7-توت عنخ آمون هو فرعون موسى:
القائل بهذا الرأي هو العالم اليهودي سيجموند فرويد الذي ادعى أيضاً أن موسى مصري وليس من بني إسرائيل وأن الديانة الموسوية مستقاة من عقيدة أخناتون ( سيجموند فرويد – موسى مصرياً – ترجمة محمد العزب موسى ). يقول: إن موسى كان أحد الأمراء المصريين المقربين من أخناتون ولكن لما حدثت الرِّدّة بعد أخناتون تم استبعاد موسى، ولما انهار أمله في حكم بلاده أراد أن يوجد لنفسه دوراً ما كزعيم، فتزعم بني إسرائيل وأعطاهم ديناً جديداً استقاه من عقيدة أخناتون التوحيدية، ثم قاد بني إسرائيل للخروج من مصر خروجاً سلمياً – ليس فيه مطاردة – إلى أرض فلسطين التي كان النفوذ المصري قد انحسر عنها أيام أخناتون لانشغاله بأفكاره الدينية، وكان الخروج في عهد توت عنخ آمون، ويقول جون ويلسون المؤيد لهذه النظرية إن موسى انتهز فرصة الضعف الذي ساد أخريات أيام أخناتون وعهد خليفتيه الضعيفين: (( سمنخ كارع )) و (( توت عنخ آمون )) ونجح في الخروج ببني إسرائيل من مصر وذلك بأن خادعوا الفرعون وهربوا إلى صحراء سيناء، ويوافق على هذه الفرضية آرثر ويجال ( تاريخ مصر القديمة، باريس،
46، A. Weigal, 1986
) ويحدد تاريخ الخروج بالعام 1346 ق.م ويرى أنه تم في آخر عهد توت عنخ آمون، كذلك يرى المؤرخ ويتش ( حضارة الشرق الأدنى، ص88، E.H. Weech
) أن موسى وقد أمضى طفولته وصباه وشبابه في قصر أخناتون، فقد عرف هذه العقيدة وآمن بها، فاستقى منها الديانة التي أعطاها لبني إسرائيل.
وهذه النظرية أيضاً تتجاهل حقائق تاريخية كثيرة مثل سابقتها:
1-
أن موسى من بني إسرائيل وليس مصرياً، وإن كان قد تربى في قصر الفرعون.
2-
تتجاهل التعذيب الذي نزل ببني إسرائيل، إذ أن طبيعة أخناتون المسالمة لا تتفق مع ذلك فضلاً عن بُعد مكان إقامتهم في شرق الدلتا عن العاصمة التي عاش فيها أخناتون، طيبة في أول أيامه ثم بعد ذلك في عاصمته الجديدة في تل العمارنة.
3-
مما لا يعقل أن يقبل شعب أن ينصِّب على نفسه زعيماً وقائداً من جنس آخر، إلا أن يكون مفروضاً عليهم بالقوة – أو ارتضوه حتى يخرج بهم من مصر وما إن يتم لهم الخروج حتى يكون من الطبيعي أن ينتقضوا عليه برئيس من بني جنسهم.
4-
إن التوحيد كان عقيدة بني إسرائيل أخذاً عن يعقوب أبيهم وإبراهيم جدهم والأخناتونية وإن كانت في نظر المصريين توحيداً إلا أنها في نظر بني إسرائيل رِدَّة عن التوحيد لتجسيدها الإله في قرص الشمس.
5-
تدعى هذه النظرية أن الخروج تم بسلام وبدون مطاردة في حين أن الثابت في الكتب المقدسة هو أن فرعون الذي طارد موسى قد مات غرقاً، وقد أثبت الفحص الطبي لجثة توت عنخ آمون أنه مات مقتولاً بضربة على الرأس.
6-
لو كان بنو إسرائيل قد خرجوا من مصر في عهد توت عنخ آمون واستقروا في فلسطين لكان حرياً بحور محب وسيتي الأول أو رمسيس الثاني القضاء عليهم في حملاتهم لاسترداد النفوذ المصري في منطقة الشرق الأدنى أو على الأقل كانوا قد أخضعوا الولايات اليهودية في فلسطين للفوذ المصري، الأمر الذي لم يتحدث به أحد، ولم يحدث أصلاً إذ أن بني إسرائيل لم يكونوا قد خرجوا بعد من مصر، ولما رأى فرويد المعارضة الشديدة لنظريته هذه تراجع عنها وقال إنه من المحتمل أن موسى قد عاش في عصر لاحق لأخناتون وتوت عنخ آمون !!
ويحق لنا أن نتساءل: كيف يتأتى لعالم مثل فرويد أن يقول بهذا الرأي، وتزول الغرابة إذا علمنا هويته اليهودية، إذ ما دام موسى مصرياً فإن لبني إسرائيل حقوقاً تاريخية في مصر ! وهذا هو الهدف السياسي الذي يرمي إليه كما فعل سلفه يوسف ابن متى عندما زعم أن الهكسوس الذين حكموا مصر هم أنفسهم بنو إسرائيل.
8-حور محب وأربعة فراعين آخرين. أي خمسة !!
يقول نيكولاس جريمال ( Nicolos Grimal, A History of Ancient of Ancient Egypt 1997. Blackwell, p 259
) إن موسى تلقى تعليمه في سنواته الأولى في قصر الفرعون حو محب ورمسيس الأول، ثم عرف أنه من بني إسرائيل وانضم إليهم في عهد ((سيتي الأول ))، ثم فر من مصر إلى مدين بعد مقتل المصري، ثم كان تلقيه الوحي والرسالة والأمر بالعودة إلى مصر في السنوات الأولى من حكم رمسيس الثاني، ثم هو يوافق على ما يقوله كثير من المؤرخين من أن فرعون الخروج هو مرنبتاح.
ولو فرضنا أن حور محب قد تبنى موسى في منتصف مدة حكمه ورباه 13 عاماً يضاف إليها سنتان مدة حكم رمسيس الأول + 20 عاماً سيتي الأول + 67 عاماً مدة حكم رمسيس الثاني + 10 سنوات حكم مرنبتاح فيكون عمر موسى عند الخروج ببني إسرائيل هو 112 عاماً فإذا أضفنا إليها سنوات سيناء ثم التيه 40 عاماً ثم المسيرة حول أرض أدوم لبلغ عمر موسى عند وفاته حوالي 170 عاماً في حين أن عمر موسى لم يزد عن 120 عاماً.
9-رمسيس الثاني هو فرعون موسى:
وأصحاب هذا الرأي كثيرون، منهم: أولبرايت - إيسفلت - روكسي - أونجر – الأب ديڤو R.P. de Vaux
ويتفق هذا الرأي مع حقيقة مكان معيشة بني إسرائيل في أرض جاسان وعاصمة رمسيس الثاني الجديدة في الشمال التي تتيح التقاط موسى من النهر، كما تحقق تسخير بني إسرائيل في بناء مدينتي بي رعمسيس وفيثوم المذكورتين في التوراة، وأكثر ما يثير الدهشة هو أن الأب ديڤو – وهو مدير مدرسة الكتاب المقدس ويؤمن بأن الفرعون قد مات غرقاً وهو يطارد الهاربين، ثم يعود فيقول إن الخروج قد حدث في النصف الأول من حكم رمسيس الثاني، مع أن غرق الفرعون يعني نهاية حكمه لا منتصفه، والحقيقة أن هذه النظرية – أن فرعون موسى هو رمسيس الثاني – تتفق مع كثر من النقاط التي يجب توافرها في ذلك الفرعون، إلا أن عدة عقبات حالت دون القبول التام لهذه النظرية:
1-
العقبة الأولى من التوراة: وهو ما جاء بسفر الخروج 23:2 (( وحدث في تلك الأيام الكثيرة أن ملك مصر مات )) إذ معناها أن الفرعون ( رمسيس الثاني ) قد مات وتولى ابنه (( مرنبتاح )) العرش، وفي رأينا أنهم اضطروا لهذا القول لسببين.
·أن يتمشى ذلك مع عمر موسى الذي قرروه في إصحاح 7 خروج: 7 وكان موسى ابن ثمانين سنة وهارون ابن ثلاث وثمانين سنة حينما كَلَّما فرعون، ولما كان موسى قد فر من مصر وعمره 45 سنة كان معنى ذلك أنه أمضى في مدين 35 سنة، وهي مدة طويلة جداً لا يستقيم معها أن يفكر موسى بعد ذلك في العودة إلى مصر، ويكون بنو إسرائيل في هذه الفترة قد نسوا بطلهم ولا يعود لهم الحماس لقيادته لهم بعد أن غاب عنهم هذه الفترة الطويلة.
·أنهم أيضاً قالوا بموت الملك حتى يتمشى مع ما جاء بالإصحاح خروج 19:4 (( وقال الرب لموسى في مديان، اذهب ارجع إلى مصر لأنه قد مات جميع القوم الذين كانوا يطلبون نفسك )) والواقع أن كلمة (( جميع القوم الذين كانوا يطلبون نفسك )) لا تعني فرعون بقدر ما تعني أهل المصري القتيل، فهم الذين كانوا يطلبون نفس موسى وكان الفرعون ينفذ طلبهم بالثأر لهم والأخذ بدمهم، فلما ماتوا لم يعد لدى الفرعون دافع قوي، وفي رأينا أن الفقرة 23 من الاصحاح 2 خروج كانت (( وحدث في تلك الأيام أن القوم الذين كانوا يطلبون نفس موسى ماتوا )) وليس (( ملك مصر مات )).
2-
العقبة الثانية من الآثار المصرية وهي اللوحة المعروفة باسم (( لوح إسرائيل )) أو ((لوح مرنبتاح )) والذي كتب على الأرجح في العام 1220 ق.م وفيه يقول مرنبتاح إنه قد أباد بذرة إسرائيل من فلسطين، ولما كان الخروج قد حدث في العام 1225 ق.م فهذا لا يترك فترة بين الخروج من مصر ودخول أرض فلسطين سوى 5 سنوات، وهذا ما جعل كثيراً من المؤرخين – وخاصة الإسلاميين يرفضون الرأي القائل بأن رمسيس الثاني هو فرعون الخروج لأن القرآن الكريم ينص صراحة وبوضوح على أن فترة التيه هي أربعون سنة، ولم يتصد أحد لتفسير ما جاء بلوح مرنبتاح تفسيراً يسمح بفترة التيه وهي أربعون سنة، كما لم يفطنوا إلى ما قد يكون في هذا اللوح من مبالغة، وهو أمر مألوف لدى الفراعين عند تسجيلهم لما قاموا به من أعمال وخاصة نتائج حروبهم، بل تشبثوا بحرفية ما جاء في هذا اللوح وسنناقش ذلك بتفصيل أكثر فيما بعد.
3-
كذلك كان من الاعتراضات التي أثيرت ضد نظرية أن رمسيس الثاني هو فرعون موسى قولهم إن فرعون موسى ادعى الألوهية في حين أن رمسيس الثاني كان يؤمن بأربعة آلهة هم (( آمون ورع وبتاح وسوتخ ))، وسمى فرق جيشه الأربع في معركة قادش بأسماء هذه الآلهة ( الدكتور محمد وصفي، الارتباط الزمني والعقائدي بين الأنبياء والرسل،
54). ويمكن الرد على هذه النقطة بأن معركة قادش كانت في السنة الخامسة من حكم رمسيس الثاني، في حين أن عودة موسى لمصر كانت في السنة 62 من الحكم أي بعد معركة قادش بـ 57 عاماً وهي فترة طويلة من الحكم المطلق والمديح المستمر من وزرائه ورجال البلاط ومن الشعب، وتمجيد لأفعاله ولابد أن كل ذلك قد أحدث أثره، وخاصة أنه كان عنده نزعة تعاظمية منذ صغره فكان أن نتج عن ذلك شعور بالكمال وظن نفسه مخلداً كالآلهة وانتهى به الأمر أن ادعى الألوهية.
4-
وكان آخر الاعتراضات التي أثيرت ضد هذه النظرية ما هو معروف من أن رمسيس الثاني كان له ما لا يقل عن مائة ولد ما بين ذكر وأنثى، إذ لم يستطيعوا التوفيق بين ذلك وما ورد في القرآن الكريم من أن فرعون موسى لم يكن له ولد فاضطر إلى تبني موسى ﴿ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ﴾ [ القصص: 9 ] وفهموا من هذه الآية أن فرعون موسى كان عقيماً، وسنشرح فيما بعد ( ص702 ) أن التبني لم يكن بسبب عقم الفرعون أو عقم نسائه، بل كان حرماناً مؤقتاً من الولد بوفاة الأبناء وهم صغار حتى تنفذ إرادة الله في تبنى الفرعون لموسى، ثم بعد ذلك زالت هذه (( اللعنة )) وعاش أبناؤه حتى بلغوا أكثر من مائة، وقد ثبت أن رمسيس الثاني – في العشر سنوات الأولى بعد زواجه – كان أبناؤه يموتون وهم رُضَّع، وهذا هو اسبب قبوله لتبني موسى.
المهم أن أصحاب نظرية أن رمسيس الثاني هو فرعون موسى لم يستطيعوا الدفاع عن رأيهم فكان أن رضخوا لافتراض آخر هو:
10-رمسيس الثاني فرعون التسخير ومرنبتاح فرعون الخروج:
وأصحاب هذا الرأي يعتقدون أن خروج بني إسرائيل من مصر كان خروجاً سلمياً ليس فيه مطاردة، وأن مرنبتاح تعقبهم بعد أن وصلوا فعلاً إلى فلسطين، ويعبر عن هذا الرأي ما يراه (( چان يويوت )) ( مصر الفرعونية، مترجم، القاهرة 1966 ص40 ) من أن بني إسرائيل انتهزوا فرصة انشغال جيش مصر في صد غزوة الليبيين لحدود مصر الغربية في السنة الخامسة من حكم مرنبتاح فهربوا من مصر، ثم بعد أن فرغ مرنبتاح من حربه مع الليبيين جرد حملة إلى فلسطين وأباد بني إسرائيل هناك.
ويعتمد أصحاب هذه النظرية على عدة نقاط:
1-
ما ورد في التوراة ( خروج 23:2 ) من أن ملك مصر قد مات، أي أن رمسيس الثاني مات وتولى الحكم بعده ابنه مرنيتاح، وقد ذكرنا في الصفحة السابقة أن المفهوم الآخر الوارد في الإصحاح 9:4 هو الأقرب للصحة وأن من مات حقيقة هم أقارب المصري الذي قتله موسى لا الفرعون.
2-كذلك قالوا إن مرنبتاح هو القائل: ﴿ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً ﴾ [ الشعراء: 18 ] مشيراً بذلك إلى والده رمسيس الثاني الذي ربى موسى، وإن كان يُرَدُّ على ذلك بالسؤال: ولم لا يكون رمسيس الثاني نفسه هو قائلها ؟ ويكون هو الذي يمن على موسى بحق الرباية، كما أن الأكثر إيلاماً للنفس والأدعى إلى الحزن هو أن يرى من كان يربيه ويرجو المنفعة من ورائه ﴿ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ﴾ [ القصص: 9 ] هو نفسه الذي كان سبباً في هلاكه فكأنه التقطه ليكون له عدواً وحزناً، كما قرر القرآن الكريم: ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ [ القصص: 8 ] وبالرغم من كل أسباب الحيطة والحذر الذي اتخذها رمسيس الثاني دفعاً للنبوءة فقد تحققت النبوءة وكان هلاك الفرعون وجنوده ﴿ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ [ القصص: 6 ] وهذا أبلغ في العبرة من أن يكون الذي سخر وتكبر وتجبَّر قد مات في سريره ميتة طبيعية في حين يكون الغرق من نصيب ابنه، وخاصة أن مدة حكم رمسيس الثاني طويلة تسمح بوقوع كل الأحداث في عهده، وتكون الآية بلفظ البحر لجثته تمثيلاً به لأفعاله ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾ [ يونس: 92 ].
3-
إلا أن السند الأساسي لهذه النظرية هو اللوح المسمى (( لوح مرنبتاح )) أو (( لوح إسرائيل )) وقد ذكرناه باختصار في سياق الاعتراضات التي أثيرت ضد نظرية رمسيس الثاني فرعوناً للتسخير والخروج معاً، ومن المناسب أن نتوسع قليلاً في ذكر شيء عن هذا اللوح ما دام هو السند الأساسي لنظرية (( مرنبتاح فرعون الخروج )).
هذا اللوح عبارة عن لوحة تذكارية منقوشة على الجرانيت الأسود مكتوب عليها قصيدة تسجل انتصار مرنبتاح على الليبيين واللوح محفوظ بالمتحف المصري، ومن يريد القصيدة كاملة يمكنه الرجوع إلى كتاب مصر القديمة ( سليم حسن ) جـ7 ص96، والقصيدة في مجموعها فخار بالنصر العظيم الذي أحرزه الملك على الليبيين في السنة الخامسة من حكمه وبه نجت مصر من خطر عظيم، والقصيدة تزخر بالاستعارات والتشبيهات المختارة مما أسبغ عليها صورة أدبية أكثر من أن تكون وثيقة تاريخية خالصة، وقد وصف فيها الشاعر هزيمة الأعداء بمهارة والأعمال الجسام التي قام بها (( مرنبتاح )) للذود عن حياض بلاده وتخليصها من غارات الليبيين وكسر شوكتهم، ولم يفته أن يصف الفرعون بالعدل والاستقامة فيقول: فهو يعطي كل ذي حق حقه، فالثروة تتدفق على الرجل الصالح، أما المجرم فلن يتمتع بغنيمة ما، ثم ينتقل الشاعر إلى وصف السلام والطمأنينة والرخاء التي سادت البلاد بعد هذا الانتصار فيقول: فحتى الحيوان قد ترك جائلاً بدون راع في حين أن أصحابها يروحون ويغدون مغنيين، وليس هناك صياح قوم متوجعين، وفي ختام القصيدة يُعدِّد الشاعر القبائل والأقاليم التي أخضعها مرنبتاح وهذا نصها – لأن هذا الجزء هو بيت القصيد:
ويقول الرؤساء المطروحين أرضاً: السلام! ولم يعد يَرفع واحد من بين قبائل البدو تسعة الأقواس رأسه ( وهذا اسم قديم لجيران مصر المعادين لها ).
(( التحنو )) قد خربت ( إحدى القبائل التي كانت تسكن ليبيا ).
وبلاد (( خاتي )) قد أصبحت مسالمة.
وأزيلت (( عسقلان )).
و (( جازر )) قبض عليها.
و (( بنوم )) أصبحت لا شيء.
وإسرائيل خربت وليس لها بذر.
و (( خارو )) أصبحت أرملة لمصر.
وكل الأراضي قد وجدت السلم.
وكل من ذهب جائلاً أخضعه ملك الوجه القبلي والوجه البحري ابن (( رع )) محبوب ((آمون)) ابن الشمس (( مرنبتاح )) منشرح بالصدق.
معطى الحياة مثل (( رع )) كل يوم.
وأهمية هذه القصيدة في نظر المؤرخين هي ذكر قوم بني إسرائيل وبخاصة لأنها المرة الأولى والوحيدة التي يأتي فيها ذكرهم بالاسم في الآثار المصرية، ولما كان بنو إسرائيل قد بدأوا إقامتهم بمصر أيام يوسف ولم يذكر عن ذلك شيء في الآثار المصرية، فإن ذكر اسمهم هنا لابد له علاقة بخروجهم من مصر، وقد اختلف العلماء حول ما يفهم من هذه العبارة.
فبعضهم مثل پتري ( Petrie, Israel in Eygpt, p.35
) يرى أن إسرائيل كانوا في الوقت الذي كتبت فيه هذه اللوحة في فلسطين.
أما الأستاذ ناڤيل ( Naville, Archeology of the Old Testament
) فيرى أن اللوحة تدل على أن بني إسرائيل قد خرجوا من مصر قبل (( مرنبتاح )) أو في أوائل حكمه، ولكن هذا الافتراض الأخير يتنافى مع الحقيقة المؤكدة وهي أن فرعون الخروج غرق أثناء مطاردته لنبي إسرائيل، فلا يمكن أن يكون الخروج حدث في أوائل حكم مرنبتاح بل يكون قد حدث في أواخر حكم رمسيس الثاني الذي غرق أثناء مطاردتهم، وهكذا نرى أن لوح مرنبتاح الذي اتخذوه دليلاً لمعارضة نظرية – رمسيس الثاني هو فرعون الخروج – في الحقيقة هو دليل على صحتها. نقطة ثانية يقولها ناڤيل ذلك أنه لا يعتقد أن الإشارة إلى سوريا في اللوحة تشير إلى حرب حقيقة وقعت في سوريا. والحقيقة أنه لا يوجد ما يدل على أن مرنبتاح قد قاد أو سيَِّر حملة إلى سوريا، كما أن ما ذُكر من أن (( بلاد خاتي )) أصبحت مسالمة – هو – كما يقال: من قبيل تحصيل الحاصل لأنها كانت مسالمة منذ المعاهدة التي وقعها والده رمسيس الثاني مع ملكها ويكون ذكر ذلك على أنه من أعمال مرنبتاح هو مبالغة من مبالغات الفراعين التي اشتهروا بها عند تدوين سجل أعمالهم، ولعله أراد الإشارة إلى أنه لم يهمل الجبهة الشرقية وكانت له فيها انتصارات كما أحرز الانتصارات في الغرب على الليبيين.
ويذكر سليم حسن عالم المصريات ( مصر القديمة جـ7
11 ) أن علماء الآثار واللغة قد ترجموا الجملة التي وردت عن إسرائيل (( وليس لها بذر )) على وجهين بعضهم قال إن محاصيلهم قد ذهبت أو ليس لهم غلة، والأصح الوجه الآخر كما قال پرستد: وإسرائيل قد أقفروا بذرتهم قد انقطعت أو كما قال ناڤيل: وإسرائيل قد مُحي وبذرته لا وجود لها، والواقع أن كلمة (( بذرة )) تدل على (( الخَلَف )) وفي الدول العربية للآن نجد أنهم يستعملون كلمة (( بذرة )) بمعنى (( النسل )) أو (( الأولاد ))، وسؤال شائع لديهم: كيف حال البذور ؟ ويقال لمن لا نسل له (( لقد انقطعت بذرته )).
كذلك ذكر العالم سليم حسن أن جميع البلاد التي ذكرت: خاتي – جازر – عسقلان وغيرها أُلحق بكل منها رسم مخصص يدل على أنها بلاد أجنبية أما اسم إسرائيل فقد كان الاسم الوحيد الذي استثنى من هذا الرسم وهو ما يعني أنه لم يكن لبني إسرائيل في ذلك الوقت ((أرض محددة )) وكان الرسم الذي ألحق باسم إسرائيل هو صورة رجل وامرأة دلالة على أنهم مجرد جمع من الناس وليسوا (( دولة )) مما يدل على أن الشاعر الذي تغنى بانتصار ((مرنبتاح )) وصاغ هذا النشيد كان يعني أن بني إسرائيل يومئذ لم يكن لهم مكان محدد في أرض فلسطين، ولا سبيل إلى التشكيك في طريقة كتابة القصيدة بما يقال من احتمال خطأ الكاتب المصري القديم وسهوه، فقد كان واعياً لما يكتب وأورد أسماء الشعوب والبلاد الأجنبية في ذلك النص 19 ( تسعة عشر ) مرة لم يغفل رسم رمز الأرض الأجنبية في واحدة منها سواء ما سبق اسم إسرائيل أو ما ورد بعده، ويخلص من ذلك إلى أن أنشودة النصر هذه تشير إلى طائفة من (( بني إسرائيل )) كانت في بعض بقاع فلسطين أو تخومها حين خرج مرنبتاح لقمع ثورة هناك، وهذا يعني أنهم قد خرجوا من مصر قبل عهده، كما يرى الدكتور عبد العزيز صالح ( الشرق الأدنى القديم جـ1 ص255 ) أن لوح مرنبتاح قد اعتبر (( إسرائيل)) من (( نزلاء )) فلسطين ولم يذكر تتبعه لهم من مصر وذلك يعني أنهم دخلوا فلسطين قبل عهده أي أنهم خرجوا من مصر قبل عهده أي في أواخر عصر رمسيس الثاني.
وهنا تبرز مشكلة سنوات التيه، إذ الثابت دينياً أن بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر لم يتوجهوا مباشرة إلى فلسطين بل أمضوا أربعين سنة في التيه في سيناء ثم بعد ذلك توجهوا إلى أرض فلسطين، فإذا افترضنا سنة قبل التيه وسنة بعده للإعداد لدخول الأرض لكان المجموع 42 سنة وفي أثنائها كان قد توفي ستة من الفراعنة:
مرنبتاح....حكم 10
سنة
سيتى الثاني....6سنةآمنموس....1سنة بوصاية باي
سابتاح مرنبتاح.... 6
سنةالملكة تاوسرة
..حكمت 8
سنةست نخت..حكم1سنة 42سنة
أي أن بني إسرائيل لما بدأوا دخول أرض فلسطين كان رمسيس الثالث هو فرعون مصر أما قبل ذلك فلم يكن لهم وجود في فلسطين، فكيف يحق لمرنبتاح أن يذكر في أنشودة النصر: ((وإسرائيل خربت وليس لها بذر )) أو كما ترجمت: وقد أبدت بذرة إسرائيل ؟
بعض العلماء الذين يتمسكون بنظرية (( مرنبتاح فرعون الخروج )) يُسقطون سنوات التيه من حسابهم وينكرونها ويقولون إن بني إسرائيل توجهوا لفلسطين بعد خروجهم من مصر في آخر حكم رمسيس الثاني وأن مرنبتاح قد طاردهم هناك و (( أباد بذرتهم فعلاً )) ويستدلون على قوة النفوذ المصري في فلسطين أيام حكم مرنبتاح بعثور الأثريين على إناء مكسور عليه كتابة مصرية لأحد جباة الضرائب المصريين في بلدة (( لخيش )) في فلسطين وقد سجَّل فيها تسلمه لشحنة من القمح في السنة الرابعة من حكم مرنبتاح، كما يرى البعض ( د. محمد بيومي مهران. مصر والشرق الأدنى القديم جـ3 ص500 ) أن السيادة المصرية على فلسطين في ذلك الوقت كانت من القوة بحيث لا تتيح لجموع بني إسرائيل – غير المسلحين بأسلحة – دخول أرض فلسطين أصلاً فلا محل للقول بأن بني إسرائيل كانوا قد استقروا في فلسطين لبعض الوقت ثم ذهب مرنبتاح وأباد بذرتهم وأعاد النفوذ المصري إلى فلسطين ثانية.
ويَجُبّ هذا كله أن سنوات التيه ثابتة لورودها في القرآن الكريم وفي التوراة أيضاً فلا محل لإسقاطها أو إنكارها، وما دام الأمر كذلك كيف تسنى لمرنبتاح أن يذكر في اللوح أنه أباد بذرة إسرائيل في حين أنهم كانوا لا يزالون في التيه في سيناء ؟ والجواب هو في أحد الاهتمامات التالية:
1-أنه ذهب إلى فلسطين ووجد بعضاً من (( العابيرو )) – وهم كما ذكرنا أقرباء لبني إسرائيل وفرع منهم – فأبادهم، وظن أو ادعى أنه أباد بني إسرائيل.
2-أنه ذهب إلى فلسطين ولم يجد بني إسرائيل وبحث عنهم في أنحاء فلسطين فلم يجدهم فاعتقد أنهم هلكوا في الصحراء ونسب هلاكهم إلى نفسه.
3-الاحتمال الثالث هو أن مرنبتاح لم يقد أو يرسل حملة إلى فلسطين إطلاقاً، وأنه كما نسب السلام مع (( خاتي )) لنفسه فقد أراد أن يؤكد أنه لم يقل عن سلفه في اهتمامه بأملاك مصر في آسيا، فكان أن ضمَّن نصره على الليبيين نصراً في الشرق أيضاً، فأضاف خاتي وجازر وعسقلان وبالمثل كانت إضافته لاسم إسرائيل وكان ذلك أسهل إذ أنهم لم يكونوا دولة بل قوماً بدون أرض كما هو واضح من طريقة ذكرهم في (( لوح إسرائيل )).
المفضلات