واشرفت الرحلة على نهايتها..بل هي نهايتها..وترائت في الأفق أنوار المرفأ الأخير..الذي هو ختام الرحلة..نعم..قرابة الثلاثين يوماً..وهم يجوبون البحر..كم قابلتهم عاصفة..كم انكسرت مجاديفهم..كم تمزقت اشرعتهم..كم مالت بهم سفينتهم..كم أوشكت على الغرق..كم يئسوا من رحلتهم..كم وكم وكم ..أحداث..وذكريات..تكاد من كثرتها أن تمزق شريط الرحلة الذي عج بمثلها..
وقف القبطان على سارية في مقدمة سفينته..وهو يمسك بمنظاره الذي اعتاد أن يرى به ماوراء الأفق..القى نظرة كاثبة من منظاره..هاهو المرفأ الأخير..كم اشتقت اليك..يقوله القبطان في نفسه وكأنه يحدثه..أرجع منظاره الى داخل جيبه..ووثب من على السارية التي كان يقف عليها..قابله أحد الطاقم..فقال له: سيدي القبطان..نظر اليه القبطان وقال: ماذا هناك يا أخي.؟..قال الرجل: سيدي..لا أعرف ماذا اقول..ولكن!!..سكت الرجل..وكأن الكلمات توقفت ..أحس بغصة في حلقه..حاول ان يكتم عبراته..وهو يدافعها..ولكنها تمكنت منه..وأخذت دموع الرجل بالنزول كقطرات الماء على خده..ذهل القبطان مما رأى..أمسك بكتفي الرجل وقال له: مابالك يا اخي؟..لماذا تبكي؟..هل اصابك مكروه..؟؟قل لي بالله عليك..أخذ الرجل ينشج..وهو يرد دمعة وينزل عشراً..فقال له: لا لا شيء..رد عليه القبطان: لاتكذب..دموعك لم تنزل عبثاً..قل لي مابك؟..قال الرجل: سيدي..منذ أن بدأت رحلتنا..ومن أول يوم..أخذت على نفسي عهداً بأن أكون من أنشط القوم واجلدهم صبراً ومثابرةً على العمل..وعلى بذل الخير والسعي فيه..وأشار بيده الى من كانو معه: هؤلاء اخوتي..ثلاثون يوماً ونحن ننام سوياً ..ونستيقظ سوياً..عملنا معاً..أكلنا معاً..إذا تقاعست شدوا همتي..وشحذوها..وإذا نسيت ايقظوني من غفلتي..وبتروها..كم جمعتنا أمواج البحر ..شربنا هوائه..تدثرنا بسحابه..ونمنا على انفاس هديره..وهانحن الآن..على مشارف نهاية رحلتنا..وتقول لي لماذا ابكي؟..نظر القبطان اليه..وكأنه غاص في مقلتي الرجل..كأنه يرى الدموع داخل عينيه قبل أن تخرج..كم هو محظوظ هذا الرجل..يقوله القبطان..ليتني مثله..اجابه القبطان: أخي..والله لن أكذب عليك حينما أقول لك كلنا ذلك الرجل..لاتظن باني سعيد بنهاية رحلتنا..نعم..لاتظن ذلك..ووالله إني لفي حزن شديد..وحتى لو رأيت البسمة على ثغري..ليست إلا بسمة مصطنعة..لا أود بأن يراني الجميع وأنا أتثلم الحزن..وأحطم وجهي بالعبوس..ولكن الحقيقة..هي أن الحزن قد تمكن مني..قال هذا الكلام بعد أن أغرورقت عيناه بالدموع...ثم أردف قائلاً: حينما أتذكر بداية رحلتنا..كنت أقول في نفسي بأن هذه الرحلة ربما سيعتريها نوع من اللامبالاة..كباقي رحلاتي السابقة..ولكني تفاجأت بأن هذه الرحلة حبلى بالمفاجآت..كنت أقول في نفسي: أين أنا من كل هذا؟..لماذا لم أستكشفه من قبل؟..ووجدت الجواب يصفعني بقوة..نعم..إنها الغفلة يا اخي..كم كنت غافلاً..كنت أنوي بان أقضي رحلتي هذه بتحريك الدفة فقط..لم أكن أنوي الزيادة على ذلك..ولكن..,لحسن حظي..إني وجدت ضالتي فيكم..نعم..انتم والله من كنت أبحث عنهم..أنت من أدار السفينة هذه وقادها..انتم من فرد أشرعتها..انتم من اعتنى بها..أنتم كل شيء في هذه السفينة..بل أنتم السفينة..السفينة التي ستبحر بعون الله بكل ثقة واطمئنان..وبكل جسارة وسؤدد ..لايقف في وجهها حاجز مرجاني..لاتهزها الرياح العاتية..لاتنكسر مجاديفها..لاتتمزق أشرعتها..وبعد كل هذا..هل تصدقني حينما قلت باننا كلنا ذلك الرجل؟..
نعم..والله كلنا ذلك الرجل..وإننا على فراقك يارمضان لمحزونون..ها أنت قد تصرمت أيامك..وانقضت دقائقك..وأصبحت في عداد الموتى..لا لن تموت..بل نحن الذين سنموت..وأنت ستحل ضيفاً على أناس غيرنا..ياترى؟؟..هل سيجعلونك مجرد شهر كباقي الشهور؟..هل يهينونك؟؟..هل يجعلونك شهراً لموائدهم؟..هل يتسابقون فيك الى شاشاتهم؟..هل يجاهرون فيك بمعاصيهم؟..هل لايقيمون لك وزناً؟..هل وهل ؟؟
وكأنك ستجاوبني..وكأني أسمع كلماتك تداعب أذني..وكأني اسمع أنينك..بكائك..وكأني أرى دموعك..ليت لي القدرة على مسحها؟..ولكن..ليس بيدي حيلة..
..رمضان..هل تسمعني..!! أجبني !!..قل لي..هل كرهتني في الله يوماً؟..هل خنت الله فيك؟..هل مزقت أيامك لهواً وفجوراً؟..هل استحقيت في يوم من أيامك بان أكون: صـــائماً؟؟..نعم..لقد توقفت عن الأكل من الفجر الى غروب الشمس..والله لم يدخل في جوفي شيء خلال نهارك..ولكن..لا ادري..هل دخل في قلبي شيء منك؟...هل دخل في عيني شيء منك؟..هل دخل في أذني شيء منك؟..
رمضان...لاتجبني عن اسألتي السابقة..عندي سؤال واحد فقط..أريد جوابه..
رمضان..هل تعتقد أني سأعيشك في العام المقبل؟؟...
انتهت..
المفضلات