رد: شرح احاديث عمدة الاحكام
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث السادس عشر
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
الحديث السادس عشر :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء ، فأحمل أنا وغلام نحوي [ معي ] إداوة من ماء وعنزة ، فيستنجي بالماء .
العَنَزَة : الحربة الصغيرة .
والإداوة : إناء صغير من جِلد .
فيه مسائل :
= لفظ [ معي ] لم أره في الصحيحين ، وإنما رأيته عند النسائي .
= تقدم في الحديث السابق أن لفظ " كان " يدلّ على الكثرة .
= كان يدخل الخلاء : أي يقصد الخلاء لقضاء الحاجة .
= وغلام نحوي : أي مُقارب لي في السن .
وفي رواية البخاري : وغلام منّـا . يعني من الأنصار .
= يحتمل أنهما يتساعدان في حمل الأشياء المذكورة .
= حمل العنزة . قيل لأسباب منها :
- أنه كان يُصلي إليها إذا توضأ ، أي يجعلها سترة له .
- أنه كان ينبش الأرض الصلبة بها ، لئلا يتطاير عليه من رشاش البول في الأرض الصلبة ، وورد في هذا حديث ، ولكنه لا يصح .
ولفظه : كان إذا أراد أن يبول فأتى عزازاً من الأرض أخذ عوداً فنكت به في الأرض ، حتى يثير من التراب ، ثم يبول فيه . والحديث في ضعيف الجامع .
- لاتّـقـاء العددو ؛ لأنه يخرج خارج البنيان .
- التوكؤ عليها لمن قال هي عصا طويلة .
- تعليق الأمتعة بها .
وقيل غير ذلك .
= في الحديث دليل على خدمة الصالحين ، وأهل الفضل ، وليس في ذلك عيب ولا منقصة .
= فيه الإشارة إلى هديه صلى الله عليه وسلم في قضاء الحاجة .
ويتضمن أموراً :
أولاً : الابتعاد عن الناس ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب المذهب أبعد . رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي في الكبرى وابن ماجه . وهو حديث صحيح .
و كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب لحاجته إلى المغمس . قال نافع : نحو ميلين من مكة . رواه الطبراني وأبو يعلى .
قال الهيثمي : رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط ، ورجاله ثقات من أهل الصحيح .
ثانياً : أن لا يرفع ثوبه إذا كان في فضاء من الأرض إلا إذا اقترب من الأرض .
قال ابن عمر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة تنحّى ، ولا يرفع ثيابه حتى يدنو من الأرض . رواه أبو داود والترمذي والبيهقي ، وصححه الألباني .
ثالثاً : الاستنجاء بالماء تارة ، والاستجمار بالأحجار تارة أخرى ، إلا أنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين الحجارة والماء .
والحديث الوارد في أهل قباء أنهم كانوا يغسلون أدبارهم ، كما في المسند من حديث عويم بن ساعدة الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال : أن الله تبارك وتعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟ قالوا : والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود ، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا . ورواه أبو داود من حديث أبي هريرة مختصراً .
لا أنهم كانوا يُتبعون الحجارة الماء ، فإن هذا من التكلّف والغلو .
والحديث الوارد في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم ، فقالوا : إنا نتبع الحجارة الماء . فقد قال فيه الهيثمي : رواه البزار وفيه محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهري ضعفه البخاري والنسائي وغيرهما ، وهو الذي أشار بجلد مالك .
وإن استجمر بالأحجار فإنه لا يقتصر على أقل من ثلاثة أحجار ، كما سيأتي لاحقاً في الأحاديث .
= يرى بعض السلف أن الاستنجاء يكون بالماء وبالحجارة ، وهذا مذهب الإمام البخاري فقد عقد باباً ، فقال : باب الاستنجاء بالحجارة . وتبعه الترمذي . وهم – رحمهم الله – قد نظروا إلى المعنى اللغوي ، فإن المقصود منه قطع النجو ، وهو الغائط ، وسواء كان بالحجارة أو بالماء ، فهو استنجاء .
= فيه دليل على مشروعية الاستنجاء بالماء خلافاً لمن كرهه .
فقد كرهه بعض السلف .
وقد بوّب الإمام البخاري : باب الاستنجاء بالماء .
قال ابن حجر : أراد بهذه الترجمة الرد على من كرهه ، وعلى من نفى وقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه سُئل عن الاستنجاء بالماء ، فقال : إذا لا يزال في يدي نتن ، وعن نافع أن ابن عمر كان لا يستنجي بالماء ، وعن ابن الزبير قال : ما كنا نفعله ، ونقل ابن التين عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء ، وعن ابن حبيب من المالكية أنه منع الاستنجاء بالماء لأنه مطعوم . انتهى .
وقد روى الإمام مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يُسأل عن الوضوء من الغائط بالماء ؟ فقال سعيد : إنما ذلك وضوء النساء .
ولعله لم تبلغه الأحاديث الواردة في استنجاء النبي صلى الله عليه وسلم بالماء .
= وقد وردت أحاديث أُخر تثبت استنجاء النبي صلى الله عليه وسلم بالماء ، وفعله أصحابه من بعده ، إلا من لم يبلغه الحديث .
إلا أن هذا لم يكن متكلّفاً ، بل بحسب ما يتيسر ، فلا يتكلف المسلم حمل الماء أو البحث عنه خاصة مع المشقة ، بل يستعمل الأحجار أو المناديل ، ولا يحتاج بعد ذلك إلى غسل دبره إذا وجد الماء ، بل يكتفي بالاستجمار .
وقصد حمل الماء معه يدل على فضل الاستنجاء بالماء ، كما تقدم عن أهل قباء .
= قول أنس : فأحمل أنا وغلام نحوي ... ليس معناه أنه كان يصب الماء لرسول الله صلى الله عليه وسلم حال استنجاءه بل يترك له الماء ثم يستنجي به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وتدل عليه الرواية الأخرى لمسلم . قال أنس : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطاً وتبعه غلام معه ميضأة ، هو أصغرنا ، فوضعها عند سدرة فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته ، فخرج علينا وقد استنجى بالماء .
رد: شرح احاديث عمدة الاحكام
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث السابع عشر
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
الحديث السابع عشر :
عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يُمسِكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه ، ولا يتنفس في الإناء .
فيه مسائل :
= هذه رواية الإمام مسلم .
ورواه الإمام البخاري بألفاظ فيها تقديم وتأخير .
فقد رواه بلفظ : إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء ، وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه ، ولا يتمسح بيمينه .
كما رواه بلفظ : إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه ، ولا يستنج بيمينه ، ولا يتنفس في الإناء .
وبلفظ : إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء ، وإذا بال أحدكم فلا يمسح ذكره بيمينه ، وإذا تمسح أحدكم فلا يتمسّح بيمينه .
وهي ألفاظ متقاربة .
= هذه الأمور من آداب الإسلام العِظام التي سبق بها الحضارات المادية ، بل تخلّفت الحضارات المادية المعاصرة عن هذه الآداب التي تتضمن الفوائد الطبية والنفسية وغيرها .
= في هذا الحديث النهي عن ثلاثة أمور :
1 - الاستنجاء باليمين
2 - إمساك الذّكر باليمين حال البول .
3 - التنفس في الإناء عند الشرب .
= النهي للتنزيه ، وهو قول الجمهور . حكاه ابن حجر .
وقال في الفتح : ومحل هذا الاختلاف حيث كانت اليد تباشر ذلك بآلة غيرها ، كالماء وغيره ، أما بغير آلة فحرام غير مجزئ بلا خلاف ، واليسرى في ذلك كاليمنى ، والله أعلم .
= كيف يفعل إذا استجمر ؟
إذا أمسك ذكره بيمينه وقع في النهي .
وإذا أمسك الحجر بيمينه باشر الاستجمار أو النجاسة بيمينه .
قال ابن حجر بعد أن حكى الأقوال في كيفية الاستنجاء بعد البول :
والمس ( يعني مسّ الذَّكر ) وأن كان مختصا بالذَّكر لكن يلحق به الدُّبر قياسا ، والتنصيص على الذَّكر لا مفهوم له بل فرج المرأة كذلك ، وإنما خص الذَّكر بالذِّكر لكون الرجال في الغالب هم المخاطبون ، والنساء شقائق الرجال في الأحكام إلا ما خُـصّ ... والصواب أنه يُمِرّ العضو بيساره على شيء يُمسكه بيمينه وهي قارة غير متحركه فلا يُعد مستجمرا باليمين ولا ماسّاً بها ، ومن ادعى أنه في هذه الحالة يكون مستجمراً بيمينه فقد غلط ، وإنما هو كمن صب بيمينه الماء على يساره حال الاستنجاء . انتهى .
= المرأة شقيقة الرجل فهي تُخاطب بذلك كما يُخاطب الرجل .
= هل يلحق بالنهي مسّ العضو باليمين عند الجماع ؟
الصحيح أنه لا يلحق ؛ لأن النهي مُختصّ بالبول دون غيره .
وذَكَرَ ابن حجر أن ابن أبي جمرة استدل على الإباحة بقوله صلى الله عليه وسلم لطلق بن على حين سأله عن مس ذكره : إنما هو بضعة منك . فدلّ على الجواز في كل حال ، فخرجت حالة البول بهذا الحديث الصحيح ( حديث الباب ) ، وبقي ما عداها على الإباحة . انتهى .
= هذا النهي يدلّ على احترام اليمين ، إذ هي محلّ التكريم والتقديم والتسليم والأخذ والإعطاء ، كما تقدّم في شرح الحديث العاشر .
= كراهة التنفّس في الإناء أثناء الشرب ، وهذا فيه ناحية نفسيّـة وطبيّـة .
ناحية نفسية ، وذلك أن من سوف يشرب بعده قد يكره الشرب من الإناء ، وقد تتغيّر رائحة الماء إذا كان المتنفّس مريضا .
ناحية طبية ، وذلك أن الأمراض تنتقل عن طريق التّنفّس .
وناحية طبيّـة للشارب نفسه ، إذ أنه إذا أبعد الإناء عن فمه تنفّس بهدوء ثم يشرب مرة أخرى .
ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنفس في الشراب ثلاثا ويقول : إنه أروى وأبرأ وأمرأ . قال أنس : فأنا أتنفس في الشراب ثلاثا . رواه مسلم .
وقد سأل مروان بن الحكم أبا سعيد الخدري فقال : أسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النفخ في الشراب ؟ فقال له أبو سعيد . نعم . فقال له رجل : يا رسول الله إني لا أروى من نفس واحد . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأبِن القدح عن فيك ، ثم تنفس . قال : فإني أرى القذاة فيه . قال : فأهرقها . رواه الإمام أحمد والإمام مالك وابن حبان والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم وصححه الألباني .
ومعنى ( فأبِن ) أي : فأبعد .
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من ثلمة القدح ، وأن ينفخ في الشراب . رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما ، وهو حديث حسن ، كما قال الألباني .
ويلحق بهذا النهي النفخ في الإناء خاصة إذا كان هناك من يشرب بعده .
قال الحليمي : وهذا لأن البخار الذي يرتفع من المعدة أو ينزل من الرأس وكذلك رائحة الجوف قد يكونان كريهين ، فإما إن يعلقا بالماء فيضرّا ، وإما أن يفسدا السؤر على غير الشارب ؛ لأنه قد يتقذر إذا علم به ، فلا يشرب . نقله عنه الإمام البيهقي ثم قال :
وذكر كليب الجرمي أنه شهد عليا رضي الله عنه نهى القصّابين عن النفخ في اللحم ، وهو نظير النفخ في الطعام والشراب الذي جاء النهي عنه ؛ لأن النكهة ربما كانت كريهة فكرّهت اللحم وغيّرت ريحه ، وقد عرف ذلك بالتجارب .
والله أعلم .
رد: شرح احاديث عمدة الاحكام
رد: شرح احاديث عمدة الاحكام
رد: شرح احاديث عمدة الاحكام
شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الثامن عشر
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
الحديث الثامن عشر :
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين ، فقال : إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير ؛ أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين ، فغرز في كل قبر واحدة . فقالوا : يا رسول الله لم فعلت هذا ؟ قال : لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا .فيه مسائل :
روايات الحديث :
في رواية للبخاري قال : وما يعذبان في كبير ، ثم قال : بلى .
وفي رواية له : وما يعذبان في كبير ، إنه لكبير .
وفي رواية له : أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة .
وفي رواية له أيضا : أما هذا فكان لا يستتر من بوله ، وأما هذا فكان يمشي بالنميمة .
وفي رواية للنسائي : كان أحدهما لا يستبرئ من بوله .
وفي رواية لأحمد وابن ماجه : أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله .
وفي رواية : لا يتوقّى
مكان القبرين :
في المدينة ، فقد جاء في رواية للبخاري قال ابن عباس رضي الله عنهما : مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة أو مكة .
وفي رواية له : بعض حيطان المدينة .
ففي هذه الرواية الجزم بأن القبرين في بعض حيطان المدينة .
= قوله صلى الله عليه وسلم : وما يعذبان في كبير ، ثم قال : بلى .
وفي الرواية الأخرى قال : وما يعذبان في كبير ، إنه لكبير .
المراد به والله أعلم أنه ليس بكبير في نظر الناس ، ولكنه عند الله كبير .
أو أنه ليس بأمر كبير يشق التّحرز منه ، ولكنه كبير عظيم عند الله .
إثبات عذاب القبر
وهو ثابت في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
فمن الكتاب قوله تعالى عن آل فرعون : ( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )
قال قتادة : صباحَ ومساءَ الدنيا ، يُقال لهم : يا آل فرعون هذه منازلكم توبيخا ونقمة وصغاراً لهم .
وقال ابن زيد : هم فيها اليوم يُغدى بهم ويُراح إلى أن تقوم الساعة .
قال ابن كثير : وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور .
وقال جلّ ذِكرُه : ( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )
قال مجاهد في تفسير هذه الآية : هو عذاب القبر .
وورد خلاف ذلك عن جماعة من السلف .
ولا إشكال في ذلك فهو محتَمَـل ، كما أنه لا إشكال في ختم الآية بقوله : ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) لما يعلمون من عذاب القبر ، وتُدركه سائر المخلوقات .
على ما سيأتي بيانه .
وقال عز وجل : ( فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )
قال ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية : وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا ، وأن يراد به عذابهم في البرزخ ، وهو أظهر لأن كثيراً منهم مات ولم يعذب في الدنيا ، أو المراد أعم من ذلك .
وفي قوله تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ) الآية .
قال أبو سعيد الخدري : يُضيّق عليه في قبره حتى تختلف أضلاعه فيه .
وقال الإمام البخاري : باب ما جاء في عذاب القبر ، وقوله تعالى : ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ) الآية .
قال : هو الهوان ، وقوله جل ذكره : ( سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ثم ساق بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عذاب القبر حقّ .
وقال الحسن البصري رحمه الله في تفسير هذه الآية – أعني قولَه تعالى : سنعذبهم مرتين – قال :عذاب الدنيا وعذاب القبر .
وفي قوله سبحانه : ( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) قال مجاهد : ما بين الموت إلى البعث .
قال ابن القيم في قوله تعالى : ( إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) :
هذا في دورهم الثلاث ليس مختصا بالدار الآخرة وإن كان تمامه وكماله وظهوره إنما هو في الدار الآخرة وفي البرزخ دون ذلك كما قال تعالى : ( وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ) .
فالأبرار في نعيم في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة ، والفجار والكفار في جحيم في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة .
فهذه الآيات وغيرها مما استدلّ به أهل السنة على ثبوت عذاب القبر ، وإنما استطردت في هذا الباب لدفع التوهّم حيث يظن البعض أن عذاب القبر لم يُنصّ عليه في الكتاب العزيز .
وأما الأحاديث فقد قال ابن كثير : وأحاديث عذاب القبر كثيرة جدا . اهـ
قال صلى الله عليه وسلم : ألا إن أحدكم إذا مات عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي ؛ إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، حتى يبعثه الله عز وجل يوم القيامة . رواه البخاري ومسلم .
وحدّثت عائشة رضي الله عنها فقالت : دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعندي امرأة من اليهود ، وهي تقول : هل شعرت أنكم تُفتنون في القبور ؟ قالت : فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : إنما تفتن يهود . قالت عائشة : فلبثنا ليالي ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل شعرت أنه أوحي إلي ؛ أنكم تفتنون في القبور . قالت عائشة : فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر . متفق عليه .
وفي رواية : قالت وما صلى صلاة بعد ذلك إلا سمعته يتعوذ من عذاب القبر .
= وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوّذ بالله من عذاب القبر دبر كل صلاة ، وأمر أمته بذلك .
كان سعد بن أبي وقاص يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة ويقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ منهن دبر الصلاة : اللهم إني أعوذ بك من الجبن ، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر ، وأعوذ بك من فتنة الدنيا ، وأعوذ بك من عذاب القبر . رواه البخاري .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع ، يقول : اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال . متفق عليه .
بل كان يتعوّذ بالله من عذاب القبر صباحا ومساء
قال عبد الرحمن بن أبي بكرة لأبيه : يا أبت إني أسمعك تدعو كل غداة : اللهم عافني في بدني . اللهم عافني في سمعي اللهم عافني في بصرى لا إله إلا أنت . تعيدها ثلاثا حين تصبح وثلاثا حين تمسى ، وتقول : اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت . تعيدها حين تصبح ثلاثا ، وثلاثا حين تمسى . قال : نعم يا بنى إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهن ، فأحب أن أستنّ بسنته . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
= وعذاب القبر حق ، ولكن الله أخفاه عن الناس لِحكمة
وحِكمة إخفاء أصوات المعذبين في قبورهم عن الناس قوله صلى الله عليه وسلم : فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه . رواه مسلم .
فما ترك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سؤالَ اللهِ أن يُسمع هذه الأمة من عذاب القبر إلا خشية ألا يتدافنوا . ولما كانت الحكمة مُنتفية في حق البهائم أُسمعت عذاب القبر .
بينما عذاب القبر تسمعه البهائم
قال صلى الله عليه وسلم : إن العبد إذا وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم . قال : يأتيه ملكان فيُقعدانه ، فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ قال : فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، قال : فيقال له انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة ، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : فيراهما جميعا . رواه البخاري ومسلم .
زاد البخاري قال: وأما المنافق والكافر فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس ! فيُقال : لا دريت ولا تليت ، ثم يُضرب بمطرقة من حديد بين أُذنيه ، فيصيحُ صيحةً يسمعها من يليه إلا الثقلين .
يعني تسمعه الدواب ويسمعه من كان قريبا من المكان إلا الإنس والجن .
وقال صلى الله عليه وسلم : إنهم يُعذّبون عذاباً تسمعه البهائم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولهذا السبب يذهب الناس بدوابهم اذا مُغِلَتْ الى قبور اليهود والنصارى والمنافقين كالاسماعيلية والنصيرية وسائر القرامطة من بنى عبيد وغيرهم الذين بأرض مصر والشام وغيرهما ، فإن أهل الخيل يقصدون قبورهم لذلك كما يقصدون قبور اليهود والنصارى ، والجهال تظن أنهم من ذرية فاطمة وأنهم من أولياء الله ، وإنما هو من هذا القبيل ، فقد قيل : إن الخيل إذا سمعت عذاب القبر حصلت لها من الحرارة ما يذهب بالمغـل . انتهى كلامه – رحمه الله – .
أي يُذهب الإمساك من بطونها . والمغل : هو الإمساك .
وعن زيد بن ثابت قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم لبني النجار على بغلة له ونحن معه إذ حَادَتْ به فكادت تلقيه وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة ، فقال من يعرف أصحاب هذه الأقبر ؟ فقال : رجل أنا . قال : فمتى مات هؤلاء ؟ قال : ماتوا في الإشراك فقال : إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه ، ثم أقبل علينا بوجهه فقال : تعوذوا بالله من عذاب النار ، قالوا : نعوذ بالله من عذاب النار ، فقال : تعوذوا بالله من عذاب القبر . قالوا : نعوذ بالله من عذاب القبر . رواه مسلم .
= من أنكر عذاب القبر فقد كفر ، فقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك .
قال ابن القيم : أحاديث عذاب القبر ومساءلة منكر ونكير كثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن أبي العز : وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلا وسؤال الملكين ، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به ، ولا نتكلم في كيفيته إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته لكونه لا عهـد له به في هـذه الدار ، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول . اهـ .
ومن مسائل الحديث :
= أن عذاب القبر غير منحصر في هذين السببين .
= التساهل في الطهارة ، وعدم التّحرز من النجاسة سبب في عدم صحة الوضوء ، وبالتالي عدم صحة الصلاة ، وقد تقدّم معنا في الحديث الثالث قوله عليه الصلاة والسلام : ويل للأعقاب من النار .
= قوله : لا يستتر ، وفي رواية : لا يستبرئ ، وفي رواية : لا يستنزه .
هذا كله محمول على عدم التّنزّه والتطهر من البول ، لا أنه على عدم استتاره عن أعين الناس ، إذ لو كان ذلك هو السبب لما قُيّد بحال البول فقط .
= فيه دليل على نجاسة البول ، والمقصود بـ " البول " بول الإنسان نفسه .
= فيه دليل على أن هذه الأشياء من كبائر الذنوب .
= خطورة النميمة ، وأنها من كبائر الذنوب .
والنميمة هي نقل الكلام بين الناس على سبيل الإفساد .
وقد قيل : يُفسد النمام في ساعة ما لا يُفسده الساحر في سنة . وهذا على سبيل المبالغة .
والنمام قد رضيَ لنفسه مهنة الشيطان .
قال صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم . رواه مسلم .
= والنمام لا يدخل الجنة
قال همام بن الحارث : كان رجل ينقل الحديث إلى الأمير فكنا جلوسا في المسجد فقال القوم : هذا ممن ينقل الحديث إلى الأمير ، فجاء حتى جلس إلينا ، فقال حذيفة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يدخل الجنة قتات . متفق عليه .
وفي رواية قال : لا يدخل الجنة نمّام .
واستثنى العلماء من ذلك ما كان لمصلحة ، كأن يُنقل الكلام عن أهل الفساد والريب ونحو ذلك .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا معشر من أعطى الإسلام بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لاتؤذوا المؤمنين ، ولا تتبعوا عوراتـهم ، فإنه من تتبع عورات المؤمنين تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته .
وفي رواية : يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تبعـوا عوراتـهم [ – وفي رواية – : لا تؤذوا المسلمين ولا تُعيّروهم ولا تتّبعوا عوراتـهم - ] فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم يتتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي ، وهو حديث صحيح
و عن معاوية رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتـهم أو كدت أن تفسدهم . فقال أبو الدرداء : كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بـها . رواه أبو داود بإسناد صحيح .
ويدخل في النميمة الكتابة والقول والإشارة والرمز ، نص عليه ابن الملقّن .
وكان السلف يُشدّدون في ذلك ، فلا يرضون عن أحد أن ينقل لهم كلام غيرهم ، لأن من نمّ لك نمّ عليك .
= شق الجريدة وغرزها على القبر من خصوصيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن هذا الأمر من الأمور الغيبية التي لا يُمكن أن يُطّلع عليها أو يعلمها أحد الناس .
وقد قيل إن سبب غرز الجريدة الرطبة أنها تُسبّح .
ورُدّ بأن التسبيح ليس مُختصاً بالرطب ، فما من شيء إلا يُسبح بحمده سبحانه .
والصحيح : أن التخفيف عنهما خلال فترة بقاء الجريدة رطبة .
قال الخطابي : هو محمول على أنه دعا لهما بالتخفيف مدة بقاء النداوة ، لا أن في الجريدة معنى يخصه ، ولا أن في الرطب معنى ليس في اليابس . انتهى .
= فيه إثبات شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لمن مات من أمته .
= لم يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على القبرين ليُخفف عنهما ، وإنما غرز جريدة رطبة .
مما يدلّ على أن قراءة القرآن على القبور ليس لها أصل .
رد: شرح احاديث عمدة الاحكام