رد: قصة كاملة لم يؤلفها بشر
كتب الله أجرك يا أبو نادر نعم أنها من روائع الشيخ على الطنطاوي رحمة الله
وأنا في أنتظارك غداً
تقبل خالص الدعــاء
أخوكم الزاد
رد: قصة كاملة لم يؤلفها بشر
قصـــــــــة رائعة و مشوقة من أدب الشيخ الطنطاوي رحمه الله تعالى ..
مـُــتابعين لكم أخي الفاضل ..
رد: قصة كاملة لم يؤلفها بشر
أخي الزاد .. شكرا لك هذا الحضور و المتابعة
.
أختي عاصفة الشمال .. بالفعل أدب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله لا يُمل منه
شكرا لك أختي الكريمة
رد: قصة كاملة لم يؤلفها بشر
وكان زوجها يحبها ويبتغي الخير لها ، وكان مستقيم السيرة ، متين الدين ، فلم يكن ينظر إلى غيرها ، أو يفكر في سواها ، ولكنه لم يكن يستطيع أن يبدي حبه إياها ،
وعطفه عليها لأن هذه العيون الست كانت أبدا مفتحة عليه ناظرة إليه ، مراقبة حركاته وسكناته ، لاسيما عينا عمته العجوز العانس ، الحاسدة الحاقدة ، التي لم
تعرف يوما حب الزوج ، وسعادة الزواج ، فهي تريد أن تنتقم لنفسها من المجتمع ، بحرمان هذه الفتاة من الحب والسعادة ، فكانت تلازمها دائما ، لا تفارقها لحظة ،
وكانت لها ولزوجها أشد من الرقيب للمحب ، والعزول للعاشق ، وكانت أكبر من أخيها سنا ، وكانت كالمربية للزوج في صغره ، فاتخذت لنفسها حق النصح له في
كبره فكانت تنخر أبدا في قلبه نخر السوس ، إن رأته منح زوجته بسمة ، أو رقق لها كلمة ، عاتبته وقالت : أنت يا ولدي صغير لا تعرف النساء ، إن المرأة إن
رأت من زوجها ضعفا ركبته ركوبا ، ولم تعد تطع له أمرا . وإن رأته أطال الخلوة بها ، وسوست له وسواس الشيطان ، ووضعت في قلبه جراثيم الكره لها ،
كما تضع الجراثيم بذور المرض في جسم الصحيح ، حتى كادت تكرهه بها ، فتبدلت سيرته معها ، فصار يتأخر عن العودة في المساء ، وإن عاد عاد مقطبا ، لا
لذنب منها ، بل لما وسوست له شيطانته – أي : عمته – من أن إظهار الشدة للزوجة من حسن السياسة ، ومن فضل العقل . وكانت تنتظره حتى يجيء
فلا يشكرها ولكنه يلومها ويستقبح عملها ، وإن هو أطال السهرة ليلة فغلبها النوم جاءته الشيطانة – أي : العمة – فقالت : أرأيت كيف تهملك ولا تبالي بك
؟ ولا تنتظرك كما تنتظر الزوجات رجالهن ؟ فزادت نقمته عليها .
وكانت البنت تحاول أن تشكو إلى أبيها ، أو أن تخبر أمها ، فلا تستطيع أن تنفرد بهما ؛ لأنهم لا يدعونها تذهب إلى أهلها وحدها ، لا تذهب إلا ومعها زوجها أو معها
هذه العمة التي تظهر لها – من مكرها – أمام أهلها أشد الحب ، وأكثر الحنو ، وإذا رأوها هزيلة وسألوها ؛ قالت : إنها لا تأكل ..عجزنا عن إقناعها
بوجوب الغذاء ، فيصدق أهلها.
وكانت البنت تكتم ألمها في نفسها ، لا تجد من تشكو إليه ، فتنفرد في غرفتها تبكي وحدها حتى تبلل بدموعها وسادتها ، ثم تنام ، وكان معجّل مهرها عشرة آلاف ليرة
سورية ومؤجله مثل ذلك ، وكان ذلك مبلغا ضخما جدا ، وكان أبوها لسماحة نفسه ، وكرم يده ، لا يفكر بالمال ، فكتب المهر في صك الزواج ، ولم يطالب به ، ثم
زاد فجهز بنته من ماله، جهازا ضخما يليق مثله ببنات الملوك .
ولم يرض أهل الزوج أولا بهذا المهر ، ولكن الوالد أصر فكتبوه مرغمين ، وهم يرسمون الخطط الشيطانية للخلاص منه، إذ كانوا يحاسبون على ( الفرنك )
ويموتون على ( الليرة ) ، أفيدفعون هذا المبلغ كله مهرا للبنت ؟ وسلكوا إلى إزعاجها كل طريق ، من الإعراض عنها وإهمالها ، إن تكلمت لم يصغوا إليها ،
وإن سألت لم يجيبوها ، وإن قعدت تستريح شغلوها ، وكلفوها بأعمال الدار كلها ، يقترون عليها بالطعام أو يحدثون لها عند كل أكلة ما يزعجها حتى تقوم عن المائدة
ويستعملون جهازها في استقبال ضيوفهم ، ويتخذونه لقعودهم ، ويعملون على إفساده عمدا .
وكان مقصدهم الأول أن يتخلصوا من المهر ، يقدّرون أن إزعاجها يضيق صدرها ، وينفد صبرها فيدفعها إلى طلب المخالعة ، ولكن المسكينة لم تكن تدري ما
المخالعة ، ولم تسمع بها ، وكانت تتقبل ما كتب عليها صابرة لا مفزع لها إلا دمعها .
ثم وسوست إليهم الشيطانة ، فبيتوا أمرا ، فبدلوا معاملتها فجأة ، وصاروا يخصونها بالرعاية ، ويلينون لها القول ، ويقومون عنها ببعض أعمال الدار ، ويمدحونها
بأنها هي المتعلمة الكاتبة القارئة ، ولم يكن في العادة يطرق بابهم طارق ، لأنهم – لبخلهم – لا يزورون أحدا أبدا ، لئلا يزورهم فيكلفهم ثمن الضيافة ، فصار
بابهم يطرق كل يوم ، يطرقه موزعو البريد برسائل مسجلة ، فكانوا يجيئونها بالوصل لتمضيه ؛ لأنها هي الكاتبة القارئة وكل من في الدار أميات ؛ فكانت تسر بذلك
وتفرح .
وكانت يوما في المطبخ ويدها في جلي الصحون ، فسمعت قرع الباب ، فجاءت العمة مسرعة ، قالت : خذي الله يرضى عليك إمض هنا ، قالت : ألا ترين
يدي في الصابون ، انتظري حتى أغسلها وأقرأ ما في الورق ، فقالت لها : الرجل على الباب ، إمض وبعد ذلك تقرئين ما فيها ، وماذا يكون فيها ؟ إنه إيصال
بريد كغيره من الإيصالات .
فمسحت يدها وأخذت الورقة ، وكانت مثنية ما يظهر ما فيها ، فوقعت حيث أشاروا إليها .
وساءت معاملتهم إياها فجأة ، كما حسنت فجأة ، وعادوا أفظع عما كانوا عليه ، وشاركهم زوجها وانقلب معهم عليها ، وكانت حاملا في شهرها الأخير ، فأرادوا أن
يتخلصوا من تكاليف الولادة فطردوها ، فذهبت إلى بيت أبيها .
وعجب لما رآها داخلة عليه ، وأسرع يلومها ، ويقول لها : ما هذا العمل ، ومتى كان الحرد من شمائلنا ؟ وأيدته أمها، لأنهما لم يكونا يعرفان شيئا من حال
أحمائها ، فانطلقت تبكي بكاء موجعا ، يقطع القلوب ، وتقص عليهما قصتها من خلال دموعها .
وطيب أبوها خاطرها ، وأولاها من قلبه ومن ماله ، ما ضمد جراحها ، وفتحت لها أمها صدرها ، ومشت الوسائط بين الفريقين ، فإذا بيت الأحماء يقلبون لها ظهر
المجن ، ويجاهرون بالعداوة ، ويكشفون عن حقيقتهم التي كانوا يخفونها وراء ستار التصنع والنفاق ، فيئس أهل البنت ، وطلبوا أن يطلقها الزوج ويؤدي إليها حقوقها
، ويرد عليها جهازها .
قالوا : هيهات ! حقوقها وصلت إليها لقد قبضت مهرها كله ، معجله ومؤجله وسند القبض بأيدينا ، أما الجهاز فهو لنا نحن اشتريناه .
وكانت قصة الجهاز أن بيت الأحماء من مكرهم قد عرضوا على الأب أن يتولوا هم شراء الجهاز واختياره ، ورضي أبو البنت ، فاشتروه وهو الذي دفع الثمن
ولكن كانت ورقة الإيصال بأسمائهم وكانت بأيديهم .
وأما المهر فإن الورقة التي جاؤوا بها إليها لتمضيها ، وزعموا أنها وصل البريد ، كانت سندا بوصول المبلغ إليها ، وكانت قصة رسائل البريد التي ترد كل يوم قصة
مصطنعة اتخذوها تمهيدا لما أرادوه وبيتوه .
وأقيمت الدعوى ووكل أبو البنت محاميا قديرا ، ودفع له أجرا وفيرا ، وبذل له المحامي جهده ، وكان القاضي من قضاة العدل . ولكنهم عجزوا عن الإثبات ،
فطلبوا تحليف اليمين كذبا وبهتانا ، وخسرت البنت دعواها ، خرجت بلا زوج ولا مهر ولا جهاز ، ما بقي معها إلا ابنتها التي ولدتها .
وجاء المحامي يريد أن يأذنوا له بإقامة الدعوى الجزائية لليمين الكاذبة . فقال الأب : لا أريد ، قال المحامي : لِمَ لا تريد ؟ قال : أما رأيت كيف ضاع
حقنا ؟ قال : ما ضاع لتقصير في الدفاع ، ولا لميل من القاضي عن الحق ، بل لأن القضاء البشري إنما يحكم بالبينات الظاهرة ، ولا يستطيع أن ينفذ إلى الحقائق
؛ ولذلك يخطئ القاضي حينا ، ويصيب حينا ، والرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعدل قاض في تاريخ البشرية كلها ، قال : " إنكم لتحتكمون إلي ، ولعل
أحدكما ألحن بحجته من صاحبه – أي : أقدر على الدفاع – فأقضي له ، فإنما أقضي له بقطعة من النار " .
والقضاة ما عندهم إلا الأوراق والشهود والأيمان ، وقد تزّور الأوراق ، وقد يكذب الشهود ، وقد تفجر اليمين ، والله وحده هو الذي يعرف المحق من المبطل دائما ،
قال الأب : ولذلك فإني أقيم الدعوى عليه عند الله .
ومرت الأيام ، وكانت الأم تجد أنسها ببنتها ، جعلتها هي حظها من دنياها ، وقنعت بها ، ووقفت نفسها عليها ، وبلغت البنت التاسعة فجاء الأب يطلبها .
وكان قد تزوج من بعدها ورزق بولدين ، فتجددت للأم المسكينة أحزانها كلها ، وعادت مأساتها التي حسبتها قد طواها النسيان ، وأصبحت تشعر بأن فراق روحها
أهون عليها من فراق ابنتها .
لقد جعلت هذه البنت دنياها ، فماذا يبقى لها إن فقدتها ؟ وصارت لا تستطيع فراقها لحظة ، وكلما رأتها ضمتها إليها ، وبكت البنت بين ساعديها وبكى كل من رآهما ،
وجاء يوم المحاكمة وصدر الحكم بتسليم البنت إلى أبيها .
أخذ الأب البنت ، وأراد أهله مبالغة في الكيد والانتقام ، أن يخرجوا إلى النزهة ليفرحوا في يوم مأساة الأم ، ويضحكوا في يوم بكائها ، وكانت له سيارة اشتراها
على معارضة من أبيه فأخذ أباه وأمه وعمته وزوجته الجديدة وبنته الأولى التي أخذها من أمها وسافر إلى لبنان .
وكان حديثهم طول الطريق عن الزوجة الأولى ( أم البنت ) والسخرية بها ، والبنت المسكينة تسمع ، لا يدركهم خوف الله فيكفوا عن غيبة الغائبة ، وظلم
البريئة ، ولا رحمة الإنسان فيرعوا عواطف هذه الطفلة التي انتزعوها من أمها .
وبلغ بهم الكبر والجبروت الغاية ، فكان من فرحه بظفره يسابق السيارات ، فكلما رأى سيارة أمامه أسرع حتى يسبقها ، فرأى ذلك الصهريج ، فقالوا له : قف
حتى يمر ، قال : لا ، إني أسبقه إلى المنعطف ، وقد صارت لي خبرة للخلاص من المآزق ، أما تخلصت من تلك المرأة فأخرجتها يدا من الوراء ويدا من الأمام ،
بلا مال ولا جهاز ، ثم نزعت منها ابنتها ؟ وقهقه ضاحكا ، وكان قد صار بجنب الصهريج ، ووقعت المأساة...
مال الصهريج كما عرفتم على سيارته ، كما يميل الفيل على شاة صغيرة ، فرمى بها إلى الوادي ، فتحطمت ، أما الركاب ، فإن الزوج والأب والأم والعمة قد
صاروا عجينة واحدة اختلط لحمها بعظمها ، والزوجة الجديدة والأولاد الذين لا ذنب لهم خرجوا سالمين ، ما أصابهم كبير أذى لأنهم أبرياء ما اشتركوا في الجريمة
، أما الذين اشتركوا فيها ، وأقام عليهم أبو البنت المظلومة الدعوى في محكمة الله ؛ فكان هذا مصيرهم!!
ومن لم يلق مثله في الدنيا ؛ فليعلم أنه ينتظره عند الله ما هو أشد وأكبر !
انتهت
رد: قصة كاملة لم يؤلفها بشر
قصـــــة مؤثرة ... سبحان من يمهل و لا يهمــــــــــــل ..
شكـــــــــــــرًا لكم أخي الفاضل ...
و لا تتأخروا علينا بالمزيد من هذه الدرر الأدبية .