النتائج 1 إلى 6 من 15

الموضوع: أيام من حياتي

مشاهدة المواضيع

المشاركة السابقة المشاركة السابقة   المشاركة التالية المشاركة التالية
  1. #6
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية موسى بن ربيع البلوي
    تاريخ التسجيل
    24 - 10 - 2001
    الدولة
    السعودية
    المشاركات
    26,570
    مقالات المدونة
    19
    معدل تقييم المستوى
    906

    افتراضي



    ذكريات الطفولة تتضح معالمها مع دخولي المدرسة الابتدائية ألحقني أبي مع أخي أسامه بالمدرسة العزيزية الابتدائية ، و كانت تقوم في بيت من بيوت مكة القديمة إلى جوار الحرم الفصول صغيرة ، و الطلاب جلوس على بسط مدت على الأرض .

    مازلت أذكر أول درس لي في المدرسة و أنا أردد مع الصبية وراء المدرس ( خط أفقي .. خط رأسي .. خط منحني ) و المدرس يمسك بعصى طولها متران تضمن الهدوء و المثابرة و الجدية ، يشير بها إلى خطوط رسمها على السبورة .

    ارسم في دفتري الخطوط الرأسية و الأفقية و المنحنية بيد خائفة مرتعشة ، و عقلي لا يستطيع إدراك العلاقة بين هذه الخطوط و متطلباتي الشخصية ، فانا أريد أن ألهو و العب ، و المدرس يأمرني أن أردد دون وعي ( خط أفقي .. خط رأسي .. خط منحني )كان يوماً عصيباً قررت في نهايته أن أقف عند هذا الحد من التعليم .
    عدت بقراري إلى والدتي ، فهدأت من روعي ، و ذكرتني أن أمام رغبتي هذه عقبات تنهد لها الجبال ، أهمها غضبة والدي ، و استسلمت لواقع الأمر بدليل أني أكملت الشوط .
    و يوم أن أتيح لي أن ازور مدرسة أمريكية بعد ربع قرن ، وجدت الصغار يسرحون و يمرحون في قاعة فسيحة تضم في جنباتها عشرا المناشط مثل :الرسم ، و الموسيقى ، و الرياضة ، و النحت و الألعاب الكهربائية .
    كل طفل يتجه إلى النشاط الذي يرغبه و يشد انتباهه و تكتفي المعلمة بمتابعة الأطفال و تشجيعهم و إيضاح ما غمض عليهم ، ما ملكت إلا أن آسى على الوقت الذي قضيته في الحفظ و الاستظهار .
    هل تراني مغالياً في رأيي ؟
    ألا يحق لي أن أقول : إن مدرستنا تلك التي علمتنا الخطوط المستقيمة و المنحنية خرجت رجالا أثروا الحياة من حولهم ؟
    ترى هل العبرة في نظام التعليم أو بالقائمين عليه ؟
    ترى هل الأمر رهين ببيئة المدرسة وحدها أو هي المدرسة و البيت و الشارع ؟
    أسئلة لا شك أن المربين استهلكوها بحثاً .
    و مع هذا فلو خيرت اليوم ، لما اخترت بديلاً للصالة الواسعة التي يمارس فيها الطفل هواياته و ينمي مداركه .
    مازلت اذكر بالخير كثيراً من أساتذتي ممن كان لهم الفضل في تعليمي و تنشئتي في المدرسة الابتدائية .عبد الله باروم مدرس اللغة العربية ، و حسن ميمش يتدرج بنا في مبادئ القواعد فيقص علينا ( قصة كان و أخواتها ) الذين ضربوا بعصيهم المعقوفة ( الضمة ) إن و أخواتها فشجوا رؤوسهم ( الفتحة ) . و عبد الله مرزا يدرسنا الجغرافيا أو ( تقويم البلدان ) و محمد ساعاتي يدرسنا الحساب ، و محمد مرداد القرآن الكريم .
    رحم الله من توفي منهم و أسبغ لباس الصحة و العافية على من بقي منهم على قيد الحياة ، و جزاهم الله أحسن الجزاء على ما بذلوا في تربيتنا من جهد ، كل بطريقته الخاصة ، غلب عليهم التفاني في عمله و كانت الشدة أسلوبهم ، اعتقاداً منهم بأنها الوسيلة المثلى للتربية .
    مدير المدرسة الأستاذ علوي شطا رجل مهيب ، أعطاه الله بسطة في العلم و الجسم ، يفاجئنا و نحن بضع مئات من التلاميذ محشورين في بهو المدرسة في وقت الفسحة ، و صخبنا يرتفع إلى عنان السماء فإذا ما أهل علينا المدير تخافتت أصوتنا حتى تنتهي إلى صمت مطبق ، لو ألقيت إبرة على الأرض لسمعت رنينها .
    ما زلت حتى اليوم أتسأل ترى أين هو الخط الفاصل بين الشدة و اللين ؟ بين تهيئة الأطفال للتعبير عن أنفسهم ، و فرض طقوس الاحترام عليهم حتى لا يكاد أحدهم ينطق ببنت شفة .
    أعود إلى بيتنا المكي القديم ، ما زالت صورته ماثلة في ذاكرتي تدلف إليه عبر زقاق ترابي ملتو تحيط به البيوت من جانبيه ، حتى إذا شارفت نهايته تبدت لك ساحة صغيرة يطل عليها بيتنا الذي يرتفع خمسة طوابق ، تبدأ من ( المقعد ) في أسفل البيت و تنتهي بالسطوح و ( الطريمة ) في أعلاه مروراً ( بالصفة ) و (المجلس ) .
    عبر مئات السنين تشكل تصميم البيت و بناءه ليتلاءم مع ظروف البيئة ، و ثقافة المجتمع يجمع تحت سقفه الآباء و الأبناء و الأحفاد ، للرجال حياتهم الخاصة و للنساء و الأطفال عالمهم ، فإذا ما شب الأطفال الذكور عن الطوق انضموا تدريجياً إلى عالم الرجال .
    كان والدي رحمه الله مطوفاً ، لا يتجاوز عدد حجاجه من المصريين و السودانيين في موسم الحج المائة ، شأن أواسط المطوفين ، و حتى يستقطب حجاجه كان يسافر إليهم في صعيد مصر في كل عام شهراً أو يزيد ، يجوب الأرياف و القرى يدعو لنفسه .
    موسم الحج موسم خير و بركة بل هو موسم حياة لأهالي مكة ، و بخاصة المطوفين و الزمازمة و غيرهم ممن تتصل حياتهم و أسباب رزقهم بموسم الحج ، ملئ بالإثارة و المتعة الروحية .
    يهل علينا الموسم في كل عام ، فتبدأ بشائره بالبرقيات تصل من وكيلنا في جدة . ( وصلت الباخرة تالودي و لكم فيها عشرة حجاج من صعيد مصر ) و تبدأ استعداداتنا في البيت للحجاج القادمين ، نستقبلهم على مشارف مكة ، نستضيفهم على الغداء أو العشاء ، و نرتب لهم مكان إقامتهم ثم نأخذهم إلى طواف القدوم و سعيه .
    و بمضي الأيام يمتلئ البيت بضيوف الرحمن و يتشكل برنامج يومي لهم ، الصلوات الخمس في المسجد الحرام ، و من بعد صلاة العشاء تهيأ الساحة أمام البيت لسمر الحجاج .
    ترش بالماء و تضاف الأتاريك العلاقي ( مصابيح الغاز ) ، و ترص على جنباتها الكراسي الشريط ، و يتوافد الحجاج من الحرم لقضاء السهرة ، فيهم العالم و المثقف و الداعية .
    تدور في مجلسهم أحاديث ممتعة ، تجمع بين الدين و الثقافة و الاجتماع . أتابع بعضها و يغلق على فهمي البعض الآخر .
    لعل رغبتي المبكرة في أن أعمل حلاقاً مبعثها الحاج الذي كان يحلق للحجاج رؤوسهم ، جعبته لا تنتهي من الحكايات و النوادر و الروايات و أنا ألازمه كظله ، أتابع بشغف حكاياته التي لا تنتهي .
    لا ينكر الفضل لأصحابه إلا جاحد . الإخوة المصريون لهم فضل علينا بما أثرونا به من ثقافة و علم و أدب ، سواء عن طريق الحجاج و المدرسين ، أو من خلال الكتب و الصحف و المجلات التي تتلمذنا و تتلمذ آباؤنا عليها .
    من خلال الحجاج المصريين تعرفنا على الخضروات و الفواكه المحفوظة ماركة ( قها ) ، كما تذوقنا أول مياه غازية ، و أول شوكولاته فاخرة .
    و في إحدى سفراته الموسمية إلى مصر اشترك لنا والدي في مجلة الكتكوت ، فكانت أول مجلة للأطفال نقرؤها فتثير مخيلتنا بما فيها من قصص و رسوم و صور .
    رعى الله تلك الأيام ببساطتها و عفويتها ، و بالروابط الإنسانية التي كانت تربط المطوف بحجاج بيت الله . و عندما هنأت الصديق الأستاذ / إياد مدني على تعيينه وزيراً للحج ، رجوته أن يعيد لنا تلك الأيام الخوالي يوم كنا و حجاجنا أسرة واحدة مترابطة ، فوعدني خيراً شرط أن يعود المجتمع إلى ما كان عله .
    كان الحج مثار متعة روحية ، و حياة اجتماعية حافلة ، بيد أن والدي رحمه الله كان يرهقه اضطراره إلى ممالأة الحجاج على مختلف مشاربهم و أهواهم ، و السعي إلى إرضاؤهم بحق و بغير حق ، مما يتعارض مع ما فطر عليه من طبيعة قيادية .

    و في إحدى السنوات مع بداية الخمسينيات الميلادية بلغ السيل الزبى و طفح الكيل بالوالد ...!!!

    نكمل غداً بإذن الله

    التعديل الأخير تم بواسطة موسى بن ربيع البلوي ; 03-13-2006 الساعة 09:55 PM
    أنصر نبيك
    .
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    الإثنين 27محرم 1429هـ
    .



معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
هذا الموقع برعاية
شبكة الوتين
تابعونا