نبذة عن علم من أعلام اللغة العربية :

الثعالبي
(( أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي ، يشاركه في نسبته رهط من الأعلام ، ولكن يبدو أنه كان أشهرهم ، فهو الوحيد الذي قد يكتفي المصنفون بذكر نسبته دون اسمه عند الحديث عنه لاطمئنانهم إلى أن الذهن لا ينصرف إلى غيره عند ذكر هذه النسبة ، بيد أن الأمر انتهى أحياناً إلى ضروب من الخلط ، فنسبت إليه كتب هي لغيره ممن تنتهي أسماؤهم بالنسبة نفسها .
ولد الثعالبي في نيسابور سنة خمسين وثلاثمائة للهجرة ، ويرجح الظن أنه من أصل عربي ، وكانت ولادته في أسرة رقيقة الحال تكسب رزقها من خياطة جلود الثعالب ، ولقد دفعت به أسرته إلى كتاتيب نيسابور فلما تخرج فيها رأى أن ينسلخ من مهنة أسرته ، ليلج عالم المعرفة الذي استهواه ، فتلمذ لأبي بكر الخوارزمي ، ثم اشتغل بمهنة التأديب ، وظل شغفه بالعلم يدفعه إلى الاستزادة ، فكان له من رعاية آل ميكال وتشجيعهم ما أعانه على ذلك ، حتى أن الأمير أبا الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي فتح له قلبه ومكتبته طوال خمسين عاماً أو يزيد ، شاركه خلالها في تأليف كتاب ( المنتحل ) المطبوع باسم الثعالبي ، ومدّ له يد العون في تأليف كتابه ( يتيمة الدهر ) ، وقد وفى الثعالبي بعض فضل الأمير بأن ألف في المرحلة الأولى من علاقتهما كتابين هما : ( خصائص البلدان ) ، و ( فضل من اسمه الفضل ) .
وعن طريق آل ميكال عرف الثعالبي نخبة من علماء نيسابور والطارئين عليها ، واغترف من معارفهم ، حتى استوى له ما أراد لنفسه من نضج وسعة اطلاع ، فقصد بخارى وهو في الثلاثين من عمره ، حيث بلاط السامانيين ، ولكن اضطراب الأمور هناك لم يتح له مجال ارتياد بلاط الأمير نوح بن منصور الساماني ، فما كان إلا أن عاد إلى نيسابور صفر اليدين ، وفي نيسابور لقي بديع الزمان الهمذاني الذي كان قد انتجع نيسابور في فترة غياب الثعالبي عنها ، وتتوطد بين الرجلين علاقة متينة لا تنتهي إلا برحيل الهمذاني عن نيسابور ، فيعكف الثعالبي على تأليف أهم مصنفاته: (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر)، وتكون ( اليتيمة ) سبباً في شهرته وتسامع الأمراء والأعيان به ، فيستدعيه الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير إلى جرجان ، فيشد الرحال إليها لينزل على الأمير ويمدحه بميمية رائعة مطلعها :
الفتح منتظم والدهر مبتسم وظل شمس المعالي كله نعمُ
ويصنف الثعالبي للأمير كتاب ( المبهج ) ثم يعود إلى نيسابور ليتصل بأميرها الشاب أبي المظفر نصر بن ناصر الدين سبكتكين أخي السلطان أبي القاسم محمود بن سبكتكين ونائبه على نيسابور ، وليمدحه ببعض شعره ، ويؤلف له كتاب ( الاقتباس ) ولكن الأمير لا يلبث أن يغادر نيسابور ليدخلها الترك .
وفي سنة 400 هـ يحل القحط بنيسابور ، فيرحل الثعالبي إلى إسفرائين لينزل على زعيمها أبي العباس الفضل بن علي الإسفرائيني ، وينعم بكرمه ، ويلتقي بأعيان الأدباء في قصره ، ومن إسفرائين كانت سفرته الثانية إلى جرجان حيث قدم للأمير قابوس بن وشمكير كتابه ( التمثيل والمحاضرة ) ، وأعاد كتابة يتيمة الدهر بعد تنقيحها والإضافة إليها ، ثم رحل إلى الجرجانية ، حيث نزل على الأمير مأمون بن مأمون خوارزمشاه والتقى في بلاطه بأجلّ علماء العصر كأبي علي بن سينا ، وأبي الريحان البيروني ، وعكف الثعالبي على تأليف كتبه ( الملوكي ) و ( المشرق ) و ( الظرائف واللطائف ) و ( نثر النظم ) وأعاد كتابة ( الكناية والتعريض ) باسم جديد هو ( النهاية في الكناية ) وأهدى هذه الكتب كلها للأمير خوارزمشاه ، ثم ألف ( تحفة الوزراء ) و ( أحسن ما سمعت ) وأهداهما إلى وزيره أبي عبد الله محمد بن حامد الحمدوني ، ثم شدّ الرحال إلى غزنة قبل سنة سبع وأربعمائة .
وفي بلاط الأمير محمود بن سبكتكين حيث اجتمع علماء العصر كالبيروني الذي استدعاه السلطان من الجرجانية ، والفردوسي ، يمدح الثعالبي السلطان ببعض شعره ، ويهدي إليه كتابه ( لطائف المعارف ) ، ولكنه لا يجد لديه ما يشجعه على الاستمرار ، فيعود إلى أخيه أبي المظفر الذي كان في غزنة آنذاك ، فيكتب له كتابه ( يواقيت المواقيت ) ثم يشفعه بكتاب ضخم يسميه ( غرر أخبار ملوك الفرس وسيرهم ) ، ثم يلتقي بأعيان غزنة ، كالعميد أبي منصور بن مشكان ، والشيخ أبي الحسن بن محمد بن عيسى الكرجي الذي أهداه كتابه ( تحسين القبيح وتقبيح الحسن ) ، والقاضي أبي الحسن المؤمل خليل بن أحمد .

ويقضي الثعالبي ما يقرب من خمس سنوات في غزنة ، فلا يشد الرحال إلا بعد وفاة الأمير أبي المظفر ، وفي طريقه إلى نيسابور يمر بهراة ليؤلف للقاضي أبي أحمد منصور بن محمد الهروي الأزدي كتابيه ( اللطيف في الطيب ) و ( الإيجاز والإعجاز ) .
وفي نيسابور يلقي الثعالبي عصا الترحال بعد تنقل دام أربعين عاماً ، وينصرف بعد أن يستقر أمره في نيسابور إلى التأليف ، فيكتب لصديقه القديم أبي الفضل الميكالي كتابه (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب ) ثم كتابه ( فقه اللغة وسر العربية ) .
ويتولى سهل الحمدوني خراسان من قبل السلطان مسعود بن السلطان محمود الغزنوي سنة 422 هـ ، وقد كان الثعالبي أهدى له النسخة الأولى من كتابه ( سحر البلاغة ) ، فكانت ولايته على خراسان سبيلاً لتجديد العهد حيث ألف له كتابه ( برد الأكباد في الأعداد ) وكتابه ( مرآة المروءات ) .
وفي سنة 424 هـ يرد السلطان مسعود الغزنوي خراسان قاصداً بغداد ، فيقيم مدة في نيسابور مع وجوه دولته ، فيعيد الثعالبي صلاته القديمة بهم ، لا سيما الشيخ العارضي أبي الحسن مسافر بن الحسن ، الذي يؤلف له كتابه ( خاص الخاص ) ، وأبي الفتح الحسن بن إبراهيم الصيمري الذي يختصر له كتابه ( فقه اللغة ) في كراس يسميه ( خصائص اللغة )، والشيخ أبي الحسن محمد بن عيسى الكرجي الذي يهدي له مسودة كتابه ( تتمة اليتيمة ) وقد أعجله السفر .
ويرحل السلطان مسعود مع حاشيته ، فيعكف الثعالبي على تنقيح ( تتمة اليتيمة ) ، ويستغرق هذا العمل السنوات التي بقيت من عمره ، وتكون وفاته سنة 429 هـ .
...
ويتفاوت المحدثون في القوائم التي قدموها بأسماء كتب الثعالبي لا سيما محققو كتبه ، فقد قدم محقق ( التمثيل والمحاضرة ) قائمة بأسماء أربعة وأربعين كتاباً ، وقدم محققا (لطائف المعارف) قائمة بأسماء ستة وثمانين كتاباً ، وقدم محققا (تحفة الوزراء) قائمة بأسماء تسعة وعشرين كتاباً مطبوعاً واثنين وسبعين كتاباً مخطوطاً ومفقوداً معتمدين على قائمتي التمثيل والمحاضرة ولطائف المعارف ، وكنت قد تصديت لدراسة مفصلة عن الثعالبي، فتابعت المخطوط والمطبوع والمفقود ، ودرست مناهج المطبوع والمخطوط ، ثم صححت أوهاماً في نسبة بعض الكتب إليه فبلغ مجموعة ما ذكرته في قائمتي مائة وستة كتب ، وعلى الرغم من ذلك كله فإنني أظنّ أن مكتبة الثعالبي بحاجة إلى دراسة متجددة في ضوء ما تكشف عنه الأيام مما ضاع من تراثنا القديم . )) .

المصدر :
مقدمة اللطف واللطائف : ص 5-9 . تحقيق : د. محمود عبد الله الجادر . دار الشؤون الثقافية العامة . بغداد . الطبعة الثانية / 2002م .