نتابع سيرة الأمام أحمد بن حنبل
خرج أحمد البطل إلى اليمن مستكملا رحلته المباركة الميمونة , للعلامة عبد الرزاق بن الهمام اليمني , صاحب الموسوعة الحديثية المسماة بالمصنف ..
و هناك حاول الإمام الكريم عبد الرزاق أن يساعد طالب العلم , ابن السبيل أحمد بن حنبل بمال من معه , فأبى إمام أهل السنة , و أصر أن يتكسب عيشه من عمل يده لينفق على نفسه فى رحلته , فنعم النفس العيوفة العفيفة , و هى رسالة لكل عالم و طالب علم ( و مفكر ) ...
و سافر أحمد متقصيا أثر علامة زمانه عبد الله ابن المبارك , ليتعلم منه العلم و الخلق و السلوك ... فقد كان ابن المبارك آية عالما عطر السيرة ...
و أشفق ابن المبارك على الداعية الرحال المناضل , و أراد أن يساعده أيضا بمال , كما حاول قبله العلامة عبد الرزاق , و لكن الإمام أحمد اعتذر عن قبول المساعدة ...
و قال :
أنا ألزمك لفقهك وعلمك لا لمالك.
حج الإمام أحمد خمس مرات إلى بيت الله تعالى ، منها ثلاث مرات ماشيا !
لقلة ذات اليد .....
فسبحان الله على النشاط و الجلد و الجدية فى العبادة , كما هى فى طلب العلم ....
فليسمع من كبرت بطونهم و ترهلت أجسادهم من كثرة النوم و الأكل و الكسل ,
و ممن وهنت عظامهم قبل أن يخوضوا غمار
رحلة ربانية واحدة , ممن يأكلون الطرى و يشربون شرب الهيم ... عودوا أنفسكم الخشونة و الرجولة .. و أمامكم الطريق
كما قال شوقى :
هل علمتم أمة فى جهلها *** ظهرت فى المجد حسناء الرداء ؟
باطن الأمة من ظاهرها *** إنما السائل من لون الإناء
فخذوا العلم على أعلامه *** واطلبوا الحكمة عند الحكماء
واقرؤوا تاريخكم ، واحتفظوا *** بفصيح جاءكم من فصحاء
أنزل الله على ألسنتهم*** وحيه فى أعصر الوحى الوضاء
واحكموا الدنيا بسلطان فما *** خلقت نضرتها للضعفاء
عرف المعاصرون أحمد ابن حنبل بأنه محدث متمكن يروى الحديث و يحققه
و بابن حنبل صحيح السند *** و كل شهم فى الورى مجتهد
بما لنا قد أوضحوا من مسلك *** يرقى بساليكه أوج الفلك
لكن أحمد كان أيضا فقيها نابها ....
وما ميز فقهه أنه لم يكن يعمل بالقياس إلا نادرا , لأنه تيسر له من الأحاديث ما لم يجتمع لغيره , فلم يكن هناك ما يدعوه ليقيس و يبحث , و ليفتش عن تشابه حكم ليقيس عليه ،حيث انتقى كتابه ( المسند) من بين سبعمائة وخمسين ألف حديث عرفها ، بل كان يجمع ما أثر من قول الصحابة أو من قول تلاميذ الصحابة , و هم التابعين , فهم من تعلم من الصحابة تلاميذ النبى صلى الله عليه وسلم , فقولهم أولى و فهمهم أقرب ...
من روضة العلم الصحيح *** وربوة الأدب السليم
العاشقين العلم لا ***يألونه طلب الغريم
المعرضين عن الصغائر *** و السعاية والنميم
و لو لم يجد فى المسألة قولا للتابعين اجتهد و قاس ,
و قد ترك مذهبا ثريا و كتب عنه طلابه آلاف المسائل الفقهية قيل بلغت ستين ألفا مدونة .
و كان الإمام أحمد يتحرج من الفتوى فى أول الأمر حتى اجتمعت لديه ثروة كبيرة من نصوص السنة، وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم. و لم يتصدر للحديث والفتوى إلا بعد أن بلغ سن الأربعين، وذلك عام (204 هـ) !
و من شيوخه أيضا و أئمة عصره الذين أخذ عنهم العلم النافع ممن حفظ عن التابعين و الصحابة كل نصيحة العلم العلامة سليمان بن حرب بالبصرة سنة 194 هـ، و الإمام أبي النعمان عارم في تلك السنة،
و من الإمام أبي عمر الحوضي أيضاً ، و الإمام علي بن هاشم بن البريد
و العلم الفاضل الثقة سفيان بن عيينة وإسماعيل ابن علية.
و الإمام عبد المؤمن العبسي سمع منه سنة 182 هـ.
والإمام عبد الرحمن بن مهدي ، والعالم البطل أبو بكر بن عياش .
وممن حدث عنهن أحمد بن حنبل
من النساء !!
الفاضلة أم عمر بنت حسان بن زيد الثقفي. فلم يكن ديننا متعصبا متحيزا و لم يمنع امرأة أن تصير محدثة !
و دونك كتاب الزيانب لإبن حجر حيث جمع فيه جمعا طريفا فيه كل من اسمها زينب من الفاضلات المعلمات .... فالمرأة الفاضلة يزيدها الحق فضلا ... و لا يكبت طموحها ...
هاهم أصحابه يقولون له , و هم يرونه دوما يطلب المزيد من العلم و دوما يحمل محبرته و أوراقه و لا يكل , كالنحلة تجنى الرحيق بلا ملل ..!
يقولون كما فى السير :
يا أبا عبد الله ، أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين، حتى متى مع المحبرة ؟
فقال: مع المحبرة إلى المقبرة.
* و في مكة سُرِق متاعه وهو خارج البيت يطلب الحديث، و لما عاد قيل له ذلك، فلم يسأل عن شيء من المتاع ، وإنما بادر بالسؤال عن الألواح التي كتب فيها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يطمئن إلا بعد أن وجدها.
فلم يسخط مع الإختبار الربانى , و لم يتبرم ...
و لم يشفق على الضائع من الفانية ... فأثبت أن الثمرة أينعت .. و أن الحديث ليس باللسان فقط .
ها هو عبد الله بن الإمام أحمد يقول :
خرج أبي إلى طرسوس ماشياً، وخرج إلى اليمن ماشياً.!
وصف المعاصرون مجلسه فكأنما البركة تحيط و العناية تظلل , كان كثير التواضع له هيبة ووقار , و سكينة لا تفارق المكان أثناء الدرس ....