعت الخيوط كلها ، حتى عرفت القصة كاملة ، فقلت : لا إله إلا الله ، ما أعظم عدالتك يا رب ؟ !

ووجدت قصة فيها عبرة من أعظم العبر ، فكتبتها وتركتها بين أوراقي ، حتى جئت اليوم أقلب هذه الأوراق القديمة فوجدتها ، فقلت : أحدثكم حديثها .

كانت بنتا جميلة ،وكان أبوها واسع النعمة ، مبسوط اليد ، فنشًأها على الدلال ، وعلى أن تتمنى فتنال ،وأن تطلب فتعطى .

فلما بلغت السابعة عشرة خطبت ، فاعتل أبوها بصغرها ، فقال أبو الخاطب : ألا ترضى أن أجعلها مني بمثابة ابنتي ، وأن أسكنها معي في داري ،فتكون أبدا في سمعي وبصري ؟قال : بلى .

وعقد العقد ، ووصاها أبوهاحين زفها إلى زوجها ، أن تكون لحميها – أي لوالد زوجها – بنتا ليكون لها أبا ، وأن تمنحه التوقير والطاعة ، ليخلص لها الرعاية والحب ، وأن تجعل حماتها كأمها ، وأن تثق بها ، ولا تكذب عليها ولا تخالف أمرها .

ولم تكن تحتاج إلى هذه الوصاةلأنه كان لها من طبيعتها ، ومن أسلوب نشأتها ، ما يدفعها إلى الصدق والاستقامة ،ويمنعها من الانحراف والكذب .

وعاشت معهم ، وكانوا أربعة في الدار :

الزوج ، وهو شاب رضي الخلق صادق الحب يريد لها الخير والإسعاد ، ولكنه لايملك مع أبيه في الدكان عطاء ولا منعا ، ولا مع أمه في الدار أمرا ولا نهيا .

وعمة الزوج ، وهي عجوز عانس سعيدة في ظاهرها ، ولكنها شقية في حقيقتها ،فهي لهذا تحسد كل بنت متزوجة سعيدة في زواجها ، وتتمنى زوال نعمتها عنها .

وأم الزوج ، وهي امرأة بخيلة شحيحة العين ، مقبوضة الكف ، ربها الدينار ،ودينها جمع المال ، ودستورها ادخار الدرهم الأبيض لليوم الأسود ، ثم إنها تظن أن الأرض كفت عن الدوران ، وأنه وقف الزمان ، وأن سنة 1920 م بعاداتها وأزيائها يمكن أن تجيء في سنة 1947 م – سنة وقعت هذه الواقعة – فإذا هي لم تجئ معها ، أفرغت غيظهاعلى بنات هذا الجيل الجديد ، وترحمت على جيلها وزمانها .

والرابع أبو الزوج، وهو رجل شديد الأسر ، سليط اللسان ، ولكنه إذا قابل امرأته كلّ لسانه ، ولان ساعده ، ولم يكن له مع رأيها رأي ، ولا مع سلطانها سلطان .

وعملوا بدستورالمرأة وادخروا ، وكثرت في أيديهم الدراهم البيض ، والدنانير الصفر ، والأوراق الملونة المنقوشة ، ودفاتر الصكوك – الشيكات – وأسناد العمارات ، فاحتفظوا بها كلها، خوفا من اليوم الأسود.

ولم يأت اليوم الأسود ولكنهم جعلوا أيامهم كلها من خوفهم سوداء ، كمن كان عنده الطعام الكثير فخاف أن يأكل فينفد فيجوع بعده ، فجوّع نفسه العمر كله ، خوفا من أن يجوع يوما واحدا .

وكانت في بيت أبيها تجدالطعام أمامها ، من الخبز إلى أفخر الحلوى ، ومن الفاكهة إلى النقل والسكاكر ، وكان أبوها إذا وجد منها ومن إخوتها عزوفا عن الطعام ، جعل لهم على الأكل جُعْلا ، أي مكافأة ليرغبهم فيه .
فلما جاءت بيت زوجها وجدت إقلالا من كل شيء ، إن جاؤوا يوما بعلبة حلوى ، حفظوها في الخزانة ، وأقفلوا عليها كأنما هي علبة جوهر ، وإن هم وضعوها بين أيدي الضيوف وضعوا عيونهم عليها ، وقلوهبم معها ، لا يمدون أيديهم إليها، لعل الضيف تقصر يده عنها .
وكانت قطع اللحم في بيت أبيها أكثر من حبات الفاصوليا مثلا ، فوجدت اللحم عندهم أخفى من نجم السها ، فهو لا يرى إلا بالمجهرالكهربي ( الإلكتروني ) .
وكانت الفاكهة توضع في بيت أبيها على المائدة ، فمن شاء أكل ، فوجدت ظهور الفاكهة هنا أندر من ظهور قرص الشمس في بلاد الإنكليز ، وإن هم شروها ؛ فإنما يشترون منها الرخيص الفاسد الذي لا يؤكل .
فتألمت لذلك ولكنها ما تكلمت ، وكانت قليلة الطعام ، شبعانة العين ، فلم تبال .
وكانت مدللة لاتشتغل ؛ لأن في بيت أبيها خادمتين ، فكلفت هنا خدمت الأسرة كلها ، يكومون لها كومةالصحون الوسخة ، ويدخلون ليسمروا وتبقى هي في المطبخ لتغسلها ، لا يسمحون لها من أن تسخن الماء ، خوفا من كلفة التسخين ، فكانت أصابعها تحمر من الماء البارد في الشتاءالقاسي ، فإذا دخلت وجدت المدفأة مطفأة توفيرا للنقود ، وخوفا من اليوم الأسود .
فتشققت يداها ، واسودت أظافرها ، واجتمع عليها من نقص الغذاء وزيادة التعب ،وفقد الاطمئنان والعطف ، فذهبت صحتها وذاب جسمها .
وكان زوجها يحبها ويبتغي الخير لها ، وكان مستقيم السيرة ، متين الدين ، فلم يكن ينظر إلى غيرها ، أو يفكر في سواها ، ولكنه لم يكن يستطيع أن يبدي حبه إياها ، وعطفه عليها لأن هذه العيون الست كانت أبدا مفتحة عليه ناظرة إليه ، مراقبة حركاته وسكناته ، لاسيما عينا عمته العجوز العانس ، الحاسدة الحاقدة ، التي لم تعرف يوما حب الزوج ، وسعادة الزواج ،فهي تريد أن تنتقم لنفسها من المجتمع ، بحرمان هذه الفتاة من الحب والسعادة ، فكانت تلازمها دائما ، لا تفارقها لحظة ، وكانت لها ولزوجها أشد من الرقيب للمحب ،والعزول للعاشق ، وكانت أكبر من أخيها سنا ، وكانت كالمربية للزوج في صغره ، فاتخذت لنفسها حق النصح له في كبره فكانت تنخر أبدا في قلبه نخر السوس ، إن رأته منح زوجته بسمة ، أو رقق لها كلمة ، ....

يتبع غداً بإذن الله تعالى

نواف النجيدي
02-03-2008, 01:56 AM
كتب الله أجرك يا أبو نادر نعم أنها من روائع الشيخ على الطنطاوي رحمة الله
وأنا في أنتظارك غداً
تقبل خالص الدعــاء
أخوكم الزاد

عاصفة الشمال
02-03-2008, 04:38 PM
قصـــــــــة رائعة و مشوقة من أدب الشيخ الطنطاوي رحمه الله تعالى ..



مـُــتابعين لكم أخي الفاضل ..

موسى بن ربيع البلوي
02-03-2008, 09:06 PM
أخي الزاد .. شكرا لك هذا الحضور و المتابعة

.

أختي عاصفة الشمال .. بالفعل أدب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله لا يُمل منه
شكرا لك أختي الكريمة

موسى بن ربيع البلوي
02-03-2008, 09:09 PM
وكان زوجها يحبها ويبتغي الخير لها ، وكان مستقيم السيرة ، متين الدين ، فلم يكن ينظر إلى غيرها ، أو يفكر في سواها ، ولكنه لم يكن يستطيع أن يبدي حبه إياها ،
وعطفه عليها لأن هذه العيون الست كانت أبدا مفتحة عليه ناظرة إليه ، مراقبة حركاته وسكناته ، لاسيما عينا عمته العجوز العانس ، الحاسدة الحاقدة ، التي لم
تعرف يوما حب الزوج ، وسعادة الزواج ، فهي تريد أن تنتقم لنفسها من المجتمع ، بحرمان هذه الفتاة من الحب والسعادة ، فكانت تلازمها دائما ، لا تفارقها لحظة ،
وكانت لها ولزوجها أشد من الرقيب للمحب ، والعزول للعاشق ، وكانت أكبر من أخيها سنا ، وكانت كالمربية للزوج في صغره ، فاتخذت لنفسها حق النصح له في
كبره فكانت تنخر أبدا في قلبه نخر السوس ، إن رأته منح زوجته بسمة ، أو رقق لها كلمة ، عاتبته وقالت : أنت يا ولدي صغير لا تعرف النساء ، إن المرأة إن
رأت من زوجها ضعفا ركبته ركوبا ، ولم تعد تطع له أمرا . وإن رأته أطال الخلوة بها ، وسوست له وسواس الشيطان ، ووضعت في قلبه جراثيم الكره لها ،
كما تضع الجراثيم بذور المرض في جسم الصحيح ، حتى كادت تكرهه بها ، فتبدلت سيرته معها ، فصار يتأخر عن العودة في المساء ، وإن عاد عاد مقطبا ، لا
لذنب منها ، بل لما وسوست له شيطانته – أي : عمته – من أن إظهار الشدة للزوجة من حسن السياسة ، ومن فضل العقل . وكانت تنتظره حتى يجيء
فلا يشكرها ولكنه يلومها ويستقبح عملها ، وإن هو أطال السهرة ليلة فغلبها النوم جاءته الشيطانة – أي : العمة – فقالت : أرأيت كيف تهملك ولا تبالي بك
؟ ولا تنتظرك كما تنتظر الزوجات رجالهن ؟ فزادت نقمته عليها .
وكانت البنت تحاول أن تشكو إلى أبيها ، أو أن تخبر أمها ، فلا تستطيع أن تنفرد بهما ؛ لأنهم لا يدعونها تذهب إلى أهلها وحدها ، لا تذهب إلا ومعها زوجها أو معها
هذه العمة التي تظهر لها – من مكرها – أمام أهلها أشد الحب ، وأكثر الحنو ، وإذا رأوها هزيلة وسألوها ؛ قالت : إنها لا تأكل ..عجزنا عن إقناعها
بوجوب الغذاء ، فيصدق أهلها.
وكانت البنت تكتم ألمها في نفسها ، لا تجد من تشكو إليه ، فتنفرد في غرفتها تبكي وحدها حتى تبلل بدموعها وسادتها ، ثم تنام ، وكان معجّل مهرها عشرة آلاف ليرة
سورية ومؤجله مثل ذلك ، وكان ذلك مبلغا ضخما جدا ، وكان أبوها لسماحة نفسه ، وكرم يده ، لا يفكر بالمال ، فكتب المهر في صك الزواج ، ولم يطالب به ، ثم
زاد فجهز بنته من ماله، جهازا ضخما يليق مثله ببنات الملوك .
ولم يرض أهل الزوج أولا بهذا المهر ، ولكن الوالد أصر فكتبوه مرغمين ، وهم يرسمون الخطط الشيطانية للخلاص منه، إذ كانوا يحاسبون على ( الفرنك )
ويموتون على ( الليرة ) ، أفيدفعون هذا المبلغ كله مهرا للبنت ؟ وسلكوا إلى إزعاجها كل طريق ، من الإعراض عنها وإهمالها ، إن تكلمت لم يصغوا إليها ،
وإن سألت لم يجيبوها ، وإن قعدت تستريح شغلوها ، وكلفوها بأعمال الدار كلها ، يقترون عليها بالطعام أو يحدثون لها عند كل أكلة ما يزعجها حتى تقوم عن المائدة
ويستعملون جهازها في استقبال ضيوفهم ، ويتخذونه لقعودهم ، ويعملون على إفساده عمدا .
وكان مقصدهم الأول أن يتخلصوا من المهر ، يقدّرون أن إزعاجها يضيق صدرها ، وينفد صبرها فيدفعها إلى طلب المخالعة ، ولكن المسكينة لم تكن تدري ما
المخالعة ، ولم تسمع بها ، وكانت تتقبل ما كتب عليها صابرة لا مفزع لها إلا دمعها .
ثم وسوست إليهم الشيطانة ، فبيتوا أمرا ، فبدلوا معاملتها فجأة ، وصاروا يخصونها بالرعاية ، ويلينون لها القول ، ويقومون عنها ببعض أعمال الدار ، ويمدحونها
بأنها هي المتعلمة الكاتبة القارئة ، ولم يكن في العادة يطرق بابهم طارق ، لأنهم – لبخلهم – لا يزورون أحدا أبدا ، لئلا يزورهم فيكلفهم ثمن الضيافة ، فصار
بابهم يطرق كل يوم ، يطرقه موزعو البريد برسائل مسجلة ، فكانوا يجيئونها بالوصل لتمضيه ؛ لأنها هي الكاتبة القارئة وكل من في الدار أميات ؛ فكانت تسر بذلك
وتفرح .
وكانت يوما في المطبخ ويدها في جلي الصحون ، فسمعت قرع الباب ، فجاءت العمة مسرعة ، قالت : خذي الله يرضى عليك إمض هنا ، قالت : ألا ترين
يدي في الصابون ، انتظري حتى أغسلها وأقرأ ما في الورق ، فقالت لها : الرجل على الباب ، إمض وبعد ذلك تقرئين ما فيها ، وماذا يكون فيها ؟ إنه إيصال
بريد كغيره من الإيصالات .
فمسحت يدها وأخذت الورقة ، وكانت مثنية ما يظهر ما فيها ، فوقعت حيث أشاروا إليها .
وساءت معاملتهم إياها فجأة ، كما حسنت فجأة ، وعادوا أفظع عما كانوا عليه ، وشاركهم زوجها وانقلب معهم عليها ، وكانت حاملا في شهرها الأخير ، فأرادوا أن
يتخلصوا من تكاليف الولادة فطردوها ، فذهبت إلى بيت أبيها .
وعجب لما رآها داخلة عليه ، وأسرع يلومها ، ويقول لها : ما هذا العمل ، ومتى كان الحرد من شمائلنا ؟ وأيدته أمها، لأنهما لم يكونا يعرفان شيئا من حال
أحمائها ، فانطلقت تبكي بكاء موجعا ، يقطع القلوب ، وتقص عليهما قصتها من خلال دموعها .
وطيب أبوها خاطرها ، وأولاها من قلبه ومن ماله ، ما ضمد جراحها ، وفتحت لها أمها صدرها ، ومشت الوسائط بين الفريقين ، فإذا بيت الأحماء يقلبون لها ظهر
المجن ، ويجاهرون بالعداوة ، ويكشفون عن حقيقتهم التي كانوا يخفونها وراء ستار التصنع والنفاق ، فيئس أهل البنت ، وطلبوا أن يطلقها الزوج ويؤدي إليها حقوقها
، ويرد عليها جهازها .
قالوا : هيهات ! حقوقها وصلت إليها لقد قبضت مهرها كله ، معجله ومؤجله وسند القبض بأيدينا ، أما الجهاز فهو لنا نحن اشتريناه .
وكانت قصة الجهاز أن بيت الأحماء من مكرهم قد عرضوا على الأب أن يتولوا هم شراء الجهاز واختياره ، ورضي أبو البنت ، فاشتروه وهو الذي دفع الثمن
ولكن كانت ورقة الإيصال بأسمائهم وكانت بأيديهم .
وأما المهر فإن الورقة التي جاؤوا بها إليها لتمضيها ، وزعموا أنها وصل البريد ، كانت سندا بوصول المبلغ إليها ، وكانت قصة رسائل البريد التي ترد كل يوم قصة
مصطنعة اتخذوها تمهيدا لما أرادوه وبيتوه .
وأقيمت الدعوى ووكل أبو البنت محاميا قديرا ، ودفع له أجرا وفيرا ، وبذل له المحامي جهده ، وكان القاضي من قضاة العدل . ولكنهم عجزوا عن الإثبات ،
فطلبوا تحليف اليمين كذبا وبهتانا ، وخسرت البنت دعواها ، خرجت بلا زوج ولا مهر ولا جهاز ، ما بقي معها إلا ابنتها التي ولدتها .
وجاء المحامي يريد أن يأذنوا له بإقامة الدعوى الجزائية لليمين الكاذبة . فقال الأب : لا أريد ، قال المحامي : لِمَ لا تريد ؟ قال : أما رأيت كيف ضاع
حقنا ؟ قال : ما ضاع لتقصير في الدفاع ، ولا لميل من القاضي عن الحق ، بل لأن القضاء البشري إنما يحكم بالبينات الظاهرة ، ولا يستطيع أن ينفذ إلى الحقائق
؛ ولذلك يخطئ القاضي حينا ، ويصيب حينا ، والرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعدل قاض في تاريخ البشرية كلها ، قال : " إنكم لتحتكمون إلي ، ولعل
أحدكما ألحن بحجته من صاحبه – أي : أقدر على الدفاع – فأقضي له ، فإنما أقضي له بقطعة من النار " .
والقضاة ما عندهم إلا الأوراق والشهود والأيمان ، وقد تزّور الأوراق ، وقد يكذب الشهود ، وقد تفجر اليمين ، والله وحده هو الذي يعرف المحق من المبطل دائما ،
قال الأب : ولذلك فإني أقيم الدعوى عليه عند الله .
ومرت الأيام ، وكانت الأم تجد أنسها ببنتها ، جعلتها هي حظها من دنياها ، وقنعت بها ، ووقفت نفسها عليها ، وبلغت البنت التاسعة فجاء الأب يطلبها .
وكان قد تزوج من بعدها ورزق بولدين ، فتجددت للأم المسكينة أحزانها كلها ، وعادت مأساتها التي حسبتها قد طواها النسيان ، وأصبحت تشعر بأن فراق روحها
أهون عليها من فراق ابنتها .
لقد جعلت هذه البنت دنياها ، فماذا يبقى لها إن فقدتها ؟ وصارت لا تستطيع فراقها لحظة ، وكلما رأتها ضمتها إليها ، وبكت البنت بين ساعديها وبكى كل من رآهما ،
وجاء يوم المحاكمة وصدر الحكم بتسليم البنت إلى أبيها .
أخذ الأب البنت ، وأراد أهله مبالغة في الكيد والانتقام ، أن يخرجوا إلى النزهة ليفرحوا في يوم مأساة الأم ، ويضحكوا في يوم بكائها ، وكانت له سيارة اشتراها
على معارضة من أبيه فأخذ أباه وأمه وعمته وزوجته الجديدة وبنته الأولى التي أخذها من أمها وسافر إلى لبنان .
وكان حديثهم طول الطريق عن الزوجة الأولى ( أم البنت ) والسخرية بها ، والبنت المسكينة تسمع ، لا يدركهم خوف الله فيكفوا عن غيبة الغائبة ، وظلم
البريئة ، ولا رحمة الإنسان فيرعوا عواطف هذه الطفلة التي انتزعوها من أمها .
وبلغ بهم الكبر والجبروت الغاية ، فكان من فرحه بظفره يسابق السيارات ، فكلما رأى سيارة أمامه أسرع حتى يسبقها ، فرأى ذلك الصهريج ، فقالوا له : قف
حتى يمر ، قال : لا ، إني أسبقه إلى المنعطف ، وقد صارت لي خبرة للخلاص من المآزق ، أما تخلصت من تلك المرأة فأخرجتها يدا من الوراء ويدا من الأمام ،
بلا مال ولا جهاز ، ثم نزعت منها ابنتها ؟ وقهقه ضاحكا ، وكان قد صار بجنب الصهريج ، ووقعت المأساة...
مال الصهريج كما عرفتم على سيارته ، كما يميل الفيل على شاة صغيرة ، فرمى بها إلى الوادي ، فتحطمت ، أما الركاب ، فإن الزوج والأب والأم والعمة قد
صاروا عجينة واحدة اختلط لحمها بعظمها ، والزوجة الجديدة والأولاد الذين لا ذنب لهم خرجوا سالمين ، ما أصابهم كبير أذى لأنهم أبرياء ما اشتركوا في الجريمة
، أما الذين اشتركوا فيها ، وأقام عليهم أبو البنت المظلومة الدعوى في محكمة الله ؛ فكان هذا مصيرهم!!
ومن لم يلق مثله في الدنيا ؛ فليعلم أنه ينتظره عند الله ما هو أشد وأكبر !



انتهت

عاصفة الشمال
02-05-2008, 01:43 PM
قصـــــة مؤثرة ... سبحان من يمهل و لا يهمــــــــــــل ..


شكـــــــــــــرًا لكم أخي الفاضل ...


و لا تتأخروا علينا بالمزيد من هذه الدرر الأدبية .

محمد العصباني
02-05-2008, 07:44 PM
حضور ولي عــودة بإذن الله لإكمال القـــراءة ..

نايف مسلم الجذلي البلوي
02-05-2008, 09:09 PM
قصه رائعه من رجل رائع ننتظر المزيد