فهذا بحث مختصر حول : حكم التهنئة بدخول شهر رمضان ، حاولت أن أجمع فيه أطرافه راجياً من الله –تعالى – التوفيق والسداد ، وفيه إجابة عن سؤال السائل .
فأقول : قبل البدء بذكر حكم المسألة لا بد من تأصيل موضوع التهنئة .
فيقال : التهاني – من حيث الأصل – من باب العادات ، والتي الأصل فيها الإباحة ، حتى يأتي دليل يخصها ، فينقل حكمها من الإباحة إلى حكم آخر . ويدل لذلك – ما سيأتي – من تهنئة بعض الصحابة بعضاً في الأعياد ، وأنهم كانوا يعتادون هذا في مثل تلك المناسبات .
ويقول العلامة السعدي – رحمه الله – مبيناً هذا الأصل في جواب له عن حكم التهاني في المناسبات - كما في ( الفتاوى ) في المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي (348) : " هذه المسائل وما أشبهها مبنية على أصل عظيم نافع ، وهو أن الأصل في جميع العادات القولية والفعلية الإباحة والجواز ، فلا يحرم منها ولا يكره إلا ما نهى عنه الشارع ، أو تضمن مفسدة شرعية ، وهذا الأصل الكبير قد دل عليه الكتاب والسنة في مواضع ، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره . فهذه الصور المسؤول عنها ما أشبهها من هذا القبيل ، فإن الناس لم يقصدوا التعبد بها ، وإنما هي عوائد وخطابات وجوابات جرت بينهم في مناسبات لا محذور فيها ، بل فيها مصلحة دعاء المؤمنين بعضهم لبعض بدعاء مناسب، وتآلف القلوب كما هو مشاهد .
أما الإجابة في هذه الأمور لمن ابتدئ بشيء من ذلك ، فالذي نرى أنه يجب عليه أن يجيبه بالجواب المناسب مثل الأجوبة بينهم ؛ لأنها من العدل ، ولأن ترك الإجابة يوغر الصدور ويشوش الخواطر .
ثم اعلم أن هاهنا قاعدة حسنة ، وهي : أن العادات والمباحات قد يقترن بها من المصالح والمنافع ما يلحقها بالأمور المحبوبة لله ، بحسب ما ينتج عنها وما تثمره ، كما أنه قد يقترن ببعض العادات من المفاسد والمضار ما يلحقها بالأمور الممنوعة ، وأمثلة هذه القاعدة كثيرة جداً " ا.هـ كلامه ، وللشيخ – رحمه الله – كلام في (منظومة القواعد) – كما في (المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي 1/143) – يقرر فيه هذا المعنى ، وللمزيد ينظر (الموافقات للشاطبي 2/212-246) ففــيـه بحوث موسعة حول العادات وحكمها في الشريعة.
فإذا تقرر أن التهاني من باب العادات ، فلا ينكر منها إلا ما أنكره الشرع ، ولذا: مرّر الإسلام جملة من العادات التي كانت عند العرب ،بل رغب في بعضها ، وحرم بعضها كالسجود للتحية .
وبعد هذه التوطئة يمكن أن يقال عن التهنئة بدخول الشهر الكريم : قد ورد في التهنئة بقدومه بعض ا لأحاديث عن النبي – صلى الله عليه وسـلم – أذكر جملة منها ، وهي أقوى ما وقفت عليه ، وكلها لا تخلو من ضعف ، وبعض أشد ضعفاً من الآخر:
1- حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتاكم رمضان ، شهر مبارك ، فرض الله – عز وجل – عليكم صيامه ، تفتح فيه أبواب السماء ، وتغلق فيه أبواب الجحيم ، وتغل فيه مردة الشياطين ، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم " . أخرجه النسائي ( 4/129) ح (2106) ، وأحمد (2/230 ، 385، 425) من طرق عن أيوب ، عن أبي قلابة – واسمه عبد الله بن زيد الجزمي – عن أبي هريرة –رضي الله عنه - .
والحديث رجاله الشيخين إلا أن رواية أبي قلابة عن أبي هريرة مرسلة ، أي أن في الإسناد انقطاعاً ينظر : (تحفة التحصيل) لأبي زرعة العراقي ( 176) .
والحديث أصله في الصحيحين – البخاري (2/30) ح ( 1899) ، ومسلم (2/758) ح(1079) – ولفظ البخاري : " إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء ، وغلقت أبواب جهنم ، وسلسلت الشياطين " ، ولفظ مسلم : " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة- وفي لفظ ( الرحمة ) – وغلقت أبواب النار ، وصفدت الشياطين" .
2- حديث أنس – رضي الله عنه – قال : دخل رمضان ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " إن هذا الشهر قد حضركم ، وفيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرمها فقد حرم الخير كله ، ولا يحرم خيرها إلا محروم " . أخرجه ابن ماجة ح(1644) من طريق محمد ابن بلال ، عن عمران القطان ، عن قتادة ، عن أنس – رضي الله عنه - . وهذا الإسناد ضعيف لوجهين :
الوجه الأول : أن فيه محمد بن بلال البصري ، التمار.
قال أبو داود : ما سمعت إلا خيراً ، وذكره ابن حبان في (الثقات) ، وقال العقيلي – في (الضعفاء 4/37) ترجمة ( 1584) - : " بصري يهـم في حديثه كثيراً " ، وقال ابن عدي في ( الكامل 6/134) : " له غير ما ذكرت من الحديث ، وهو يغرب عن عمران القطان ، له عن غير عمران أحاديث غرائب ، وليس حديثه بالكثير ، وأرجو أنه لا بأس به ".
وحديث الباب من روايته عن عمران ، فلعله مما أغرب به على عمران ، وقد لخص الحافظ ابن حجر حاله بقوله في ( التقريب 5766) : " صدوق يغرب " .
الوجه الثاني : أن في سنده عمران بن داوَر ، أبو العوام القطان ، كان يحيى القطان لا يحدث عنه ، وقد ذكره يوماً فأحسن الثناء عليه – ولعل ثناءه عليه كان بسبب صلاحه وديانته ، جمعاً بين قوله وأقوال الأئمة الآتية ، لكن قال أحمد: " أرجو أن يكون صالح الحديث " ، وقال مرة: " ليس بذاك " ، وضعفه ابن معين ، وأبو داود ، والنسائي ، وقال الدارقطني : "كثير الوهم والمخالفة"، وقد ذكره ابن حبان في (الثقات) . ينظر : ( سؤالات الحاكم للدارقطني 261 رقم 445)، ( تهذيب الكمال 22/329) ، ( الميزان 3/236) (موسوعة أقوال الإمام أحمد في الرجال 3/121) ، وقال الحافظ بن حجر ملخصاً أقوال من سبق : " صدوق يهم ، ورمي برأي الخوارج " كما في ( التقريب 5150)، وعمران هذا روى الحديث عن قتادة ولم أقف له على متابع ، فهذا مظنة الضعف والغرابة .
وذكر الإمام البرديجي كلاماً قوياً يبين فيه حكم الأحاديث التي ينفرد فيها أمثال هؤلاء الرواة عن الأئمة الحفاظ ،فيمكن أن ينظر : ( شرح العلل 2/679،654) لابن رجب، ونحوه عن الإمام مسلم في مقدمة صحيحه (1/7) . وقتادة بلا ريب من كبار الحفاظ في زمانه، وروى عنه جمعٌ كبير من الأئمة ، كما قال الذهبي في ( السير 5/270) : " روى عنه أئمة الإسلام ، أيوب السختياني، وابن أبي عروبة، ومعمر بن راشد ، والأوزاعي ، ومسعر بن كدام ، وعمرو بن الحارث المصري وشعبة ... " ثم ذكر جملة منهم فأين هؤلاء من هذا الحديث ؟
3- حديث سلمان – رضي الله عنه – قال : خطبنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في آخر يومٍ من شعبان ، فقال " أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم ، شهر مبارك ، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر ، جعل الله صيامه فريضة ، وقيام ليله تطوعاً ، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه ، وهو شهر الصبر ، والصبر ثوابه الجنة ، وشهر المواساة ، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن ، من فطر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه ، وعتق رقبته من النار ، وكان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شيء " .
المفضلات