المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رحالة في الجزيرة ...ومرافقه غضيان ابن رويحل الجزء الاخير



فايز ابن رويحل
06-10-2005, 01:09 AM
نطلقنا بصحبة مجموعة كبيرة من الناس الذين رافقوني حتى بوابة البلدة. وهنا ودعت العلا ونقوشها وسكانها الفضوليين وذبابها وأوساخها. حقا لقد وجدت فيها أشياء ممتعة، ولكن أشياء أخرى أكثر إمتاعا تنتظرني الآن. بالتأكيد لم يكن ذلك هو الوداع الأخير للعلا فسأعود إليها بعد أيام قلائل، مثلها مثل هوبر الذي ودعته قبل أيام ثم رأيته، وكما يقول المثل المحلي هنا: (المخيط مرتين يعيش أطول)، نعم فبعد أن ودعت هوبر والعلا للمرة الثانية لم أرهما بعد ذلك طوال حياتي.



انطلقنا في حوالي الساعة الثانية عشرة، حيث كنت أسير خلف غضيان الذي كان يتقدمنا مع رديفه عبيد راكبين ذلولا وضحاء (بيضاء) ومعهما بعض أمتعتي، كان في مقدورنا هذه المرة نتيجة لمرافقة هذا البلوي لنا أن نسلك طريقا مباشرا باتجاه الشمال عبر شعيب العذيب، في حين اضطررنا في يوم السادس عشر من شهر مارس السير عبر طريق غير مباشر نحو العلا، وذلك بسبب تخوفنا من أفراد قبيلة مرافقي الذين كانوا يقطنون في تلك الأنحاء، مما جعل الطريق آنذاك غير آمن بالنسبة لنا. لقد شاهدت هناك في شعيب العذيب عددا من النخيل المهملة والأدغال التي توسطها الآبار، وذلك ما يجعل منه ملاذا مناسبا لقطاع الطرق واللصوص. بعد هذا الشعيب انحرف طريقنا باتجاه اليسار عبر مجموعة هضاب القرضية. بعد ساعتين تقريبا من المسير مررنا بجوار جبل مكتظ بنقوش ذات خطوط مختلفة، حيث تعلو صفحاته نقوش كتبت بالخط الآرامي القديم والخط الثمودي والخط النبطي والخط اليوناني والخط اللاتيني، وما تنوع هذه الخطوط هنا إلا شاهد واضح على العمق الحضاري والتعاقب التاريخي لبلدة الحجر. أما موضوعات هذه النقوش فتندرج تحت ما يسمى (نقوش الذكريات) التي من خلالها خلد أولئك القدماء أسماءهم على مر الزمن. يقول المثل الألماني (يد المجنون تلطخ (توسخ) الجدار والطاولة)، ولكننا نحن المتخصصين بالنقوش والخطوط القديمة في غاية البهجة، لأن أيادي أولئك القدماء امتدت إلى الجدار والأحجار لتدون عليها أسماؤها، فحتى وإن كانت المعلومات التي تحتويها تلك النقوش عديمة المعنى والأهمية، فمن تلك الحروف القليلة يمكن للمرء أن يستنتج معلومات قيمة حول التاريخ واللغة والحضارة والدين وتاريخ تطور الكتابة. حقا لقد توقفنا طويلا أمام صفحة ذلك الجبل على الرغم من أن مرافقي كان مستعجلا ولم يكن يرغب في حقيقة الأمر بالتوقف، لذلك فلم يسمح لي بنسخ تلك النقوش الواقعة إلى الشرق من الطريق. وهكذا اضطررت للموافقة، وقلبي يتحسر على عدم تمكني من نسخ بعضها، ولكن أملي أن يهتم بها المختصون لاحقا.



اقتربنا الآن أكثر من بنايات المقابر الرائعة في مدائن صالح ذات النقوش النبطية الطويلة على واجهاتها، والتي من أجلها كان الهدف الرئيسي لرحلتي إلى جزيرة العرب. لقد رسمت منظرين توضيحيين لعلهما يوضحان كيف كانت تبدو تلك المقابر من بعيد. حينما اقتربنا من المقابر ترجلنا وتركنا الجمال ترعى تحت بصر عبيد، أما أنا فأسرعت إلى المقابر وبدأت أرسمها بهمة وعزم.



كانت المقابر منحوتة في الصخر وتكتظ واجهاتها بالعديد من الزخارف والأشكال المصورة بشكل بارز على الصخر، ولعل الرسوم التوضيحية المرفقة تقدم فكرة بسيطة عن الأشكال الرئيسة على واجهات تلك المقابر. أما أجمل هذه المقابر وأكبرها- إلى اليمين أسفل الرسمة - هي تلك التي تسمى مقبرة الفريد.



و الآن لنلقي نظرة على المقبرة من الداخل فهي تحتوي على أرائك (أسرة) الموتى المشابهة لأدراج فارغة أو حفرة مستطيلة منحوتة في جدار صخري، بعضها منحوت في أرضية المقبرة وكأنها توابيت غير مغطاة. كانت النقوش النبطية الرائعة التي نشرت ترجمة لها في كتابي (نقوش نبطية من الجزيرة العربية) توجد فوق مداخل المقابر. ومن الملاحظ أيضا أن بعضا من هذه المقابر خالية من أي نقوش وبعضها يظهر فوقها تجويف صغير ربما كان مثبتا عليه فيما مضى لوح من المرمر أو البرونز. جدير بالملاحظة أيضا أن كافة النقوش المكتوبة على المقابر هنا نبطية الخط، مما يعني أننا انتقلنا من الحميريين في العلا إلى النبطيين في الحجر، وهذا ربما يشهد بدوره على أن العلا كانت مستودعا للبضائع التجارية القادمة من جنوب جزيرة العرب، وأنها كانت بمثابة المستقر للتجار المعينيين والسبئيين، أما الحجر فهي مركز الآراميين أو العرب المتأثرين بالثقافة الآرامية، وهنا يمكن القول أيضا: إن المنطقة الواقعة في الوسط بين البلدتين كانت بمثابة المكان الذي يتبادلون ويعيدون فيه تصدير بضائعهم التجارية، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هل كلتا المدينتين ازدهرتا في وقت واحد، أم أن الحجر احتلت مكانة العلا بعد أن قلت أهميتها؟



من هم أولئك الثموديون أو بنو ثمود الذين لا يزال ذكرهم مستمرا حتى اليوم على ألسنة الشعوب العربية؟ يعتقد السكان المحليون هنا بالرغم من وجود بقايا العظام البشرية وبقايا أخشاب التوابيت أن تلك المقابر المنحوتة في الصخر كانت مساكن الثموديين القدماء. وهذا ألاعتقاد ليس تقليدا متوارثا من العصور القديمة بل إنه يستند على ما ذكر في القرآن، فقد حدثت آيات عدة من القرآن عن شعب ثمود، وعن بيوتهم المنحوتة في الصخر، وعن عدم استجابتهم لدعوة النبي صالح (عليه السلام)، وعن معاقبتهم بالزلزال . هكذا في السور رقم 7/71-76 (سورة الأعراف )15/ 80 وما بعدها (سورة الحجر)، 26/ 141 وما بعدها (سورة الشعراء) 89/8 (سورة الفجر) من هنا يبدو أن ذاكرة العرب لم تعد منذ القرن السادس الميلادي تنظر إلى تلك البنايات المنحوتة في الصخر على أنها مقابر، بل اعتبرتها مساكن لقوم ثمود، كما تشير إلى ذلك أيضا تلك الروايات العائدة لفترة النبي الذي مر بنفسه على بلدتي الحجر والعلا أثناء رحلته إلى الشمال.



من جانب آخر يبدو آن اسم الأنباط لم يكن خلال القرن السادس الميلادي معروفا على الإطلاق في تلك المنطقة، على العكس من ذلك نجد أن ذكره استمر إلى وقت متأخر في مناطق أخرى مثل سورية وبلاد الرافدين (العراق). نعم فمن المؤكد أن ثمة قبيلة تدعى ثمود استوطنت تلك المنطقة في فترة العصر الجاهلي، فالاسم ثمود يظهر أنه مثبت في مجموعة النقوش التي يطلق عليه المختصون اسم (النقوش الثمودية). وقبل أن نترك هذه المنطقة اتجهنا في جولة نحو المنطقة الجبلية لكي نلقي تحية الوداع عليها.



اتجهنا بعد ذلك إلى قلعة مدائن صالح، وهناك دهشت كثيرا حينما التقيت بهوبر ومحمود ونومان ومعهم جمالهم ذات الأوجه التي تنم عن ذكاء وفطنة. ففي اليوم الذي تعرض فيه حيلان للنهب نجا هوبر بأعجوبة من غارة أخرى، مما اضطره إلى قضاء الليل وبضع ساعات من النهار برفقة الحيوانات في أحد المخابئ، ولكنه بسبب حذره تمكن من الوصول إلى قلعة مدائن صالح، وقد عرف هنا أن خمسة عشر رجلا من أفراد قبيلة بلي يترصدون له ولصناديقه الذهبية في الخارج، ونظرا لأنه شعر بالحصار داخل الحصن حاول الخروج إلى منطقة المقابر كي يعمل هناك بعض البصمات للنقوش، ولكنه ورفاقه اضطروا للهروب مرة أخرى تحت وطأة مطاردة أفراد قبيلة بلي لهم، وبينما كانوا يهرولون هاربين على جملهم تشابكت الحبال بالسلم الذي كان بحوزتهم فسقطوا من على ظهر الجمل وولوا هاربين ليختفوا عنهم بين الصخور. في أثناء ذلك أخبرني هوبر أنه بعث برسالة إلي مع رسول إلى العلا ولكنني لم أره ولم نصادفه خلال الطريق.



التقيت في القلعة كذلك مع شخص يدعى علي بن سعيد كان عائدا من غزو مع الأمير، ويحمل معه رسالة من حمود العبيد إلى عبدالعزيز العنقري في تيماء، وقد استهلت تلك الرسالة بالآتي:



(تحيات من حمود العبيد إلى العنقري...)، ثم تلتها عبارة توبيخ له بسبب عدم إكرامه لنا كما ينبغي، وكذلك على عدم تقديمه المساعدة الكافية لنا في الحصول على أحجار النقوش، ثم وجه إليه أمرا بأن يرسل نقوشنا إلى حائل ولاسيما الملفوفة (المغلفة) منها وتلك التي عثر عليها في القصر، وقاعدة العمود التي أعيد استخدامها مدقة لطحن حبوب القهوة، وذلك الحجر الذي أخرج من البئر. طلب مني مرافقي غضيان البلوي إجازة لهذه الليلة كي يتمكن من الرجوع برفقة علي إلى العلا وذلك لحضور وليمة هناك، وقد غادر معه غلامان كانا ينتظران في القلعة من يرافقهم، حيث أخذ من كل واحد منهم مجيديا واحدا نظير تأمين الحماية لهم.



الأربعاء 26/3/1884 كان اليوم عظيما بالنسبة لي ففيه سأباشر العمل في نقوش الحجارة النبطية التي يرتبط فيها نجاح رحلتي إلى جزيرة العرب. وأخيرا وجدت السلم الذي أخفاه هوبر، كما أنه ولحسن الطالع لا يوجد اليوم ذباب كثير مقارنة بالأيام الماضية، نعم كل شيء مناسب لبدء العمل ماعدا هبوب الرياح، تلك الرياح التي سأتمتع باستنشاق هوائها الطلق لو كنت ممتطيا ذلولي وأسير عبر الصحراء، كما أنها ستسعدني لو كنت جالسا في سفينتي وهواؤها يرتطم بالأشرعة، حقا لقد كانت الرياح التي ألفت مرافقتي طوال أيام الرحلة تضطر المرء إلى البكاء والحيرة بل والجنون، فحينما يقف المرء هناك أمام نقش جميل والورق المبلل مقوسا بفعل هبوب الريح بين يديه، ثم يبدأ ذلك الغلام المسكين محاولا إبعاد النقوس من الورق بتحريكه هنا وهناك إلى الأمام توالى الخلف، ولسان حاله يقول مناجيا الريح: مهلا فلن نستسلم أو نستكين، فطالما أوراقنا قوية فلن تتمكني من تمزيقها رغم ما تنفخينه من هواء.



والآن بمجرد أن تهدأ الريح قليلا من الوقت نقوم على وجه من السرعة بلصق الورق المبلل على الحجر، ولكن بمجرد انشغال المرء لحظة من أجل إحضار الفرشة لطرق الورق المبلل وتثبيته على الحجر يجده قد تقوس من جديد، وبدلا من إضاعة الوقت في إعادة تثبيته يضطر المرء إلى معاودة العملية من جديد، ولكن هذه المرة بشيء من الحذر والذكاء، فبعد وضع الورق المبلل على الحجر تظل كلتا اليدين ضاغطتين على الورق بقوة، ولا ترفعان حتى تخف حدة الريح كي لا تدخل بين الورق والحجر وتؤدي إلى تقوسه من جديد.



عاد في حوالي الساعة الحادية عشرة غضيان من العلا، حيث انطلقنا في حوالي الساعة الثانية عشرة، خمسة على الجمال، واثنان يسيران على الأقدام متوجهان في البداية نحو المقابر الشرقية. ونظرا لعدم رغبتي في أي عوائق تحد من حركتي خلال عمليات بصم النقوش، فقد قمت بنزع ملابسي، ولم اترك سوى الثوب الذي ربطته بحبل على صلبي، ولكي أتحلى بشيء من الأدب أنزلته قليلا من أعلى إلى أسفل مدخلا طرفه في ذلك الحبل المربوط على بطني، لدرجة أن ساقي ومؤخرة رأسي ويدي عانت كثيرا من حرارة أشعة الشمس.



ونظرا لكون السلم ذي ثمانية الأمتار لا يصل إلى أماكن بعض النقوش فقد اضطررت إلى الوقوف تحت ذلك النحت البارز على بوابة القبر الذي تسبب في حجب مجال الرؤية أمامي، فلم أستطيع سوى نقل جزء من النص، وحتى ذلك الجزء الذي قمت بنسخه لم يكن مكتملا، بسبب وقوفي بصورة متعامدة تحت النقش. علاوة على النقوش عثرت هناك في بعض المقابر على قطع من خشب التوابيت.



أنهيت عملي في حوالي الساعة الرابعة بعد أن كافحت من أجل نقوشي كما يناضل الليث للحصول على فريسته، وقد تمكنت على الأقل من عمل بضع نسخ جيدة لبعض النقوش الكبيرة، ولكنني على الرغم من استخدامي لورق مزدوج لم أتمكن بسبب دخول الهواء بين الحجر والورق من التخلص من التقوس والانتفاخ على سطح الورق، وكمحاولة لمعالجة ذلك قمت بقص كل انتفاخ على الورق إلى أربعة أجزاء ثم أعدت لصقها قطعة قطعة على الحجر. لذلك فقد افتقدت البصمة جمالها وانسيابها، أما أشكال الحروف فقد كانت ولله الحمد واضحة. لقد وجدت أن من المناسب في مثل هذا العمل أن يقوم المرء بطي مجموعة من الورق مع بعضها البعض ثم وضعها فوق قطعة من الجلد تمنع تسرب الماء، وأخيرا يتم تثبيت الورق المبلل على الحجر. خلال مساء هذا اليوم قام هوبر بالإعداد لرحلته التي تقرر أن تنطلق قبل طلوع شمس يوم الغد حتى لا يتمكن رفاقي المنتمين لقبيلة بلي من ملاحظة وجهة الطريق الذي سيسلكه، وقد كان يريد أن يسلك طريقا باتجاه الشمال إلى قبيلة الفقراء الذين رفضنا عوتهم لنا في يوم الخامس عشر من شهر مارس.



الخميس 27/3/1884 رحل هوبر قبل شروق الشمس حيث تمنى بعضنا لبعض أفضل الأمنيات، بعد ذلك انتابني شعور بالقلق والخوف مشابه لذلك الذي شعرت به في يوم التاسع عشر من شهر مارس، ولكن مشاعر الخوف تلك سرعان ما تبددت وحل محلها التفكير النقوش. وبعد أن غادر هوبر يرافقه محمود ونومان اتضح لي أن نومان الكلب استبدل حبل ناقته (رسن) المهترئ بحبل ناقتي الجميل والقوي. بعد أن انتهينا من تناول طعام الإفطار مباشرة وصل إلى هنا رسول سعيد من العلا حاملا معه الخطاب الذي أرسله هوبر لي حينما كنت في العلا، وخطابا آخر لهوبر، وفي الوقت نفسه طلب مني سعيد أن أخبره عن طريق مبعوثه بالساعة التي سأعود فيها إلى العلا، حتى يتمكن هو ومجموعة من الرماة إلى الخروج لملاقاتي، بعد ذلك خرجت مع أولئك البلويين (من قبيلة بلي) ومبارك وابن أخيه المدعو خالد إلى منطقة الأطلال الأثرية وبالذات إلى المكان الذي أخفينا فيه بالأمس السلم وبعضا من أوراق بصم النقوش. كانت الرياح اليوم أقل حدة منها في الأمس، ومن أجل تسهيل حركتي خلال العمل ارتديت قميصا و بنطلونا مشابهين لتلك التي يرتديها الصيادون. كانت النقوش التي سنعمل على استنساخها اليوم ترتفع إلى حوالي ستة أمتار، لذلك فلن أحتاج إلا إلى ثلاثة أجزاء من السلم ذي أربعة الأجزاء. وهناك في الجزء الشرقي من المنطقة الأثرية تقع حجرتان كبيرتان منحوتتان في الصخر يطلق عليهما الأهالي المحليون مسمى الديوان أو المسجد، ويوجد بداخلهما عدد من المحاريب ترتفع حوالي المترين عن سطح الأرضية. بعد أن شعرت بالتعب والعطش رجعت إلى القلعة والوقت يقارب الساعة الرابعة. وفي المساء تسبب التعب الشديد والتفكير بالعمل والخوف من المصير إلى عدم قدرتي على النوم.



الجمعة 28/3/1884 كان هذا اليوم مخصصا أيضا للعمل في نقوش الحجر، ولكنه سيكون اليوم الأخير، لذلك استجمعت قواي كافة لكي أنهي العمل كما ينبغي، فبعد الإفطار مباشرة انطلقت برفقة البلويين ومحمود مع ابنه الصغير خالد والخادم مبروك لاستكشاف المقابر الجنوبية والشرقية التي من أجملها وأكثرها زخارفا تلك التي تسمى مقبرة الفريد.



كانت الرياح اليوم قوية ولكنها لن تخيفني فاليوم يجب أن أحقق أهدافي، لذلك لم أترك نقشا واحدا دون أن أستنسخه، فقط هي مرة واحدة تمكنت الريح من هزيمتي، ذلك حينما عصفت بهبوبها وأنا فوق السلم المتكئ على جدار أحد المقابر الكبيرة أحاول جاهدا تقريب الورق المبلل من النقش لتثبيته عليه، ولكن دون جدوى، فالريح كانت تدفع بهبوبها الذي أدى إلى انتشال الورق من الحجر، وحيث إن هذا النقش لم يكن ذا خط جيد توقفت عن المحاولة خوفا من إهدار الوقت، لم تتوقف الريح عن مكرها وخبثها فقد خطفت مني ثلاث ورقات، بينما كنت أنزل السلم لتودعها عاليا في الزوايا المثلثة الشكل الواقعة إلى اليمين والشمال من واجهة القبر. بعد الظهر قمنا بعمل شيء من القهوة انتعشنا بشربها من عناء العمل.



بعد أن أنهيت عملي دون رجعة تبين لي أنني قمت باستنساخ ستة وعشرين نقشا كبيرا، وهي كل ما تمكنت من العثور عليه هناك إذا استثنينا ذلك النقش الوحيد الذي حرمتني الريح من نسخه، علاوة على ذلك تمكنت من نقل عدد كثير من النقوش القصيرة. غادرنا في مساء اليوم الخادم مبروك إلى العلا كي يخبر سعيدا بخروجنا من مدائن صالح مع طلوع شمس يوم الغد، حتى يتمكن من الخروج لملاقاتنا هو ورجاله المسلحون. وفي أثناء الليل وبينما كانت الظلمة تخيم على المكان سمعنا أصوات الكلاب تنبح خارج القلعة منبئة عن قدوم شخص غريب، وسرعان ما ظهر أمامنا ثلاثة أشخاص من قطاع الطرق المنتمين لقبيلة جهينة، وخلال الليل بدأ أولئك الجبابرة مع لعبتهم المشؤومة التي سرعان ما تحولت إلى مشاجرة مأسوية عنيفة بينهم.



السبت 29/3/1884 انطلقنا في حوالي الساعة السابعة صباحا تاركين مدائن صالح خلفنا. حقا لقد كنت منشرح الصدر وفي غاية السرور وأنا أودع ذلك المكان الخالي وتلك المنطقة المقفرة قائلا (مع السلامة)، لم لا فقد أنهيت عملي وأكملت واجبي وحققت أهدافي وكل ما أتمناه الآن هو أن أكون في الوجه. كان يرافقنا خلال رحلة العودة إلى العلا أولئك اللصوص الثلاثة من قبيلة جهينة راكبين على ظهر ذلولين، وقد كنت بين الفينة والأخرى أنظر في وجوههم الكالحة فكانت تبدو أمامي كأنها وجوه أشخاص منحوسين ليس فيها شيء قط من ملامح حسن النوايا. كان طريقنا اليوم هو الطريق نفسه الذي سلكناه في يوم الخامس والعشرين من مارس والمسمى درب الجندي، وهناك أمام ذلك الجبل الذي وجدت فيه خلال رحلة الذهاب إلى مدائن صالح نقشا إغريقيا (يوناني) عثرت اليوم فيه على نقش نبطي مؤداه(تحيات (سلام) عالة بن حرم) ولعل محتوى هذا النص هو بمثابة وداع لي من جزيرة العرب ومن انشغالي بجمع النقوش، ولكن والد صاحب النص يدعى حرم، وكلمة حرم وحرامي (لص) يتشابهان في اللفظ ويشتقان من جذر واحد، فهل يكون ذلك نذير شؤم بالنسبة لي؟ بينما كنا نسير في الطريق شاهدت نباتا أبيض كالثلج وجافا يشابه الهراوة (العجراء) العربية و يسمى البرنوق. وحينما وصلنا إلى وادي العذيب وجدنا هناك حملة البنادق الذين أرسلهم سعيد لاستقبالنا، ومنذ تلك اللحظة كان في وسعي أن أدخل مسدسي في جرابه. كانت السماء مغطاة بطبقة تشبه الضباب جعلت الأعين تتألم حينما يرتفع البصر و الشعاع المنبعث من السماء، كما أدت إلى زيادة في حرارة الطقس. بعد وصولي إلى العلا ، مباشرة كان علي أن أقوم بشراء الأشياء المطلوبة كافة التي توقعت أن يهديني إياها سعيد، فاشتريت تمرا، ودقيقا، وتبغا، وفناجين، وثوبا نسائيا محليا… الخ. بعد ذلك جاء إلي خادم مرزوق الذي أصبح الآن ماهرا وخبيرا باكتشاف النقوش ليخبرني بأنه خلال غيابي أكتشف ثلاثة نقوش حميرية في بساتين النخيل، فذهبت إلى هناك لاستنساخها، ولكن تبين لي هناك أنه سبق لي استنساخ اثنين منها. وصل اليوم إلى هنا اثنان من إخوة مرافقي غضيان البلوي لكي يقوما بمرافقتنا إلى الوجه، كان الكبير اسمه سالم، أما الصغير فيدعى محمودا. وعند المساء كانت السماء ملبدة بالغيوم، وأثناء الليل هبت عاصفة مخيفة أثارت غبار العلا الذي ألمحنا إلى ذكره سلفا فوق سطوح المنازل بصوره تفوق الوصف مما اضطرني إلى إنزال فراشي من هناك إلى داخل البيت.







رحلة داخل الجزيرة العربية

ماهر سالم العرادي
06-22-2005, 09:20 PM
الله يعطيك العافيه