الماتريدية.. أصولهم ومناهجهم
الماتريدية هم أتباع أبي منصور الماتريدي، وهو محمد بن محمد بن محمود السمرقندي المتكلم، المتوفى سنة 333هـ وسمي بالماتريدي نسبة إلى بلدة اسمها ماتريت أو ماتريد ؛ قرب سمرقند بـ ( بلاد ما وراء النهر ) .
والماتريدية سميت بذلك ؛ لأنها تسير على نهج الماتريدي في مسائل الاعتقاد، كما انتسب الأشاعرة إلى أبي الحسن الأشعري .
والماتريدية كالأشاعرة في غالب الأصول والسمات حيث قد استقر أمرها إلى أن صارت فرقة كلامية عقلانية، صوفية مرجئة قبورية .
وقد تدرجت إلى هذه الأوصاف على مراحل، حيث دخلها التصوف، ثم القبورية، في مراحل متتالية.
نشأتها
الماتريدية واضحة المنشأ حيث تعود أصولها إلى مؤسسها الأول أبي منصور الماتريدي الذي عاش بين القرنين الثالث والرابع الهجريين، إذ كانت وفاته سنة 333هـ على المشهور والأرجح .
وكانت الماتريدية في أول نشأتها وبعدها بمراحل مغمورة ولا تعرف إلا موطنها في بلاد ما وراء النهر، وسائر أهل المقالات الذين تحدثوا عن الفرق في عصر الماتريدي وبعده لم يتحدثوا عن الماتريدية، كالأشعري في المقالات، وهو معاصر للماتريدي، وكذلك من بعده كالبغدادي وابن حزم والشهرستاني والإسفراييني ومن عاصروهم كلهم لم يذكروا شيئاً عن الماتريدية، مع أنهم تحدثوا عن مشاهير المتكلمين المعاصرين للماتريدي ومن بعده، وكان أول من ذكر عنهم خبر ومقالة : الرازي فخر الدين المتوفى سنة 606هـ حيث أشار في كتابه ( محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ) إلى مقولتهم في ما يسمونه صفة ( التكوين ) ولم يذكرهم باسمهم إنما ذكرهم باسم الحنفية ؛ لأنهم أحناف كما هو معلوم .
ومشاهير كتاب التراجم كذلك لم يذكروا الماتريدي، إنما أشارت إليه بعض المراجع المتأخرة في تراجم الحنفية، مثل ( الجواهر المضيئة ) للقرشي، المتوفى سنة 775هـ، وترجم له بإيجاز بالغ .
وقد بدأت شهرتها حينما مكنتها ومكنت شيوخها الدولة العثمانية في العصور المتأخرة، كما أن شهرتهم وامتدادهم في البلاد التي يكثر فيها الأحناف وهي غالباً البلاد الإسلامية الأعجمية الشرقية والشمالية، وهي في البلاد العربية قليلة .
ومن اللافت للنظر أن شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – مع سعة اطلاعه وإحاطته بكثير من الفرق المشهورة والمغمورة لا نجد للماتريدية والماتريدي ذكراً عنده، إلا النزر اليسير، حين يذكر أبا منصور الماتريدي ضمن أصحاب المقالات الكلامية .
أصول الماتريدية ومنهجها في تقرير العقيدة وسماتها
أولاً : منهج التلقي ومصادره عند الماتريدية
الماتريدية كغيرهم من الفرق الكلامية لا تلتزم الوحي ( الكتاب والسنة ) في تلقي العقيدة وتقريرها، بل تجعل العقل مصدراً يعول عليه، وتقول بالمجاز في صفات الله - تعالى - ويزعمون عدم حجة خبر الآحاد في العقيدة،كما تقول الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم، وهذه الأصول جعلت الماتريدية تجانب عقيدة السلف في الصفات، وبعض أصول العقيدة الأخرى كما سيأتي بيانه .
ويتضح منهجهم هذا في تقديم العقل على الشرع ما ذهبوا إليه من أن معرفة الله تجب بالعقل قبل ورود السمع، وهم في هذا جانبوا الصواب ؛ فإن الحق أن معرفة الله – تعالى- واجبة بالعقل والشرع، ولا تستقل العقول بإيجابه كما يذهب إليه الماتريدية وغيرهم من أهل الكلام وعلى رأسهم المعتزلة .
فإن قيام الحجة أو ثبوت العقاب لا يكون إلا بعد ورود الشرع كما قال – تعالى- : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) (الإسراء : 15) .
ثانياً : الأصول العقدية التي خالفوا فيها السنة
الماتريدية كالأشاعرة خالفت السنة والسلف في كثير من أصول الاعتقاد حين سلكت المنهج الكلامي والفلسفي والعقلاني في تقرير العقيدة، ومن أهم هذه الأصول التي خالفت فيها الماتريدية :
1- ما سبق ذكره من تقديمهم للعقل وتحكيمه في تقرير التوحيد والصفات، وبعض الأصول الاعتقادية الأخرى .
2- يزعمون أن أول واجب على العبد ( المكلف ) هو النظر، تبعاً للمعتزلة والفلاسفة، ومعلوم بقواطع النصوص أن أول واجب على المكلف هو : " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله "، وأن الشهادتين متضمنة لكل ما قالوه وزيادة – والحمد لله .
3- كما أنهم نهجوا منهج الفلاسفة فيما يسمونه إثبات الصانع بدليل حدوث الأجسام، ويستخدمون ألفاظ الفلاسفة ومصطلحاتهم البدعية في تقرير التوحيد ، كالجسم والعرض والجوهر، والتي بسببها نفوا صفات الله – تعالى- لأنهم شبهوا أولاً، إذ افترضوا التشبيه، ثم لجأوا للتعطيل بالتأويل، وألجأهم لذلك جهلهم بحقيقة مذهب السلف، والتزامهم لوهميات ظنوها عقليات .
4- يسلكون منهج التأويل أو التفويض في صفات الله - تعالى - فهم في هذا الأصل العظيم مضطربون كسائر أهل الكلام ؛ ولذا فهم لا يثبتون من الصفات إلا ثمان صفات، وهي الصفات السبع التي يقول بها الأشاعرة ( العلم، والإرادة، والحياة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام ) ويزيدون عليها صفة ( التكوين )، وهذه من الصفات التي اخترعوها من عند أنفسهم .
أما بقية الصفات فلا يثبتونها كما جاءت في الكتاب والسنة، وكما كان عليه السلف الصالح بل يؤولونها، ويذهبون إلى نفي الصفات الاختيارية، ويسمون إثباتها ( حلول الحوادث به –تعالى- ) تبعاً لتوهمات الفلاسفة، والجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم .
5- كلام الله عندهم أزلي لا يتعلق بالمشيئة، وكلام الله لموسى بزعمهم إنما كان بحروف مخلوقة، وهم بذلك يوافقون المعتزلة والكلابية في نفي أن الله يتكلم متى شاء بحرف وصوت كما يليق بجلاله، وكما ثبت بالنصوص الصحيحة .
6- قولهم بالرؤية قول الشاعرة، يثبتونها بلا مقابلة بزعمهم . وقصدهم بذلك نفي الفوقية والعلو واستواء الله على عرشه ؛ لتسلم لهم قاعدتهم الفلسفية العقلانية في ذلك .
7- قولهم في الإيمان قول أهل الكلام، فالإيمان عندهم هو التصديق، ولا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، ولا يرون الاستثناء في الإيمان، وعلى هذا فهم مرجئة كسائر الأحناف والأشاعرة .
8- لمزهم للسلف : ذلكم أنه من سمات أهل الأهواء عموماً وأهل الكلام على وجه الخصوص لمز السلف وسبهم، والحط من شأنهم، واللافت للنظر أن أبا منصور الماتريدي كان شديد اللهجة على السلف، وكثير اللمز لهم كما كانت تفعل المعتزلة والجهمية، رغم أنه عاش في وقت متقدم في آخر القرن الثالث وأول الرابع ت 333هـ فكان يطلق كلمة ( الحشوية ) على أهل الحديث، كقوله : " قالت الحشوية " ، وقوله : " ثم القول وخلق الإيمان فيما بيننا وبين الحشوية "، وقوله : " ثم الحق على مذهب المعتزلة والخوارج والحشوية الاستثناء في الدين " .
9- منهج الماتريدية في التأليف في العقيدة كمنهج الأشاعرة وسائر أهل الكلام، يبدءونه بالمقدمات العقلية الفلسفية، والمصطلحات الفلسفية وإيراد الإشكالات والجواب عليها، وغاية التوحيد عندهم – في كتب العقيدة – توحيد الربوبية، وعلى العموم فإن مناهج الماتريدية وسماتها العامة لا تخرج عن مسلك الكلابية والأشاعرة، إلا أن الماتريدي أكثر توغلاً في الكلاميات والمصطلحات الفلسفية من ابن كلاب ومن الأشعري كذلك، فالماتريدية أسبق إلى المنهج الكلامي الشامل من الأشاعرة، لا كما يظن بعض الناس من أن الأشاعرة أسبق إلى ذلك من الماتريدية، لكن الأشاعرة في مراحلها الأخيرة توغلت في المناهج الكلامية والفلسفية إلى أن صارت مثل الماتريدية أو تزيد .
10- المذهب الماتريدي في العقيدة مرتبط – غالباً – بالمذهب الحنفي في الفقه، فإن الماتريدي نفسه، وكذلك تلاميذه وأتباعه وشيوخ الماتريدية كلهم أحناف، ولذا نجد لعلماء الماتريدية إسهاما كبيرا وجيدا في العلوم الأخرى : (التفسير وعلوم القرآن، والفقه وأصوله، والعربية ) .
من مشاهير الماتريدية
1- أبو منصور الماتريدي المؤسس للمذهب ت 333هـ وأهم مصنف له في تقرير مذهبه كتابه : ( التوحيد ) وهو أهم مرجع في عقيدة الماتريدية، ويقوم على اعتماد المذهب الكلامي في تقرير العقيدة .
2- أبو اليسر محمد بن محمد البزودي ت 492هـ شيخ الحنفية، وهو في العقيدة على منهج الماتريدي كما قرأ كتب الأشعري وأفاد منها، وقرأ كتب الفلاسفة، وحذر منها، وكذلك كتب المعتزلة، وقد ألف كتابه ( أصول الدين ) على منهج الماتريدي .
3- أبو المعين النسفي ت 508هـ وهو من أكابر علماء الماتريدية الأحناف الذين نصروا المذهب، وكتابه : (تبصرة الأدلة في عقيدة الماتريدية ) يعد الكتاب الثاني بعد ( التوحيد ) للماتريدي .
4- أبو حفص نجم الدين النسفي ت 537هـ وهو من المؤلفين المكثرين، وصاحب ( العقائد النسفية ) من أهم المتون في مذهب الماتريدية .
5- نور الدين أحمد بن أبي بكر الصابوني ت 580هـ له مناظرات مع فخر الدين الرازي في نصرة مذهب الماتريدية .
6- الكمال بن الهمام ت 861هـ من أكابر الماتريدية، وله مؤلفات جيدة في الفقه وأصوله والعقيدة، من أشهرها : المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة ) .
7- ملا علي القاري ت 1014هـ وهو من المكثرين في التأليف، وله اهتمام في الحديث، ومن المنصفين لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والمدافعين عنهما .
8- عبد الرحيم شيخ زادة ت 1133هـ .
9- محمد زاهد الكوثري ت 1371هـ وكان الكوثري سباباً للسلف، شديد الطعن والثلب فيهم، وله اهتمام بالحديث وتحقيق المخطوطات، لكنه جعل ذلك ذريعة للطعن في علماء الأمة، والتشكيك بمناهج السلف، وتعميق الخلاف بين السلف وبين الماتريدية، وظهرت على منهجه هذا جماعات ومدارس واتجاهات معاصرة حادة تتنكر للسنة وأهلها بل تحاربهم – وحسبنا الله ونعم الوكيل - .
المفضلات