الباب الرابع
فيما تضمنته الفاتحة من المعاني والقراءات و الإعراب و فضل الحامدين
وفيه ستٌ وثلاثون مسألة:
قوله سبحانه وتعالى: ( الْحَمْد لِلَّهِ ) رَوَى أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْغَنِيّ بْن سَعِيد الْحَافِظ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَأَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا قَالَ الْعَبْد الْحَمْد لِلَّهِ قَالَ صَدَقَ عَبْدِي الْحَمْد لِي ) . وَرَوَى مُسْلِم عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْد أَنْ يَأْكُل الْأَكْلَة فَيَحْمَدهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَب الشَّرْبَة فَيَحْمَدهُ عَلَيْهَا ) . وَقَالَ الْحَسَن : مَا مِنْ نِعْمَة إِلَّا وَالْحَمْد لِلَّهِ أَفْضَل مِنْهَا . وَرَوَى اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا أَنْعَمَ اللَّه عَلَى عَبْد نِعْمَة فَقَالَ الْحَمْد لِلَّهِ إِلَّا كَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ أَفْضَل مِمَّا أَخَذَ ) . وَفِي ( نَوَادِر الْأُصُول ) عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا كُلّهَا بِحَذَافِيرِهَا بِيَدِ رَجُل مِنْ أُمَّتِي ثُمَّ قَالَ الْحَمْد لِلَّهِ لَكَانَتْ الْحَمْد لِلَّهِ أَفْضَل مِنْ ذَلِكَ ) . قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه : مَعْنَاهُ عِنْدنَا أَنَّهُ قَدْ أُعْطِي الدُّنْيَا , ثُمَّ أُعْطِي عَلَى أَثَرهَا هَذِهِ الْكَلِمَة حَتَّى نَطَقَ بِهَا , فَكَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَة أَفْضَل مِنْ الدُّنْيَا كُلّهَا , لِأَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَة وَالْكَلِمَة بَاقِيَة , هِيَ مِنْ الْبَاقِيَات الصَّالِحَات ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَالْبَاقِيَات الصَّالِحَات خَيْر عِنْد رَبّك ثَوَابًا وَخَيْر أَمَلًا " [ مَرْيَم : 76 ] . وَقِيلَ فِي بَعْض الرِّوَايَات : لَكَانَ مَا أَعْطَى أَكْثَر مِمَّا أَخَذَ . فَصَيَّرَ الْكَلِمَة إِعْطَاء مِنْ الْعَبْد , وَالدُّنْيَا أَخْذًا مِنْ اللَّه ; فَهَذَا فِي التَّدْبِير . كَذَاك يَجْرِي فِي الْكَلَام أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَة مِنْ الْعَبْد , وَالدُّنْيَا مِنْ اللَّه ; وَكِلَاهُمَا مِنْ اللَّه فِي الْأَصْل , الدُّنْيَا مِنْهُ وَالْكَلِمَة مِنْهُ ; أَعْطَاهُ الدُّنْيَا فَأَغْنَاهُ , وَأَعْطَاهُ الْكَلِمَة فَشَرَّفَهُ بِهَا فِي الْآخِرَة . وَرَوَى اِبْن مَاجَهْ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ : ( أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَاد اللَّه قَالَ يَا رَبّ لَك الْحَمْد كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهك وَعَظِيم سُلْطَانك فَعَضَلَتْ بِالْمَلَكَيْنِ فَلَمْ يَدْرِيَا كَيْف يَكْتُبَانِهَا فَصَعِدَا إِلَى السَّمَاء وَقَالَا يَا رَبّنَا إِنَّ عَبْدك قَدْ قَالَ مَقَالَة لَا نَدْرِي كَيْف نَكْتُبهَا قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَم بِمَا قَالَ عَبْده مَاذَا قَالَ عَبْدِي قَالَا يَا رَبّ إِنَّهُ قَدْ قَالَ يَا رَبّ لَك الْحَمْد كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهك وَعَظِيم سُلْطَانك فَقَالَ اللَّه لَهُمَا اُكْتُبَاهَا كَمَا قَالَ عَبْدِي حَتَّى يَلْقَانِي فَأَجْزِيه بِهَا ) .
قَالَ أَهْل اللُّغَة : أَعْضَلَ الْأَمْر : اِشْتَدَّ وَاسْتَغْلَقَ ; وَالْمُعَضِّلَات ( بِتَشْدِيدِ الضَّاد ) : الشَّدَائِد . وَعَضَّلَتْ الْمَرْأَة وَالشَّاة : إِذَا نَشِبَ وَلَدهَا فَلَمْ يَسْهُل مُخْرَجه ; بِتَشْدِيدِ الضَّاد أَيْضًا ; فَعَلَى هَذَا يَكُون : أَعْضَلَتْ الْمَلَكَيْنِ أَوْ عَضَّلَتْ الْمُلْكَيْنِ بِغَيْرِ بَاء . وَاَللَّه أَعْلَم . وَرُوِيَ عَنْ مُسْلِم عَنْ أَبِي مَالِك الْأَشْعَرِيّ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الطُّهُور شَطْر الْإِيمَان وَالْحَمْد لِلَّهِ تَمْلَأ الْمِيزَان وَسُبْحَان اللَّه وَالْحَمْد لِلَّهِ تَمْلَآنِ أَوْ تَمْلَأ مَا بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء أَيّمَا أَفْضَل ; قَوْل الْعَبْد : الْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ , أَوْ قَوْل لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ ؟ فَقَالَتْ طَائِفَة : قَوْله الْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ أَفْضَل ; لِأَنَّ فِي ضِمْنه التَّوْحِيد الَّذِي هُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه , فَفِي قَوْله تَوْحِيد وَحَمْد ; وَفِي قَوْله لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه تَوْحِيد فَقَطْ . وَقَالَتْ طَائِفَة : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه أَفْضَل ; لِأَنَّهَا تَدْفَع الْكُفْرَ وَالْإِشْرَاكَ , وَعَلَيْهَا يُقَاتِل الْخَلْق ; قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه ) . وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل اِبْن عَطِيَّة قَالَ : وَالْحَاكِم بِذَلِكَ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَفْضَل مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ) .
أَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مَحْمُود عَلَى سَائِر نِعَمه , وَأَنَّ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّه بِهِ الْإِيمَان , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ فِعْله وَخَلْقه ; وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْله : " رَبّ الْعَالَمِينَ " . وَالْعَالَمُونَ جُمْلَة الْمَخْلُوقَات , وَمِنْ جُمْلَتهَا الْإِيمَان , لَا كَمَا قَالَ الْقَدَرِيَّة : إِنَّهُ خَلْق لَهُمْ ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه .
الْحَمْد فِي كَلَام الْعَرَب مَعْنَاهُ الثَّنَاء الْكَامِل ; وَالْأَلِف وَاللَّام لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْس مِنْ الْمَحَامِد ; فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقّ الْحَمْدَ بِأَجْمَعِهِ إِذْ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى وَالصِّفَات الْعُلَا ; وَقَدْ جُمِعَ لَفْظ الْحَمْد جَمْع الْقِلَّة فِي قَوْل الشَّاعِر : وَأَبْلَج مَحْمُود الثَّنَاء خَصَصْته بِأَفْضَل أَقْوَالِي وَأَفْضَل أَحْمُدِي فَالْحَمْد نَقِيض الذَّمّ , تَقُول : حَمِدْت الرَّجُلَ أَحْمَدهُ حَمْدًا فَهُوَ حَمِيد وَمَحْمُود ; وَالتَّحْمِيد أَبْلَغ مِنْ الْحَمْد. وَالْحَمْد أَعَمّ مِنْ الشُّكْر , وَالْحَمْد : الَّذِي كَثُرَتْ خِصَاله الْمَحْمُودَة . قَالَ الشَّاعِر : إِلَى الْمَاجِد الْقَرْم الْجَوَاد الْمُحَمَّد وَبِذَلِكَ سُمِّيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الشَّاعِر : فَشَقَّ لَهُ مِنْ اِسْمه لِيُجِلّهُ فَذُو الْعَرْش مَحْمُود وَهَذَا مُحَمَّد وَالْمَحْمَدَة : خِلَاف الْمَذَمَّة . وَأَحْمَدَ الرَّجُل : صَارَ أَمْره إِلَى الْحَمْد. وَأَحْمَدْتُهُ : وَجَدْته مَحْمُودًا , تَقُول : أَتَيْت مَوْضِع كَذَا فَأَحْمَدْتُهُ ; أَيْ صَادَفْته مَحْمُودًا مُوَافِقًا , وَذَلِكَ إِذَا رَضِيت سُكْنَاهُ أَوْ مَرْعَاهُ . وَرَجُل حُمَدَة - مِثْل هُمَزَة - يُكْثِر حَمْد الْأَشْيَاء وَيَقُول فِيهَا أَكْثَر مِمَّا فِيهَا. وَحَمَدَةُ النَّار - بِالتَّحْرِيكِ - : صَوْت اِلْتِهَابهَا .
ذَهَبَ أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ وَأَبُو الْعَبَّاس الْمُبَرِّد إِلَى أَنَّ الْحَمْد وَالشُّكْر بِمَعْنًى وَاحِد سَوَاء , وَلَيْسَ بِمَرْضِيٍّ . وَحَكَاهُ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ فِي كِتَاب " الْحَقَائِق " لَهُ عَنْ جَعْفَر الصَّادِق وَابْن عَطَاء . قَالَ اِبْن عَطَاء : مَعْنَاهُ الشُّكْر لِلَّهِ ; إِذْ كَانَ مِنْهُ الِامْتِنَان عَلَى تَعْلِيمنَا إِيَّاهُ حَتَّى حَمِدْنَاهُ . وَاسْتَدَلَّ الطَّبَرِيّ عَلَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى بِصِحَّةِ قَوْلِك : الْحَمْد لِلَّهِ شُكْرًا . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة دَلِيل عَلَى خِلَاف مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ قَوْلَك شُكْرًا , إِنَّمَا خَصَصْت بِهِ الْحَمْد ; لِأَنَّهُ عَلَى نِعْمَة مِنْ النِّعَم . وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّ الشُّكْر أَعَمّ مِنْ الْحَمْد ; لِأَنَّهُ بِاللِّسَانِ وَبِالْجَوَارِحِ وَالْقَلْب ; وَالْحَمْد إِنَّمَا يَكُون بِاللِّسَانِ خَاصَّة . وَقِيلَ : الْحَمْد أَعَمّ ; لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الشُّكْر وَمَعْنَى الْمَدْح , وَهُوَ أَعَمّ مِنْ الشُّكْر ; لِأَنَّ الْحَمْد يُوضَع مَوْضِع الشُّكْر وَلَا يُوضَع الشُّكْر مَوْضِع الْحَمْد . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : الْحَمْد لِلَّهِ كَلِمَة كُلّ شَاكِر , وَإِنَّ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ حِين عَطَسَ : الْحَمْد لِلَّهِ . وَقَالَ اللَّه لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَام : " فَقُلْ الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْم الظَّالِمِينَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 28 ] وَقَالَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام : " الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَر إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق " [ إِبْرَاهِيم : 3 ] . وَقَالَ فِي قِصَّة دَاوُدَ وَسُلَيْمَان : " وَقَالَا الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِير مِنْ عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ " [ النَّمْل : 15 ] . وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَقُلْ الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذ وَلَدًا " [ الْإِسْرَاء : 111 ] . وَقَالَ أَهْل الْجَنَّة : " الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَب عَنَّا الْحَزَن " [ فَاطِر : 34 ]. " وَآخِر دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ " [ يُونُس : 10 ] . فَهِيَ كَلِمَة كُلّ شَاكِر .
http://www.alshamsi.net/mohammed_7abebe.jpg
http://members.tripod.com/~Breanna__/gold/goldwings.gif
بنت ابوها