<div align="center">بسم الله الرحمن الرحيم


الحديث الأول





عَنْ أَمِيرِ المُؤمِنينَ أَبي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ تعالى عنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُوله فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُوله، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا، أَو امْرأَة يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ.
رواه إماما المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَهْ البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجَّاج بن مسلم القشيري النيسابوري، في صحيحيهما اللَذين هما أصح الكتب المصنفة
.

الشرح

(عَنْ أَمِيرِ المُؤمِنينَ)
وهو أبو حفص عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، آلت إليه الخلافة بتعيين أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - له، ولقد أحسن أبو بكر اختيارًا حيث اختار عمر بن الخطاب.

وفي قوله (سَمِعْتُ)
دليل على أنه أخذه من النبي - عليه الصلاة والسلام- بلا واسطة. والعجب أن هذا الحديث لم يروه عن رسول الله إلا عمر مع أهميته، لكن له شواهد في القرآن والسنة.
ففي القرآن يقول الله تعالى:"وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ " فهذه نية، وقوله تعالى:"مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا" وهذه نيّة. وقال النبي - عليه الصلاة والسلام- لسعد بن أبي وقاص: (وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِيْ بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلَهُ فِي فِيّ امْرَأَتِك)، فقوله: تَبْتَغِي بِها وَجْهَ اللهِ فهذه نية، فالمهم أن معنى الحديث ثابت بالقرآن والسنة. ولفظ الحديث انفرد به عمر، لكن تلقته الأمة بالقبول التام، حتى إن البخاري -رحمه الله- صدر كتابه الصحيح بهذا الحديث.

قوله: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)
فقوله: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) فيه من أوجه البلاغة الحصر، لأن (إنما) تفيد الحصر، فإذا قلت: زيد قائم فهذا ليس فيه حصر، وإذا قلت: إنما زيد قائم، فهذا فيه حصر وأنه ليس إلا قائمًا. وكذلك قوله: (وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى).
الأعمال: جمع عمل، ويشمل أعمال القلوب وأعمال النطق، وأعمال الجوارح، فتشمل هذه الجملة الأعمال بأنواعها.

فالأعمال القلبية:
ما في القلب من الأعمال: كالتوكل على الله، والإنابة إليه، والخشية منه وما أشبه ذلك.

والأعمال النطقية:
ما ينطق به اللسان، وما أكثر أقوال اللسان، ولا أعلم شيئاً من الجوارح أكثر عملاً من اللسان، اللهم إلا أن تكون العين أو الأذن.

والأعمال الجوارحية:
أعمال اليدين والرجلين وما أشبه ذلك.

الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ النيات:
جمع نية وهي: القصد. وشرعًا: العزم على فعل العبادة تقرّبًا إلى الله تعالى، ومحلها القلب، فهي عمل قلبي ولا تعلق للجوارح بها.
واعلم أن النية محلها القلب، ولا يُنْطَقُ بها إطلاقًا،لأنك تتعبّد لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والله تعالى عليم بما في قلوب عباده، ولست تريد أن تقوم بين يدي من لا يعلم حتى تقول أتكلم بما أنوي ليعلم به، إنما تريد أن تقف بين يدي من يعلم ما توسوس به نفسك ويعلم متقلّبك وماضيك، وحاضرك. ولهذا لم يَرِدْ عن رسول الله ولاعن أصحابه رضوان الله عليهم أنهم كانوا يتلفّظون بالنيّة ولهذا فالنّطق بها بدعة يُنهى عنه سرًا أو جهرًا.

وهناك قصة على هذا:
يُذكر أن عاميًا من أهل نجد كان في المسجد الحرام أراد أن يصلي صلاة الظهر وإلى جانبه رجل لا يعرف إلا الجهر بالنيّة، ولما أقيمت صلاة الظهر قال الرجل الذي كان ينطق بالنية: اللهم إني نويت أن أصلي صلاة الظهر، أربع ركعات لله تعالى، خلف إمام المسجد الحرام، ولما أراد أن يكبّر قال له العامي: اصبر يا رجل، بقي عليك التاريخ واليوم والشهر والسنة، فتعجّب الرجل.

وهنا مسألة:
اذا قال قائل: قول المُلَبِّي: لبّيك اللهم عمرة، ولبيك حجًا، ولبّيك اللهم عمرة وحجًا، أليس هذا نطقًا بالنّية؟
فالجواب:
لا، هذا من إظهار شعيرة النُّسك، ولهذا قال بعض العلماء: إن التلبية في النسك كتكبيرة الإحرام في الصلاة، فإذا لم تلبِّ لم ينعقد الإحرام، كما أنه لو لم تكبر تكبيرة الإحرام للصلاة ما انعقدت صلاتك. ولهذا ليس من السنّة أن نقول ما قاله بعضهم: اللهم إني أريد نسك العمرة، أو أريد الحج فيسّره لي، لأن هذا ذكر يحتاج إلى دليل ولا دليل.


قوله: (وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى).
والمقصود من هذه النية تمييز العادات من العبادات، وتمييز العبادات بعضها من بعض.

*وتمييز العادات من العبادات مثاله:
- الرجل يأكل الطعام شهوة فقط، والرجل الآخر يأكل الطعام امتثالاً لأمر الله تعالى في قوله: "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا"، فصار أكل الثاني عبادة، وأكل الأول عادة.

*تمييز العبادات بعضها من بعض مثاله:
رجل يصلي ركعتين ينوي بذلك التطوع، وآخر يصلي ركعتين ينوي بذلك الفريضة، فالعملان تميزا بالنية، هذا نفل وهذا واجب، وعلى هذا فَقِسْ.

ثم ضرب النبي -عليه الصلاة والسلام- مثلاً بالمهاجر فقال:
(فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ)

الهجرة في الشرع: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام.

وهنا مسألة: هل الهجرة واجبة أو سنة؟
والجواب:
أن الهجرة واجبة على كل مؤمن لا يستطيع إظهار دينه في بلد الكفر، فلا يتم إسلامه إذا كان لا يستطيع إظهاره إلا بالهجرة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. كهجرة المسلمين من مكّة إلى الحبشة، أو من مكّة إلى المدينة.

فالهجرة إلى الله :أي يريد وجه الله ونصرة دين الله، وهذه إرادة حسنة.

ويريد رسول الله: ليفوز بصحبته( في حال حياته)، ويعمل بسنته ويدافع عنها ويدعو إليها والذبّ عنه، ونشر دينه، فهذا هجرته إلى الله ورسوله، والله تعالى يقول في الحديث القدسي مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا فإذا أراد الله، فإن الله تعالى يكافئه على ذلك بأعظم مما عمل.

*وهنا مسألة: بعد موت الرسول هل يمكن أن نهاجر إليه عليه الصلاة والسلام؟
والجواب:
أما إلى شخصه فلا، ولذلك لا يُهاجر إلى المدينة من أجل شخص الرسول ، لأنه تحت الثرى، وأما الهجرة إلى سنّته وشرعه فهذا مما جاء الحث عليه وذلك مثل: الذهاب إلى بلدٍ لنصرة شريعة الرسول والذود عنها.
فالهجرة إلى الله في كل وقت وحين، والهجرة إلى رسول الله لشخصه وشريعته حال حياته، وبعد مماته إلى شريعته فقط.

وقوله: (مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ) الجواب: (فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ)
فذكره تنويهًا بفضله، أي بفضل الهجرة هنا.

(وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا أو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيهِ)
من البلاغة: إخفاء نية من هاجر للدنيا، لقوله: فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ولم يقل: إلى دنيا يصيبها، والفائدة البلاغية في ذلك هي: تحقير ما هاجر إليه هذا الرجل، أي ليس أهلاً لأن يُذكر، بل يُكنّى عنه بقوله: إلى ما هاجر إليه. ففيه تحقير لشأن ما هاجر إليه وهي: الدنيا أو المرأة.

وغداً ان شاء الله سأذكر فوائد الحديث
فوائد الحديث:


1.هذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، ولهذا قال العلماء:مدار الإسلام على حديثين: هما هذا الحديث، وحديث عائشة: مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلِيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ فهذا الحديث عمدة أعمال القلوب، فهو ميزان الأعمال الباطنة، وحديث عائشة: عمدة أعمال الجوارح،
مثاله:
رجل مخلص غاية الإخلاص، يريد ثواب الله تعالى ودار كرامته، لكنه وقع في بدع كثيرة. فبالنظر إلى نيّته: نجد أنها نيّة حسنة.
وبالنظر إلى عمله: نجد أنه عمل سيء مردود، لعدم موافقة الشريعة.


2. من فوائد الحديث:الحثّ على الإخلاص لله تعالى، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قسّم الناس إلى قسمين:

قسم: أراد بعمله وجه الله والدار الآخرة.
وقسم: بالعكس، وهذا يعني الحث على الإخلاص لله تعالى.

والإخلاص يجب العناية به والحث عليه، لأنه هو الركيزة الأولى الهامة التي خلق الناس من أجلها، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

3. ومن فوائد الحديث: حسن تعليم النبي عليه الصلاة والسلام وذلك بتنويع الكلام وتقسيم الكلام، لأنه قال: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) وهذا للعمل (وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) وهذا للمعمول له.
وكذلك أنه قسم الهجرة إلى قسمين: شرعية وغير شرعية، وهذا من حسن التعليم.

4. من فوائد الحديث: قرن الرسول مع الله تعالى بالواو حيث قال: إلى الله ورسوله ولم يقل: ثم رسوله، مع أن رجلاً قال للرسول : مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ: بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَه فما الفرق؟
والجواب: أما ما يتعلّق بالشريعة فيعبر عنه بالواو، لأن ما صدر عن النبي عليه الصلاة والسلام من الشرع كالذي صدر من الله تعالى كما قال: (مَنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ).

وأما الأمور الكونية: فلا يجوز أن يُقرن مع الله أحدٌ بالواو أبدًا، لأن كل شيء تحت إرادة الله تعالى ومشيئته.

فإذا قال قائلٌ: هل ينزل المطر غدًا؟
فقيل: الله ورسوله أعلم، فهذا خطأ، لأن الرسول ليس عنده علم بهذا.

وإذا قال: هل هذا حرامٌ أم حلال؟
قيل في الجواب: الله ورسوله أعلم، فهذا صحيح، لأن حكم الرسول عليه الصلاة والسلام في الأمور الشرعية حكم الله تعالى كما قال تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ).

مسألة: أيهما أفضل العلم أم الجهاد في سبيل الله؟
والجواب:
العلم من حيث هو علم أفضل من الجهاد في سبيل الله، لأن الناس كلهم محتاجون إلى العلم، وقد قال الإمام أحمد: العلم لا يعدله شيئ لمن صحّت نيّته. ولا يمكن أبدًا أن يكون الجهاد فرض عين لقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً).

فلو كان فرض عين لوجب على جميع المسلمين: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ)أي وقعدت طائفة: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

لكن باختلاف الفاعل واختلاف الزمن، فقد نقول لشخص: الأفضل في حقّك الجهاد، والآخر الأفضل في حقك العلم، فإذا كان شجاعًا قويًا نشيطًا وليس بذاك الذكاء فالأفضل له الجهاد؛ لأنه أليَق به، وإذا كان ذكيًا حافظًا قوي الحجة فالأفضل له العلم وهذا باعتبار الفاعل. أما باعتبار الزمن فإننا إذا كنّا في زمن كثر فيه العلماء واحتاجت الثغور إلى مرابطين فالأفضل الجهاد، وإن كنّا في زمن تفشّى فيه الجهل وبدأت البدع تظهر في المجتمع وتنتشر فالعلم أفضل، وهناك ثلاثة أمور تحتّم على طلب العلم:

1. بدع بدأت تظهر شرورها.
2. الإفتاء بغير علم.
3. جدل كثير في مسائل بغير علم، إذا لم يكن مرجّحًا فالأفضل العلم.


5. ومن فوائد الحديث: أن الهجرة هي من الأعمال الصالحة لأنها يقصد بها الله ورسوله، وكل عمل يقصد به الله ورسوله فإنه من الأعمال الصالحة لأنك قصدت التقرّب إلى الله والتقرب إلى الله هو العبادة.


انتهى شرح الحديث الأول.

يتبع
</div>