خاص بالمنقول من النثر و القصص .

قصة أبـــو بطّـــــة ..؟؟

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ماجد سليمان البلوي
    مشرف قسم التراث

    • 28 - 8 - 2009
    • 9524

    #1

    قصة أبـــو بطّـــــة ..؟؟

    قصة أبـــو بطّـــــة ..؟؟



    هذه القصة قرأتها منذ حوالي عشرين سنة , لم أنساها أبدا , لست أدري لماذا رسخت بذهني هي بالذات ؟ برغم أني قرات عدة قصص محزنة و مؤلمة...ربما لان بطلها في الخامسة و الثمانين من العمر ؟ الله أعلم ..


    هذه القصة للكاتب اللبناني ميخائيل نعيمة

    قد أسستها ببعض الخواطر حول الذين يحتقرون البسطاء من الناس من أجل طبيعة أعمالهم و خاصة فئة الحمالين , و أبو بطّة أحد هؤلاء الذين يقومون بالأعمال الشاقة , أطلقت عليه التسمية لانتفاخ بطة ساقه اليمنى إثر لدغة عقرب . و هو يتزعم الحمالين بقدرته الفائقة و هيبته . و قد تعرف عليه الكاتب حين كلفه مرة بحمل حقيبته , ثم توطدت صداقتهما و أصبح الحمال يقضي له بكل ما تسرّه نفسه , فعرف أنه تزوج ثلاث مرات و أنجب بضعة أولاد . ثم يستطرد ميخائيل نعيمة قائلا


    باح لي أبو بطّة بالكثير من أسرار حياته ما خلا سرا واحدا , ما تمكنت من حمله على البوح به فقد لحظت في السنوات الأخيرة أن تلك الابتسامة البلهاء التي ما كانت تفارق وجهه , فتلطف إلى حد من بشاعة ذلك الثؤلول الأسود على الطرف الأيسر من شفته السفلى – أجل , تلك الابتسامة قد غابت خلف نقاب كثيف من القلق و العبوسة . فأبو بطّة , على غير عهدي به , قليل الكلام , قليل الحركة . يصرف جلّ نهاره رابضا على عتبة المخزن الذي استقل من زمان بعتالة بضائعه , لا يفارق الغليون شفتيه و لا الحبل كتفيه , و (الظاهرة) على ظهره ( و هي بمثابة الجلّ للدابة) تهرأت , و العصبة التي يعصب بها رأسه , قد تهلهلت فتدلت خيوطها في كلّ جانب .
    و هو ينكت الرصيف (بالشرشور) في يده اليمنى نكتا متواصلا , و الشرشور في لغة العتّالين هو الكلاّب من الحديد أو الفلاذ يردّون به الأثقال إلى ظهورهم .
    بلى لقد تغير صديقي أبو بطّة , و منذ أيام حسبتني أدركت أو أوشكت أن أدرك , سر ذلك التغير , فقد خطر لصاحب المخزن أن يدعو عتّالا غير أبي بطّة لنقل صندوق ثقيل ما ظنّه في الخامسة و الثمانين يقدر على حمله , و اتّفق أن العتّال الغريب ما كان غير بكر أبي بطة من زوجته الثانية و اسمه حسين , و هو من حيث القدرة البدنية يكاد يكون وريث والده .
    ما إن دخل حسين المخزن و ألقى يده على الصندوق حتى وثب والده من مربضه على العتبة كأنه الذئب الضاري أو النمر الغضبان , و من غير أن يوجه كلمة واحدة إلى ابنه صفعه صفعة مدوية و زمجر "أغرب من هنا يا كلب ما مات أبوك بعد".
    و انكب على الصندوق الثقيل , و مازال يعالجه حتى رفعه بيديه إلى حيث تمكن من حمله على ظهره , و خرج به متباطئا , و لكن بركبتين ثابتتين , فالتفت إلى بطّته المتورمة , و إذا بها تكاد تنشق .
    و عاد أبو بطّة إلى مربضه , و لكن الابتسامة البلهاء لم تعد إلى وجهه , فحاول صاحب المخزن أن يقنعه بأن الخمس و الثمانين من العمر غير الخمس و الثلاثون , فجدير به أن يتخلى عن الأحمال الثقيلة لابنه حسين , و أن يكتفي بأحمال تناسب سنه , و أنه لا شرف له كبير أن يرث مجده في دنيا العتّالة ابنه من صلبه لا رجل غريب عنه .
    فما كان من أبي بطّة إلا أن تمتم بحنق و اشمئزاز "كلب" و انصرف إلى نكت الرصيف بالشرشور , و كان أمس , أمس الذي بات علما في تاريخ الكون الأكبر , و تاريخ العتّالة في بيروت , و اتفق لي أن ذهبت لابتاع حاجة من المخزن الذي وقف أبو بطّة عمره على خدمته , فألفيت صديقي على غير عادته رابضا على العتبة , و في يده رغيف من الخبز يقضمه على مهل بما تبقى في فمه من أسنان بالية . حيّيته بلطف فما هشّ و لا بشّ , بل تظاهر كأنه لم يرني و لم يسمعني , و ما دخلت المخزن حتى بادرني صاحبه بقوله "جئت في وقتك , فما يستطيع غيرك أن يخرجنا من هذا المأزق . "أترى ذلك البرميل من زيت النفط؟ - و أشار إلى برميل كبير ملقى على الأرض , إن صاحبك أبا بطّة يجبن على حمله , و يؤكد أن ليس في المدينة كلها عتّال يقوى عليه .و يأبى أن نأتي بابنه حسن ليحمله , أفلا تلطّف و أقنعته.." .
    و ما كاد صاحب المخزن ينهي كلامه حتى و ثب أبو بطّة من مربضه و صاح , بل زمجر , و اللقمة ما تزال في فمه يحاول بلعها فلا تنبلع "نادوه , نادوه لا حسين و لا جد حسين يستطيع أن يحمله و يخطوا به خطوة واحدة" . و جاؤا بحسين , فألقى نظرة على البرميل , ثم دحرجه قليلا , ثم حاول رفعه من جانب واحد , ثم جمد مكانه برهة في تردّد و وجل . و أخيرا تنحى جانبا و قال بخجل و انكسار قلب "و لا أبي في ربيع مجده كان يستطيع أن يقوم به ".
    عندئذ تقدم أبو بطّة من البرميل و بحركة عصبية مدّ يده اليمنى و دفع بابنه بضع خطوات إلى الوراء متمتما "كلب ! اليوم أعرفك قدر نفسك " ثم بصوت عال "أتوني بمن يرفعه إلى ظهري" فجاءوه بعتّالين آخرين علاوة على حسين . و الثلاثة رفعوا البرميل و أوثقوه جيدا بالحبل إلى ظهر أبي بطّة .
    و لحظت أن العتّالين و صاحب المخزن و مستخدميه قد حبسوا أنفاسهم مثلي , و سمّروا أبصارهم على بطل المشهد الرائع و قد انتفخت أوداجه , و طفر الدم إلى وجهه , و نفرت العروق في بطّته –السليمة و المتورمة – حتى كأنها الحبال المفتولة . و ليس من يصدق انه سيخطو بالبرميل خطوة واحدة .
    و لكن ابا بطّة خطى بالبرميل خطوة , ثم أخرى , و اجتاز العتبة إلى الرصيف , فصاح به صاحب المخزن "احترس يا أبا بطّة فما في البرميل يساوي ألف ليرة عدّا و نقدا". أما الآخرون فما تمالكوا من الهتاف "عاش أبو بطّة عاش بطل العتّالين و قاهر الخمس و الثمانين ".
    و بغتة رأيت أبا بطّة يجمد مكانه و سمعته يتفل قائلا "تفو على الخمس و الثمانين...." و أبصرت أن تفله كان دما احمر. ثم أبصرته يهوي فينطح الأرض بجبينه . وأبصرت البرميل يتدحرج عن ظهره فيمس طرف حذاء سيّدة كانت واقفة على الرصيف , و أبصرت السيدة تنقبض سحنتها فتنقضّ على أبي بطّة و تركله ركلتين قائلة عند كلّ ركلة "وحش" ثم أبصرت صاحب المخزن يهرول صائحا في العتّالين "البرميل , البرميل , تداركوا البرميل , ألف ليرة".
    و كان آخر ما أبصرت جثّة هامدة تجمّد النجيع على شفتيها و جبهتها , و التفت الحبل حول عنقها .
    و كان آخر ما سمعت نداء المؤذن
    "الله أكبر" .

    تحيات /ماجد البلوي
يعمل...