ثالثاً: خلاصة المبحث الأول:
تجلى مما سبق ذكره أن هذاالنوع من أنواع علوم الحديث تدخل فيه زيادة الثقة، وقد رأينا ابن الصلاح يطلقالقبول فيما وصله الثقة مخالفا لغيره، أو فيما رفعه مخالفا لمن وقفه، وهو حكممختلف عما بينه هو في نوع العلة، اللهم إلا إذا قيدنا ذلك بحالة ما إذا لم يتبينأن هذه الزيادة قد وقعت منه خطأ ووهما بعد تتبع القرائن والملابسات.
وفي هذهالحالة وحدها التي يكون فيها الحديث خاليا مما يدل على وهم راويه أو صوابه منالقرائن والملابسات يصح أن يقال: هذا الوصل أو الرفع من الثقة، وزيادتهمقبولة.
وبهذا تصبح مسألة تعارض الوصل والإرسال وتعارض الوقف والرفع منسجمة معالأنواع التي تشكل وحدة موضوعية لا سيما موضوع زيادة الثقة في أحكامها وأبعادهاالنقدية.
المبحث الثاني : المدرج
أولاً: نص ابن الصلاح فيالمدرج:
قال ابن الصلاح: "النوع العشرون: معرفة المدرج في الحديث.وهو أقسام: منها ما أدرج في حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من كلام بعض رواته،بأن يذكر الصحابي أو من بعده عقيب ما يرويه من الحديث كلاماً من عند نفسه، فيرويهمن بعده موصولاً بالحديث غير فاصل بينهما بذكر قائله، فيلتبس الأمر فيه على من لايعلم حقيقة الحال، ويتوهم أن الجميع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ومنأمثلته المشهورة: ما رويناه في التشهد عن أبي خيثمة زهير بن معاوية عن الحسن بنالحر عن القاسم بن مخيمرة عن علقمة عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله (صلى اللهعليه وسلم) علّمه التشهد في الصلاة، فقال: قل: "التحيات لله فذكر التشهد وفي آخره: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله ، فإذا قلت هذا فقد قضيتصلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد".
هكذا رواه أبو خيثمة عنالحسن بن الحر، فأدرج في الحديث قوله:"فإذا قلت هذا ... إلى آخره وإنما هذا من كلامابن مسعود لا من كلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
ومن الدليل عليه أن الثقةالزاهد عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان رواه عن راويه الحسن بن الحر كذلك، واتفق حسينالجعفي وابن عجلان وغيرهما في روايتهم عن الحسن بن الحر على ترك ذكر هذا الكلام فيآخر الحديث، مع اتفاق كل من روى التشهد عن علقمة وعن غيره، عن ابن مسعود على ذلك،ورواه شبابة عن أبي خيثمة، ففصله أيضاً".
ومن أقسام المدرج: أن يكون متنالحديث عند الراوي له بإسناد إلا طرفاً منه فإنه عنده بإسناد ثان، فيدرجه من رواهعنه على الإسناد الأول، ويحذف الإسناد الثاني، ويروي جميعه بالإسنادالأول.
مثاله: حديث ابن عيينة وزائدة بن قدامة عن عاصم بن كليب عن أبيه عنوائل بن حجر في صفة صلاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وفي آخره: "أنه جاء فيالشتاء فرآهم يرفعون أيديهم من تحت الثياب" والصواب رواية من روى عن عاصم بن كليببهذا الإسناد صفة الصلاة خاصة، وفصل ذكر رفع الأيدي عنه، فرواه عن عاصم عن عبدالجبار بن وائل عن بعض أهله عن وائل بن حجر".
ومنها: أن يدرج في متن حديثبعض متن حديث آخر مخالف للأول في الإسناد.
ومثاله :رواية سعيد بن أبي مريم عنمالك عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تباغضواولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تنافسوا ..." الحديث.
فقوله :"لا تنافسوا" أدرجهابن أبي مريم من متن حديث آخر رواه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة فيه: "لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا" والله أعلم.
ومنها: أنيروي الراوي حديثا عن جماعة بينهم اختلاف في إسناده ، فلا يذكر الاختلاف فيه، بليدرج روايتهم على الاتفاق.
مثاله: رواية عبدالرحمن بن مهدي ومحمد بن كثيرالعبدي عن الثوري عن منصور والأعمش وواصل الأحدب عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عنابن مسعود, قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم …الحديث.
وواصل إنما رواه عن أبيوائل عن عبدالله من غير ذكر عمرو بن شرحبيل بينهما والله أعلم."انتهى.
ثانياً: تحليل النص والتعقيب عليه:
إن الذي بيّنهابن الصلاح في هذا النوع المسمى مدرجاً ينطوي على معظم أقسامه وأمثلته مفهوم زيادةالثقة إذا وقع الإدراج من الثقة؛ إذ كل ما يزيده هو في الحديث مما ليس منه دون أنيفصله عن أصل الحديث يعد مدرجاً، سواء كان هذا المدرَج قولا لصحابي أو قولاً لراو ممنبعده، كما في المثال الأول، أو كان جزءا من حديث آخر يُروى بإسناد مستقل كما فيالمثال الثاني والثالث.
ولوقوع الإدراج في الحديث أسباب كثيرة، ويرجع معظمهاإلى سوء الحفظ أو الوهم أو الرواية بالمعنى أو إلى أمن الالتباس عند الراوي؛ كشرحالراوي معاني الكلمات الغريبة الواردة في الحديث أثناء التحديث.
وتفصيل ذلككالتالي: ترى في المثال الأول أن أبا خيثمة -الثقة- زاد في آخر الحديث جملة لميذكرها غيره من الثقات، وبذلك أصبح مخالفاً لهم في ذلك، وحين تبين من التتبعوالقرائن أن تلك الجملة كان يقولها عبدالله بن مسعود من عنده بعد رواية الحديث عنالنبي (صلى الله عليه وسلم) قالوا إنها مدرجة في متن الحديث، وبالتالي يقال عنها "شاذة" بناء على أنها مخالفة لما رواه الثقات أو مخالفة للواقع الحديثي. أو يقال"منكرة" باعتبارها غير معروفة عن عبدالله بن مسعود، وإنما يعرف عنه أنه قال ذلك منعنده وليس مروياً عن النبي (صلى الله عليه وسلم). أو يقال "معلولة" بشكل عام إذ إنإدراج تلك الجملة في الحديث، وجعلها طرفاً من قول النبي (صلى الله عليه وسلم) يعد خطأووهما. أو قل: إنها زيادة ثقة غير مقبولة لأنه زيادة عن أصل الحديث المرفوع.
وكذا الأمر في المثال الثاني، حيث زاد كل من ابن عيينة وزائدة بن قدامة في آخرالحديث"أنه جاء في الشتاء فرآهم يرفعون أيديهم من تحت الثياب" وبهذه الزيادةتحققت المخالفة بينهما وبين الثقات الآخرين، وبالتالي أصبحت مردودة بعد أن تأكدإدراجها. وإن شئت سمها شاذة أو منكرة أو معلولة أو زيادة الثقة غير المقبولة.
وأما في المثال الثالث فقد زاد ابن أبي مريم الثقة جملة ‘لا تنافسوا’ في الحديثالذي رواه جماعة من الثقات بدونها. ومن تتبع القرائن علم أنها جملة من حديث آخر كانيرويه مالك بإسناد آخر، وبالتالي فزيادة ابن أبي مريم مردودة ولا تعد طرفا منالحديث.
ثالثاً: خلاصة المبحث الثاني:
هكذا تتضح وحدة الموضوع التيتربط المدرج بموضوع زيادة الثقة، لا سيما الأنواع : العلة والشاذ والمنكر، وتتمثلهذه الوحدة الموضوعية في التفرد والمخالفة. فما يتفرد به الثقة مخالفاً لغيره تكونأحكامه حسب القرائن والملابسات التي تحيط بذلك. ولذلك يبقى نوع المدرج الذي أدرجهالثقة في أصل الحديث في دائرة زيادة الثقة التي تبين خطؤها، وبالتالي يكون هذاالمدرج من الأنواع المردودة من الزيادات. وبما أن زيادة الثقة تقع في الحديث لأسبابكثيرة منها ما يدل على أنها مدرجة ومقحمة في أصل الحديث فإن إطلاق الحكم بقبولالزيادة من الثقة دون التفات إلى الأسباب المحتملة لذكرها في الحديث يكون مناقضالقواعد النقد عند المحدثين تنظيراً وتطبيقاً.
والجدير بالذكر أن الحافظ ابنحجر وبعض المتأخرين جعلوا أول مثال مما سبق لإدراج في المتن، وأما الثاني والثالثوالرابع فعدوها أمثلة إدراج في السند.
وهذا غير دقيق فيما أرى؛ إذ ترجع كلها ماعدا المثال الرابع إلى زيادة في المتن وإدراجها فيه، غير أن الأول كانت الزيادةالمدرجة فيه قولاً لصحابي، بينما كانت الزيادة المدرجة في الثاني والثالث هي طرف منحديث آخر فجاء التلفيق بين سنديهما. وأما الرابع فيكون مثالا لوقوع الإدراج فيالسند، وليس في المتن وذلك بالتلفيق بين روايتين مختلفتين أحدهما متصلة والثانيةمنقطعة وكان المتن فيهما واحداً.
ولذلك نجعل ما سبق من الأمثلة كلها ما عداالرابع إدراجا في المتن، وأما الإدراج في الإسناد فسنرى أمثلته في المبحثالآتي.
ولذلك فنوع المدرج يشكل -مع المزيد في متصل الأسانيد- وحدة موضوعيةفي قضية الزيادة والإدراج، يقول فضيلة الأستاذ الدكتور / نور الدين عتر (حفظهالله):"وفي رأينا أن هذا النوع يمكن أن يدخل في المدرج (مدرج السند) الآتي وفيالمعلل بعلة غير قادحة، فليتأمل".