النتائج 1 إلى 6 من 15

الموضوع: أيام من حياتي

مشاهدة المواضيع

المشاركة السابقة المشاركة السابقة   المشاركة التالية المشاركة التالية
  1. #8
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية موسى بن ربيع البلوي
    تاريخ التسجيل
    24 - 10 - 2001
    الدولة
    السعودية
    المشاركات
    26,570
    مقالات المدونة
    19
    معدل تقييم المستوى
    906

    افتراضي



    و في إحدى السنوات مع بداية الخمسينيات الميلادية بلغ السيل الزبى و طفح الكيل بالوالد . في ذلك الموسم جاءتنا مجموعة من الحجاج كان لبعض أفرادها آراء محددة في شعائر الحج لا تقبل النقاش ، و اشتراطات لا يسهل تلبيتها . و بلغ الاختلاف في وجهات النظر حداً أدى بالوالد إلى أن يعلن لحجاجه بأنه تارك للطوافة إلى الأبد ، و على الحاضر أن يعلم الغائب بهذا القرار و قبل أن يعلن عن قراره ذلك جمعنا ، أسامه و هو ابن اثني عشر عاماً و أنا بعد في العاشرة ، لكي يأخذ رأينا في قراره حتى لا يقول أحدنا فيما بعد إننا حرمنا من الطوافة و ما تحمله من رزق .

    قبل وفاة الوالد سألته عن شعوره إثر اعتزاله الطوافة ، و هو يرى موسم الحج يموج بالحركة و النشاط .قال : إنه كان شعوراً ممضاً تغلب عليه بالانكباب على تأليف كتابه ( تاريخ مكة ) .

    حديث الذكريات يجرني إلى الحديث عن ملامح المجتمع المكي قبل نصف قرن ، كانت الحياة امتداد طبيعياً لمئات خلت من السنين ، البيت الكبير الذي يضم بين جنباته أكثر من جيل ، و الروابط الأسرية القوية ، و الحياة البسيطة التي لم تعرف بعد الكهرباء و روافدها ، و فجأة تبدأ عجلت التغيير في الدوران ، ببطء في البداية ثم يتسارع إيقاعها . تدخل الكهرباء فتغير وجه الحياة ، و تسهم وسائل النقل الحديث في وصل مجتمع مكة التقليدي بالمجتمعات الأخرى المحيطة به .ويتسع العمران في أرجاء المملكة و تنداح دائرته ، و ينزح أبناء مكة إلى حيث أسباب الرزق .
    قبل أن تتسارع عجلة التغيير كنا نعيش كما عاش أجدادنا و آباؤهم ، تضيء أمسياتنا الثريات ، و الفوانيس و الاتاريك ، و نعد طعامنا على مواقد الفحم و الغاز و نجلب الماء إلى بيوتنا في قرب السقاءين و صفائحهم و نتبرد في أيام الصيف القائظ بالشراشف نبللها بالماء و نلتحف بها .
    أمسيات الصيف الحارة نقضيها على الأسطح ، و قد يخرج الرجال إلى ضواحي مكة للسهر و المبيت .
    درجنا على أن نتحسر على الأيام الخالية ، و قد يعزو البعض ذلك إلى حنين الإنسان إلى ماضيه . و لكني أضيف بان أيام زمان كان لها طعم و لون و رائحة .
    كان سكان الحي أكثر تآلفاً مما عليه اليوم ، أذكر عندما انتقلنا من بيتنا في حارة الشامية إلى بين آخر في قاعة الشفا أننا أمضينا أياماً لا نوقد في بيتنا ناراً لإعداد الطعام ، فقد كان الجيران يتناوبون إرسال الطعام إلينا .و أرانا اليوم نسكن الحي من أحياء المدينة فيمضي الشهر و يتلوه شهراً آخر و الجار لا يكاد يعرف جاره ، فالكل مشغول بنفسه .
    كان أصدقاء الوالد ( البشكة ) يمضون أمسياتهم في بيتنا ، جلسات سمر تزخر بأحاديث الأدب و الشعر و قضايا المجتمع ، و لا ينقضي الشهر إلا وقد أجمعوا أمره على ( خرجة ) إلى ضاحية من ضواحي مكة يمضون فيها الليلة و الليلتين . و نحن الصغار في ركابهم .كم شهدت حدة و بحرة و وادي فاطمة و الجموم و الخرار ، من ليالي السمر . و كم صدحت في جنباتها الآنسة، و إذا قيل الآنسة فهي أم كلثوم في حفلاتها الشهرية .
    كانت ( بشكة ) الوالد يتميز أفرادها بشيء غير قليل من الثقافة العامة و الاهتمام بشؤون الأدب و الفكر ، فكانت مناقشاتهم تثير مخيلاتنا نحن الصغار ، فإذا فرغوا منها التفوا حول نديم لهم يضفي على مجلسهم ألوناً من الفكاهة و المرح ، نديم ( البشكة ) الشيخ أحمد البصام أعجوبة عصره في خفة ظله و قدرته على التمثيل و المحاكاة و رواية الحكايات و النوادر و الطرف ، موهبة فطرية لا أخالها تتوفر في أكثر الفنانين المعاصرين ، زرته و أخي أسامة قبل سنوات و قد تجاوز الثمانين من العمر ، فأمضينا معه ساعة من زمن نستمع إلى رواياته و حكاياته و كأننا في عالمٍ مسحور .
    أحد وسائل الترفيه في هذه الأمسيات كانت السينما شبه الصامتة ، ذلك أن الفلم تنصب لعرضه ملاءة بيضاء ، و آلة العرض تعمل على موتور كهربائي متهافت ، يكفي لعرض الصورة أو إبراز الصوت ، و يقع الاختيار على الصورة فيستمتع الجمع بلون من ألوان السينما الصامتة .
    تهل علينا أيام عيد الفطر و نحن صبية صغار فنروح نزهو كالطواويس بثيابنا الجديدة ، نزور مع أبائنا بيوت الأقارب و الجيران و كل سنة و انتم طيبون . مهمة ثقيلة لا يخفف منها إلا ما نحشو به جيوبنا من حلويات و قروش العيدية ، فإذا إذن لنا انفلتنا مسرعين إلى برحة أبن عباس أو برحة القزاز في الطائف ، نصرف قروشنا تلك التي جمعناها على ( المدارية ) و ( المراجيح ) و ( الطراطيع ) .
    أنظر اليوم إلى أعيادنا و قد استبدلنا بالزيارات المحادثات التليفونية و بطاقات المعايدة و الفاكسات و أخيراً الرسائل الالكترونية . و أنظر فأرى أطفالنا متقرفصين بالساعات أمام الفضائيات و الانترنت تنقلهم إلى عوالم من حيال بعيداً عن التآلف الاجتماعي الذي كانت تتيحه لنا ( أيام زمان ) .
    أيام الزفاف مناسبات يلتقي فيه الأهل و الجيران و الأصدقاء . الساحة أمام البيت تصطخب بالحركة و الحياة . في طرف منها يجمع ( الرفد ) من الخرفان و أكياس الرز و الدقيق و صناديق الشاي ، هدايا الأهل و الخلان . و في الطرف الآخر ينصب الطباخ و مساعدوه أدواتهم يعدون ولائم العرس . و البيت تتلألأ غرفة و أبهاؤه بالأتاريك العلاقي أو لمبات الكهرباء و الأطفال يتسابقون و الكبار يتسامرون .
    و اليوم ألقت صالات الأفراح و الفنادق بظلالها على هذه الصورة الحية النابضة و حولت ليالي الفرح إلى لقاء ، فعشاء ، فوداع .
    مرة أخرى لست أفاضل ، و لكني أعود فأقول إن ( أيام زمان ) كان فيها عطر و مذاق جميلان .
    انتقل إلى جانب آخر من جوانب الحياة أيام زمان . الراديو ( أبو بطارية ) بدأ يدخل بيوتنا على استحياء ، ثم أصبح له مركز الصدارة .
    حوله تتحلق الأسرة و يرهف له الكبار السمع ، عل بيتنا كان من أوائل البيوت التي أدخلت الراديو في مكة . إذ كان والدي يستعين به في تسجيل نشرات الأخبار تلقى بالسرعة الإملائية فينقلها إلى صحيفته صوت الحجاز .
    نشأت في بيت فيه مكتبة حافلة ، فكان من البديهي أن أغدو ( دودة كتب ) غذى الوالد رحمه الله نزعة القراءة و اقتناء الكتب فيّ و في أخي أسامه ابتكر لنا حصالات من صناديق صغيرة ندخر فيها القرش و القرشين من مصروفنا اليومي ، نصرفها في نهاية الشهر في شراء كتاب .لم يكن الوالد يهتم بواجباتنا المدرسية اهتمامه بقراءتنا ، و عله يعكس في ذلك تجربته الشخصية ، فدراسته لم تتعدى الابتدائية ن و لكنه ربى نفسه و ثقفها بالقراءة الحرة .كان يشرف على قراءتنا و يوجهها ، و يعنى بشرح ما غمض علينا منها ، كما كان يشجعنا على الكتابة و يصحح أخطاءنا فيها . لم يتردد قط في إعطائنا ما يزيد عن مصروفنا اليومي لشراء كتاب . المرة الوحيدة التي لم يشجعني فيها على شراء كتاب عندما عرف أنه ( بدائع الزهور في وقائع الدهور ) و عندما قرأت الكتاب بعد سنوات وجدته مليئاً بالخزعبلات و الأساطير فعذرت الوالد .
    مع نهاية الدراسة الابتدائية كنت قد قرأت روايات تاريخ الإسلام لجورجي زيدان ، و عدداً لا بأس به من البطولات الأسطورية لعنترة بن شداد ، و سيف بن ذي يزن و الأميرة ذات الهمة . كانت الحكاية تستغرقني و تأخذني معها إلى عالم مسحور من الخيال فأغيب فيه عن الواقع .
    بطلي المفضل كان فيروز شاه بن الملك ضاراب . كيف لا و هو يتصدى وحده للجيش اللجب فيفنيه عن آخر ، و إذا نزل بسيفه على عدوه شطره و فرسه إلى نصفين . و لم تكن حبيبته عين الحياة لتقل عنه شجاعة و إقداماً ، فوحدها كانت تتصدى لمائة رجل أو يزيدون مدججين بالسلاح .
    في الستينات الميلادية عثرت على نسخه من هذه الملحمة الأسطورية في القسم العربي بمكتبة ميونخ في ألمانيا ، فاستعرتها و حاولت أن أسترجع طفولتي بقراءتها ، و اعترف بأني عجزت عن الاستمرار في القراءة بعد الصفحات الأولى ، فقد صدمني اللامعقول .
    في مرحلة تالية انتقلت إلى روايات الجيب و عشت مع أبطالها ردحاً من الزمن ، يأتي على رأسهم أرسين لوبين اللص الظريف الذي يأخذ من الأغنياء ليعطي الفقراء . روبين هود العصر الحديث . كم كان يثير خيالي باقتحاماته و جراءته و شجاعته ، و علّي كنت أعوض هزالي و ضعفي البدني يوم ذاك بما كان يتميز به الأبطال الأسطوريون من قوة و اقتحام .
    كانت القراءة السمة الغالبة بين الفتية في جيلي ، هي ملهاتنا و تسليتنا ، تجمعنا منتديات و لقاءات يأتي على رأسها المسامرات الأدبية تعقد مساء كل خميس بعد صلاة المغرب في مدرسة تحضير البعثات ، يتبارى فيها المدرسون و الطلاب في تقديم المسرحيات و إلقاء الأشعار ز الأزجال و الخطب .
    و إلى جانب المسامرات الأدبية كانت تجمعنا ندوات سندباد . لا أدري كيف بدأت فكرتها ، و لكننا وجدناها و قد انتشرت في كل حي م أحياء مكة ، يجتمع في منتدياتها الصبية و الفتيان يتحاورون و يتساجلون ويتبارون في إلقاء الخطب و عرض مسرحيات بدائية ينقصها التوجيه .

    يتبع ...

    التعديل الأخير تم بواسطة موسى بن ربيع البلوي ; 03-14-2006 الساعة 11:36 PM
    أنصر نبيك
    .
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    الإثنين 27محرم 1429هـ
    .



معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
هذا الموقع برعاية
شبكة الوتين
تابعونا