كان لأحد الرجال ثلاثة أولاد، وكان على قدر كبير من الغنى، فلديه الأراضي والماشية والديار،


كان أولاده يسألونه دائماً أن يقسم فيهم أمواله، قبل وفاته، ولكنه كان لا يستجيب إلى طلبهم،


و يعدهم بأن كل ما يملكه هو لهم،وأنه قد رتب الأمور، وأعد وصيته، وأنه أودعها خزانته،


و ما عليهم ألا أن يفتحوها بعد وفاته، ليجدوا كل شيء قد أُعد خير إعداد


ومضى الأولاد ينتظرون مرور الأيام، حتى وافت المنية والدهم، فواروه التراب، وأسرعوا إلى


الخزانة يفتحونها، وإذا بهم يدهشون لما يرون، فليس ثمة شيء غير قبضةٍ من تراب، وعظمة


نخرة و ورقة بيضاء،وقد كُتب أمام كل واحدة اسم أحدهم، فلم يفهموا مما رأوا شيئاً،


وحاروا في أمرهم، كيف يقتسمون أملاك أبيهم؟


وكاد الخلاف يدب بين الأخوة، ولكن أحدهم اقترح مشاورة صديق لأبيهم، فرجعوا إليه يستشيرونه


في الأمر، فنصح لهم بالتوجه إلى حكيم في أحدالبلاد، ليعرضوا أمرهم عليه. وسار الثلاثة إلى بلد


ذلك الحكيم، وبينما هم في بعض الطريق، رأوا نخلة عالية، تتدلى منها عُثاكيل التمر، فتسلق أحدهم


النخلة، وقطف عُثكولاً من التمر الناضج، وأقبل ثلاثتهم عليه، وإذا أول تمرة فيه مرّة


لا تُذاق، وكذلك حال الثانية، فالثالثة، حتى لم يبق في العُثكول غير ثلاث، ذاقوها فإذا هي


حلوة فاقتسموها.ثم مضوا في الطريق، وما هي إلا بضعة فراسخ، حتى رأوا واحة، فنزلوا بقربها،


وكان ماؤها أبيض رقراقاً، فأدنوا منها إبلهم، ودعوها إلى الشرب، فلم تشرب، فحاولوا الشرب


منها، فإذا ماؤها ملح أجاج، فعافوها، ومضوا في طريقهم قاصدين بلد الحكيم.


وما إن قطعوا فراسخ أخرى، حتى رأوا حصاة صغيرة، تذروهاالريح، فتعلو، فإذا هي قصر


مشيد، ثم ما تلبث أن تهوي، حصاة صغيرة، تدوسها الأقدام،فعجبوا مما رأوا، وكانوا قد وصلوا بلد


الحكيم، فدخلوها، ومضوا إلى حيث دلهم الناس،حتى بلغوا داره، فدقوا عليه الباب، فخرج لهم غلام


قادهم إلى غرفة التقوا فيها بشيخ عجوز، متهدم، ذي لحية بيضاء، يبدو أنه في التسعين، فحسبوه


الحكيم، فحيّوه، وأخبروه أن لديهم حاجة، فأخبرهم أنه ليس هو الحكيم، وإنما أخوه الأكبر،


وماعليهم إلا أن ينتظروه حتى يجيء. ولبث الإخوة ينتظرون، فدخل عليهم رجل قوي مشدود القامة،


مهيب الطلعة،متقدم في العمر، ولكنه محتفظ بقوته وحيويته، يبدو كأنه في الستين، وما إن دخل


حتى نهض له الشيخ العجوز، وقبّل يده، وحيّاه، ثم قدمه إلى الإخوة على أنه أخوه الحكيم، فعجبوا


له وحّيوه، وهم دهشون، ثم عرضوا عليه أمرهم، وسألوه تفسير ماترك لهم والدهم. أطرق الحكيم


قليلاً، ثم أخبرهم بتفسيره، فأما كومة التراب فتشير إلى مايملك والدهم من أرض، وأما العظمة


النخرة فتشير إلى مايملكه من ماشية، وأما الورقة البيضاء فتشير إلى ما يملكه من ديار مسجلة


في الأملاك، وما عليهم إلا أن يقتسموها،كما هي موزعة.


وأعجب الإخوة بتفسير الحكيم، كما أعجبوا بقسمة والدهم لهم، ثم أخبروا الحكيم بما رأوه في


الطريق، وسألوه تفسيره،فأخبرهم أن التمرالكثير، الذي لم يجدوا فيه حلواً سوى اثنتين أو ثلاث،


فمثله كمثل الأصحاب، وهم كثير ولكن المخلص فيهم قليل، وأن الماء الرقراق الصافي، مالح


الطعم، فمثله كمثل المرء،يعجبك مظهره، يخدعك به عن فعاله وخلقه، التي لا توافق مظهره، وأن


الحصاة التي تعلو فتشيد قصراً، ثم تسقط فتهدمه، فمثلها كمثل الكلمة، تحلو وترق، فتبني بيتاً،


وتغلظ وتقسو فتخرب ما بنت، فأعجب الأخوة بتفسيره، وشكروه عليه، وهموا بالانصراف.


ولكن الأخوة التفتوا إلى الحكيم، قبل مضيهم، يسألونه عن حاله، كيف يكون أكبر من أخيه، في


حين يبدو أخوه هو الأكبر، فأخبرهم الحكيم أن أخاه غارقاً في الهموم، يفكر فيما مضى،وفيما سيأتي


ويطيل التفكير، أما هو فيرمي الهموم جانباً، ولا يفكّر إلا فيما هو فيه، فأعجبوا بحكمته، وعادوا


إلى بلدهم هانئين بما أفادوه من حكمة.



.

.

تقبلوا تحياتي