الأخ ماجد إليك تفسير الآية نقلا من (تفسير القرطبي) مع خالص التحية
قَوْله تَعَالَى " لَتَجِدَنَّ أَشَدّ النَّاس عَدَاوَة لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُود " اللَّام لَام الْقَسَم وَدَخَلَتْ النُّون عَلَى قَوْل الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ فَرْقًا بَيْن الْحَال وَالْمُسْتَقْبَل . " عَدَاوَة " نُصِبَ عَلَى الْبَيَان وَكَذَا " وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبهمْ مَوَدَّة لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى " وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيّ وَأَصْحَابه لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فِي الْهِجْرَة الْأُولَى - حَسَب مَا هُوَ مَشْهُور فِي سِيرَة اِبْن إِسْحَاق وَغَيْره - خَوْفًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَفِتْنَتهمْ ; وَكَانُوا ذَوِي عَدَد . ثُمَّ هَاجَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَة بَعْد ذَلِكَ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْوُصُول إِلَيْهِ , حَالَتْ بَيْنهمْ وَبَيْن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَرْب . فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَة بَدْر وَقَتَلَ اللَّه فِيهَا صَنَادِيد الْكُفَّار , قَالَ كُفَّار قُرَيْش : إِنَّ ثَأْركُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَة , فَاهْدُوا إِلَى النَّجَاشِيّ وَابْعَثُوا إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ ذَوِي رَأْيكُمْ لَعَلَّهُ يُعْطِيكُمْ مَنْ عِنْده فَتَقْتُلُونَهُمْ بِمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ بِبَدْرٍ , فَبَعَثَ كُفَّار قُرَيْش عَمْرو بْن الْعَاص وَعَبْد اللَّه بْن أَبِي رَبِيعَة بِهَدَايَا , فَسَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ , فَبَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرو بْن أُمَيَّة الضَّمْرِيّ , وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى النَّجَاشِيّ , فَقَدِمَ عَلَى النَّجَاشِيّ , فَقَرَأَ كِتَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ دَعَا جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب وَالْمُهَاجِرِينَ , وَأَرْسَلَ إِلَى الرُّهْبَان وَالْقِسِّيسِينَ فَجَمَعَهُمْ . ثُمَّ أَمَرَ جَعْفَر أَنْ يَقْرَأ عَلَيْهِمْ الْقُرْآن فَقَرَأَ سُورَة ( مَرْيَم ) فَقَامُوا تَفِيض أَعْيُنهمْ مِنْ الدَّمْع , فَهُمْ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّه فِيهِمْ " وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبهمْ مَوَدَّة لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى " وَقَرَأَ إِلَى " الشَّاهِدِينَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَلَمَة الْمُرَادِيّ قَالَ حَدَّثَنَا اِبْن وَهْب قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُس عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ أَبِي بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَارِث بْن هِشَام , وَعَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَعَنْ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر , أَنَّ الْهِجْرَة الْأُولَى هِجْرَة الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَرْض الْحَبَشَة , وَسَاقَ الْحَدِيث بِطُولِهِ , وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ اِبْن إِسْحَاق قَالَ : قَدِمَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرُونَ رَجُلًا وَهُوَ بِمَكَّة أَوْ قَرِيب مِنْ ذَلِكَ , مِنْ النَّصَارَى حِين ظَهَرَ خَبَره مِنْ الْحَبَشَة , فَوَجَدُوهُ فِي الْمَسْجِد فَكَلَّمُوهُ وَسَأَلُوهُ , وَرِجَال مِنْ قُرَيْش فِي أَنْدِيَتهمْ حَوْل الْكَعْبَة فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْأَلَتهمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا أَرَادُوا , دَعَاهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَتَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآن , فَلَمَّا سَمِعُوهُ فَاضَتْ أَعْيُنهمْ مِنْ الدَّمْع , ثُمَّ اِسْتَجَابُوا لَهُ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ , وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَف لَهُمْ فِي كِتَابهمْ مِنْ أَمْره , فَلَمَّا قَامُوا مِنْ عِنْده اِعْتَرَضَهُمْ أَبُو جَهْل فِي نَفَر مِنْ قُرَيْش فَقَالُوا : خَيَّبَكُمْ اللَّه مِنْ رَكْب ! بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْل دِينكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ فَتَأْتُونَهُمْ بِخَبَرِ الرَّجُل , فَلَمْ تَظْهَر مُجَالَسَتكُمْ عِنْده حَتَّى فَارَقْتُمْ دِينكُمْ وَصَدَّقْتُمُوهُ بِمَا قَالَ لَكُمْ , مَا نَعْلَم رَكْبًا أَحْمَق مِنْكُمْ - أَوْ كَمَا قَالَ لَهُمْ - فَقَالُوا : سَلَام عَلَيْكُمْ لَا نُجَاهِلكُمْ لَنَا أَعْمَالنَا وَلَكُمْ أَعْمَالكُمْ , لَا نَأْلُوا أَنْفُسنَا خَيْرًا . فَيُقَال : إِنَّ النَّفَر النَّصَارَى مِنْ أَهْل نَجْرَان , وَيُقَال : إِنَّ فِيهِمْ نَزَلَتْ هَؤُلَاءِ الْآيَات " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَاب مِنْ قَبْله هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ " [ الْقَصَص : 52 ] إِلَى قَوْله : " لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ " [ الْقَصَص : 55 ] وَقِيلَ : إِنَّ جَعْفَرًا وَأَصْحَابه قَدِمَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا عَلَيْهِمْ ثِيَاب الصُّوف , فِيهِمْ اِثْنَانِ وَسِتُّونَ مِنْ الْحَبَشَة وَثَمَانِيَة مِنْ أَهْل الشَّام وَهُمْ بَحِيرَاء الرَّاهِب وَإِدْرِيس وَأَشْرَف وَأَبْرَهَة وَثُمَامَة وَقُثَم وَدُرَيْد وَأَيْمَن , فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَة " يس " إِلَى آخِرهَا , فَبَكَوْا حِين سَمِعُوا الْقُرْآن وَآمَنُوا , وَقَالُوا : مَا أَشْبَه هَذَا بِمَا كَانَ يَنْزِل عَلَى عِيسَى فَنَزَلَتْ فِيهِمْ " لَتَجِدَنَّ أَشَدّ النَّاس عَدَاوَة لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُود وَاَلَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبهمْ مَوَدَّة لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى " يَعْنِي وَفْد النَّجَاشِيّ وَكَانُوا أَصْحَاب الصَّوَامِع , وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : وَأَنْزَلَ اللَّه فِيهِمْ أَيْضًا " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَاب مِنْ قَبْله هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ " [ الْقَصَص : 52 ] إِلَى قَوْله : " أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرهمْ مَرَّتَيْنِ " [ الْقَصَص : 54 ] إِلَى آخِر الْآيَة , وَقَالَ مُقَاتِل وَالْكَلْبِيّ : كَانُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْل نَجْرَان مِنْ بَنِي الْحَارِث بْن كَعْب , وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ مِنْ الْحَبَشَة , وَثَمَانِيَة وَسِتُّونَ مِنْ أَهْل الشَّام . وَقَالَ قَتَادَة : نَزَلَتْ فِي نَاس مِنْ أَهْل الْكِتَاب كَانُوا عَلَى شَرِيعَة مِنْ الْحَقّ مِمَّا جَاءَ بِهِ عِيسَى , فَلَمَّا بَعَثَ اللَّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنُوا بِهِ فَأَثْنَى اللَّه عَلَيْهِمْ .
ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ
وَاحِد " الْقِسِّيسِينَ " قَسّ وَقِسِّيس ; قَالَهُ قُطْرُب . وَالْقِسِّيس الْعَالِم ; وَأَصْله مِنْ قَسَّ إِذَا تَتَبَّعَ الشَّيْء فَطَلَبَهُ ; قَالَ الرَّاجِز : يُصْبِحْنَ عَنْ قَسّ الْأَذَى غَوَافِلَا وَتَقَسَّسْت أَصْوَاتهمْ بِاللَّيْلِ تَسَمَّعْتهَا , وَالْقَسّ النَّمِيمَة , وَالْقَسّ أَيْضًا رَئِيس مِنْ رُؤَسَاء النَّصَارَى فِي الدِّين وَالْعِلْم , وَجَمْعه قُسُوس , وَكَذَلِكَ الْقِسِّيس مِثْل الشَّرّ وَالشِّرِّير فَالْقِسِّيسُونَ هُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْعُلَمَاء وَالْعُبَّاد , وَيُقَال فِي جَمْع قِسِّيس مُكَسَّرًا : قَسَاوِسَة أُبْدِلَ مِنْ إِحْدَى السِّينَيْنِ وَاوًا وَقَسَاوِسَة أَيْضًا كَمَهَالِبَة , وَالْأَصْل قَسَاسِسَة فَأَبْدَلُوا إِحْدَى السِّينَات وَاوًا لِكَثْرَتِهَا . وَلَفْظ الْقِسِّيس إِمَّا أَنْ يَكُون عَرَبِيًّا , وَإِمَّا أَنْ يَكُون بِلُغَةِ الرُّوم وَلَكِنْ خَلَطَتْهُ الْعَرَب بِكَلَامِهِمْ فَصَارَ مِنْ لُغَتهمْ إِذْ لَيْسَ فِي الْكِتَاب مَا لَيْسَ مِنْ لُغَة الْعَرَب كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا نَصْر بْن دَاوُد حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْد , قَالَ : حُدِّثْت عَنْ مُعَاوِيَة بْن هِشَام عَنْ نُصَيْر الطَّائِيّ عَنْ الصَّلْت عَنْ حَامِيَة بْن رَبَاب قَالَ : قُلْت لِسَلْمَان " بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا " فَقَالَ : دَعْ الْقِسِّيسِينَ فِي الصَّوَامِع وَالْمِحْرَاب أَقْرَأَنِيهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بِأَنَّ مِنْهُمْ صِدِّيقِينَ وَرُهْبَانًا " , وَقَالَ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر : ضَيَّعَتْ النَّصَارَى الْإِنْجِيل , وَأَدْخَلُوا فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ; وَكَانُوا أَرْبَعَة نَفَر الَّذِينَ غَيَّرُوهُ ; لُوقَاس ومرقوس وَيُحَنَّس ومقبوس وَبَقِيَ قِسِّيس عَلَى الْحَقّ وَعَلَى الِاسْتِقَامَة , فَمَنْ كَانَ عَلَى دِينه وَهَدْيه فَهُوَ قِسِّيس .
وَرُهْبَانًا
الرُّهْبَان جَمْع رَاهِب كَرُكْبَانٍ وَرَاكِب . قَالَ النَّابِغَة : لَوْ أَنَّهَا عَرَضَتْ لِأَشْمَط رَاهِب عَبَدَ الْإِلَه صَرُورَة مُتَعَبِّد لَرَنَا لِرُؤْيَتِهَا وَحُسْن حَدِيثهَا وَلَخَالَهُ رَشَدًا وَإِنْ لَمْ يَرْشُدِ وَالْفِعْل مِنْهُ رَهِبَ اللَّه يَرْهَبهُ أَيْ خَافَهُ رَهْبًا وَرَهَبًا وَرَهْبَة , وَالرَّهْبَانِيَّة وَالتَّرَهُّب التَّعَبُّد فِي صَوْمَعَة . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَقَدْ يَكُون ( رُهْبَان ) لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْع ; قَالَ الْفَرَّاء : وَيُجْمَع ( رُهْبَان ) إِذَا كَانَ لِلْمُفْرَدِ رَهَابِنَة وَرَهَابِين كَقُرْبَانٍ وَقَرَابِين ; قَالَ جَرِير فِي الْجَمْع : رُهْبَان مَدْيَن لَوْ رَأَوْك تَنَزَّلُوا وَالْعُصْم مِنْ شَعَف الْعُقُول الْفَادِرُ الْفَادِر الْمُسِنّ مِنْ الْوُعُول , وَيُقَال : الْعَظِيم , وَكَذَلِكَ الْفَدُور وَالْجَمْع فُدْر وَفُدُور وَمَوْضِعهَا الْمَفْدَرَة ; قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ , وَقَالَ آخَر فِي التَّوْحِيد : لَوْ أَبْصَرَتْ رُهْبَان دَيْر فِي الْجَبَل لَانْحَدَرَ الرُّهْبَان يَسْعَى وَيُصَلْ مِنْ الصَّلَاة . وَالرَّهَابَة عَلَى وَزْن السَّحَابَة عَظْم فِي الصَّدْر مُشْرِف عَلَى الْبَطْن مِثْل اللِّسَان , وَهَذَا الْمَدْح لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُون مَنْ أَصَرَّ عَلَى كُفْره وَلِهَذَا قَالَ :
وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ
يَسْتَكْبِرُونَ " أَيْ عَنْ الِانْقِيَاد إِلَى الْحَقّ
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المفضلات