بسم الله الرحمان الرحيم
أما بعد
فهذه المسألة من المسائل الخلافية الشائكة التي اختلف بها السلف و يختلف بها فقهاء العصر. و قد رأينا تبسيط هذه المسألة و توضيح المسألة من أبعادها و تبيين أدلة كل طرف و مناقشتها. و من ثم الوصول إلى حكم وسط راجح في هذه المسألة.
ترغيب الإسلام على الزواج و الإنجاب
لقد حض الإسلام على الزواج وذم الرهبانية و التبتل. وثبت في الصحيح عن ابن مسعود t قال: قال رسول الله r: «يا معشر الشباب. من استطاع منكم الْبَاءَةَ فليتزوّج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليهِ بالصوم، فإنه له وِجَاء» رواه الجماعة. وعن سعد بن أبي وقاص قال: «رد رسول الله r على عثمان بن مظعون التبتل. ولو أذن له لاختصينا». وعن أنس: أن نفراً من أصحاب النبي r قال بعضهم: "لا أتزوج". وقال بعضهم: "أصلي ولا أنام". وقال بعضهم: "أصوم ولا أفطر". فبلغ ذلك النبي r فقال: «ما بال أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟ لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني». متفق عليهما.
فهذه كلها أحاديث صحيحة ترغب بالزواج، ولا تدل بأي شكل على استحباب الإنجاب. والفرق شاسعٌ بينهما، لأن الهدف من الزواج هو إحصان النفس. ولو كان الرجل شيخاً مثلاً لا رغبة له في الزواج، فلا يكون الزواج مستحباً له على قول بعض العلماء. قال الغزالي في الإحياء: «من اجتمعت له فوائد النكاح وانتفت عنه آفاته فالمستحب في حقه التزويج، ومن لا فالترك له أفضل، ومن تعارض الأمر في حقه فليجتهد ويعمل بالراجح».
وقد استشهد من قال باستحباب الإنجاب بأحاديث باطلة ضعيفة لا يكاد يصح منها شيء. منها: حديثٌ عن ابن عمر عن الديلمي في مُسنَدِ الفِردَوس قال: قال رسول الله r: «حجوا تستغنوا. وسافروا تصحوا. وتناكحوا تكثروا. فإني أباهي بكم الأمم»، وفي إسناده محمد بن الحرث عن محمد بن عبد الرحمن البيلماني وهما ضعيفان. وأخرج البيهقي عن أبي أمامة: «تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم. ولا تكونوا كرهبانية النصارى»، وفي إسناده محمد بن ثابت وهو ضعيف، وقد أشار البيهقي نفسه لضعف الحديث. وأخرج الدارقطني في المؤتلف وابن قانع في الصحابة عن حرملة بن النعمان: «امرأةٌ ولودٌ أحَبّ إلى الله من امرأة حسناء لا تلد. إني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة»، وهو ضعيف. وأخرج ابن ماجة وعن عائشة أن النبي r قال: «النكاح من سنتي. فمن لم يعمل بسنتي فليس مني. وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم. ومن كان ذا طول فلينكح. ومن لم يجد فعليه بالصوم، فإن الصوم له وجاء»، وفي إسناده عيسى بن ميمون وهو ضعيف. وأخرج الحاكم عن عياض بن غنم: «لا تزوجوا عاقراً ولا عجوزاً، فإني مكاثر بكم الأمم»، وقد ضعفه ابن حجر. وأخرج ابن مِرْدَوَيْه في تفسيره من حديث ابن عمر: «تَنَاكَحُوا تَكْثُروا فَإنِّي أُبَاهِي بكُمُ الأُمَمَ يومَ القيامة»، وضعفه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (2|22). وأخرج الطبراني عن سعد بن أبي وقاص: «إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة». وأخرج أحمد وأبو داود عن ابن عباس مرفوعاً: «لا صرورة في الإسلام»، وفي إسناده عمر بن عطاء وهو ضعيف كما أفاد المنذري. وأخرج أحمد عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: «انكحوا العالمين الأولاد، فإني أباهي بكم يوم القيامة»، وفيه جرير بن عبد الله المعافري وهو ضعيف. وأخرج أحمد والطبراني في الأوسط عن حفص بن عمر (هو ابن عبد الله بن أبي طلحة، جيد الحديث) عن أنس أن النبي r كان يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهياً شديداً ويقول: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة»، وفي إسناده خلف بن خليفة وهو ثقة لكن قد خرف واختلط، وقد أشار لذلك أحمد (3|245) في ذكره لهذا الحديث.
على أن هذه الأحاديث كلها –لو صحت– تؤخذ على استحباب تزوج المرأة التي تنجب الأولاد. و ليس من هذه الأحاديث حديثٌ واحدٌ يُحرّم تحديد النسل. فالتحريم لا بد له من دليلٌ واضحٌ، و هو مُنتفٍ في هذه الحالة. وأحسن ما في الباب ما رواه أبو داود (2|220) وابن حبان (9|364) والحاكم (2|176) عن معقل بن يسار قال: جاء رجلٌ إلى النبي r فقال: «إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد. أفأتزوجها؟» قال: «لا». ثم أتاه الثانية، فنهاه. ثم أتاه الثالثة، فقال: «تَزوَّجوا الودُودَ الولُودَ فإنِّي مُكاثِر بكم الأمَم». والمُكَاثرة: هي المُفاخَرة بالكثْرة. والحديث في إسناده مستلم بن سعيد قال عنه ابن حجر: «صدوقٌ عابدٌ رُبما وَهِم». وهذا لو صحّ لكان معناه تحريم تزوج المرأة التي لا تنجب، وهذا أمرٌ لا أعلم أحداً منهم يقول بذلك. وفي الحديث بعض النكارة، إذ كيف عرف ذلك الرجل أنها لا تنجب وهو لم يتزوجها؟ ألِمجرد شك في قدرتها على الإنجاب يحرم الزواج منها؟! وناهيك بالحديث ضعفاً أن لا يعمل به أحد. إلا إن حملوه على مجرد كراهة الزواج ممن يُظَن أنها لا تنجب، فيكون المعنى كراهية قطع النسل كلية (وليس تحريم تحديده).
وقد استدل البعض بكراهية تكثير النسل بقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} (النساء:3). قال بعض العلماء معناها: تزوجوا واحدة ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم. قاله زيد بن أسلم وجابر بن زيد وسفيان بن عيينة والشافعي. وهذا التفسير جائزٌ عند علماء اللغة.