النقد بين التخصص والإدعاء .. لـ البحر محمد صلاح الحربي
النقد بين التخصص والإدعاء
لا يفاجئونني اولئك الذين يقتحمون مجال الأشياء التي ليس لهم فيها ناقة ولا جمل
فقد تعودنا ذلك كثيراً وطويلاً وفي كل المجالات .
وفي مجال الأدب ـ وهو ما يهمني ـ من شعر ونثر ، نجد دائماً ان هناك الكثير من
المتطفلين الذين يقتحمون ساحاته بإسم الشعر حيناً وبإسم القصة او النقد وحتى الرواية .
هناك دائماً من يقفزون اليه بلا اي مؤهلات ، فلا موهبة حقيقية ولا وعي ورؤية سليمة
او نضج فكري ولا خبرة ثقافة استقرائية جيدة متكون من خلالها شئ من المخزون
المعرفي الإدراكي واللغوي .
"
"
"
وما انا بصدده هنا بشكل اكثر تحديداً هو النقد وما يتعرض له من سوء فهم وابتذالات .
وفي ظل استمرار تلك الإقتحامات المتهاوية من قبل الأدعياء ومعدومي الموهبة
فإنه من الطبيعي ان نجد دائماً تلفيقات واساءات وتنظيرات نمطية كلها تتم عبر اساليب
فجة ولغة مقفرة واستخدامات بائسة تقذف نحونا بإسم النقد قادمة من عقليات
متيبسة فهماً وتعاملاً يتصور اصحابها بإنه سيكون لهم شأن وتأثير في كل مرة يزاحمون
فيها اصحاب المواهب الحقيقية ويعترضون للمبدعين بإطروحاتهم الصدئة عبر ابتذال
صارخ للنقد بتحليلات ساذجة غير قادرين على الإدراك ان المبدع هو دائماً اساس
الإبتكار والتجديد والتجاوز ولا يمكنه الخضوع لفهمهم او منطقهم او لحقائقهم .
"
"
"
انه من المفهوم لكل فكر حي ان الإبداع يظل سباقاً للنقد ، ولهذا فإن النقاد ماهم
الا تباعين للمنجز الإبداعي ، وفي الشعر بوجه خاص تظل هناك المفاجآت والإكتشافات
ويظل هناك التجريب وسبر اغوار مناطق تعبير غير مأهولة من قبل الشعراء المبدعين
وهو امر يتطلب ان يكون الناقد مدركاً تماماً لخطورة اقتحاماته اذ لم يكن متسلحاً
بأدوات نقدية كاملة ومؤهِلة للتحليق عبر فضاء المنجز الشعري بدون عوائق او شلل .
" والنقاد الكبار كثيراً ما يقفون محتارين امام شعر يتطور وقد يحتاجون لأن يتشكل
بشكل نهائي ، وليس هناك شكل نهائي " حسب تعبير محمود درويش ، والذي يعتبر
ان " الإنجاز الشعري هو الذي يؤسس دائماً للنظرية النقدية وليس النظرية هي التي
تؤسس الشعر ، فالشعر اسبق دائماً وسريع التطور اكثر من النقد الذي يحتاج الى
نظريات والى استفادة من علوم انسانية اخرى لكي يطور ادواته بينما الشعر يظل
متجاوزاً لكل النظريات ولا يستسلم لضوابط وحدود النظرية النقدية "
"
"
"
انني مؤمن تماماً ان من حق كل انسان ان يبدئ رأيه بإن منجز ادبي شعراً
كان او نثراً ، سواء كان ذلك الرأي ايجابياً او سلبياً ، مدحاً او ذماً ..
من حق كل انسان ان يكون له ما يعجبه وما لا يعجبه ، وفي المقابل فإن
على صاحب النتاج ان يتقبل ذلك الرأي خصوصاً ان كان سلباً وعدم اعجاب .
فهو يظل رأياً فردياً لا يمثل الكل ولن يحط من شأن المُنتَج او العمل ان كان جيداً .
غير انه من المهم الإدراك ان اي رأي في اي عمل ادبي لا يمكنه ان يكون نقداً
اذ لم يكن صاحبه ناقداً متخصصاً مشتغلاً بالأدب ومدركاً لعوالمه المختلفة سواء
ما يخص الشعر او ما يخص النثر ..
إن النقد في مجال الأدب بشكل خاص هو عمل اختصاصي ، يختلف عن النقد
في اي مجال آخر يمكن ان يكون مشرعاً في امر نقده لكل الناس .
"
"
"
ومع كل هذه الحساسية للنقد الأدبي حيال الأعمال الشعرية والقصصية المتجاوزة
فإننا نظل نُبتلى ، وخصوصاً في مجال المنتديات النتية ، بأناس يأتون بإطروحات
انشائية بليدة ماهي الا " تخبيص " بأساليب وعبارات اهترأت استهلاكاً ثم يتبجحون
بإن ما يمارسونه نقداً في حين ان النقد في اشد حالاته تهالكاً برئ منهم !
وليس اكثر لؤماً في رأيي من ان يأتي شخص لايمتلك شيئاً من الوعي الوجداني
والفكري معاً ليحاول الإساءة لشخص آخر من خلال التعرض لعطاءاته ببذاءات تتجاوز
النص الى الشخص ثم بعد ذلك يقول بكل بجاحة " معليش هذا نقد ويجب ان تتقبله " !
ومن المؤكد ان الإنسان إن لم يستح ويع فإنه يظل يفعل مايشاء حتى لو كان ذلك
على حساب كل الجماليات من قيم وعطاءات انسانية ، لكن الأشد والأدهى ان يصاحب
ذلك ادعاءات وسفسطة بإنه العالم ببواطن الأمور وظواهرها حتى وإن كان ذا خواء
فاضح و واضح لكل عين .
"
"
"
قبل مدة اتصل بي احد الأصدقاء الشعراء متضايقاً واخبرني ان هناك من تعرض
لأحدى عطاءاته الشعرية بسخف مدعياً بإنه نقداً ، وسألني كيفية التعامل معه ..
فقلت له : لعلك تريد مدحاً وإشادات فقط ولم تحصل عليها ..
وعندها طلب مني ان اطلع بنفسي على الأمر ، وحينما فعلت وجدت ان الأمر
كما قال تماماً ، فليس هناك الا كلام باهت تتخلله تشكيلة من الشتائم .
قلت لذلك الصديق ان افضل تعامل منه حيال ذلك هو التجاهل التام وكأن
شيئاً لم يكتب من قبل ذلك الشخص اذ ان اي تدخل تجاهه هو إعطاءه اعتباراً
وقيمة في حين انه بلا اي قيمة ..
إنه من الطبيعي ، بل والواجب ، الاَّ نهمل اي تفاعل مع عطاءاتنا حتى
لو كان ذلك التفاعل اختلافاً او اعتراضاً ، بحيث نناقش ونحاور ونرد الخ
بكامل الإحترام المتبادل وبدون أن نحط من الآخر بالتركيز على شخصه
إنما يفترض ان يكون ذلك حيال شئ يتوافر فيه شئ من الإتقان والقيمة والصدق
والأفكار التي تحتمل شئ من العافية حتى وان جاء بلغة بسيطة او اساليب متواضعة
لكن حينما نجد اننا امام ماهو نابي ومؤذي يسفِّه ويطعن ويشتم ويشكك ويفترئ
بدون اي شافع من شئ من معرفة و فهم فإن الإهمال هو قدره .
.
بقلم / البحـر
الشاعر والكاتب : محمد صلاح الحربي
