هذا الفصل من روائع ما قرأت ..

وجدير بالمسلم أن يعيد قراءته مرات تلو المرات

وجدير به أن يتدارسه مع غيره ، ويذكر به سواه ..

حتى تستقر هذه المعاني الراقية في قلبه لتثمر سلوكا وواقعا ..

والله الهادي إلى وساء السبيل .. اقرأ متأملا متدبرا ..

==

( وقال:إني ذاهب إلى ربي سيهدين). .

هكذا ... . إني ذاهب إلى ربي . . إنها الهجرة .

وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية

. هجرة يترك وراءه فيها كل شيء من ماضي حياته .

يترك أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه وكل ما يربطه بهذه الأرض , وبهؤلاء الناس .

ويدع وراءه كذلك كل عائق وكل شاغل . ويهاجر إلى ربه متخففاً من كل شيء ,

طارحاً وراءه كل شيء , مسلماً نفسه لربه لا يستبقي منها شيئاً .

موقن أن ربه سيهديه , وسيرعى خطاه , وينقلها في الطريق المستقيم .

إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال , ومن وضع إلى وضع ,

ومن أواصر شتى إلى آصرة واحدة لا يزحمها في النفس شيء .

إنه التعبير عن التجرد والخلوص والاستسلام والطمأنينة واليقين .

وكان إبراهيم حتى هذه اللحظة وحيداً لا عقب له ;

وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى , والصحبة والمعرفة .

وكل مألوف له في ماضي حياته , وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها ,

والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم !

فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه .

اتجه إليه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح:

(رب هب لي من الصالحين). .

واستجاب الله دعاء عبده الصالح المتجرد , الذي ترك وراءه كل شيء ,

وجاء إليه بقلب سليم . .

( فبشرناه بغلام حليم). .

هو إسماعيل - كما يرجح سياق السيرة والسورة –

وسنرى آثار حلمه الذي وصفه ربه به وهو غلام .

ولنا أن نتصور فرحة إبراهيم الوحيد المفرد المهاجر المقطوع من أهله وقرابته

. لنا أن نتصور فرحته بهذا الغلام , الذي يصفه ربه بأنه حليم .

والآن آن أن نطلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم .

بل في حياة البشر أجمعين .

وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن أمام المثل الموحي
الذي يعرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم . .

( فلما بلغ معه السعي . قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ,

فانظر ماذا ترى . قال: يا أبت افعل ما تؤمر ،

ستجدني إن شاء الله من الصابرين). .

يالله ! ويالروعة الإيمان والطاعة والتسليم . .

هذا إبراهيم الشيخ . المقطوع من الأهل والقرابة . المهاجر من الأرض والوطن .

ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام . طالما تطلع إليه .

فلما جاءه جاء غلاماً ممتازاً يشهد له ربه بأنه حليم .

وها هو ذا ما يكاد يأنس به , وصباه يتفتح , ويبلغ معه السعي , ويرافقه في الحياة

. . ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد , حتى..

حتى يرى في منامه أنه يذبحه . ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية .

فماذا ?

إنه لا يتردد , ولا يخالجه إلا شعور الطاعة , ولا يخطر له إلا خاطر التسليم . .

نعم إنها إشارة . مجرد إشارة . وليست وحياً صريحاً , ولا أمراً مباشراً .

ولكنها إشارة من ربه . . وهذا يكفي . .

هذا يكفي ليلبي ويستجيب . ودون أن يعترض . ودون أن يسأل ربه . .

لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد ?!

ولكنه لا يلبي في انزعاج , ولا يستسلم في جزع , ولا يطيع في اضطراب . .

كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء . يبدو ذلك في كلماته لابنه

وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب:

( قال:يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك . فانظر ماذا ترى ). .

فهي كلمات المالك لأعصابه , المطمئن للأمر الذي يواجهه ,

والواثق بأنه يؤدي واجبه

. وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن , الذي لا يهوله الأمر فيؤديه ,

في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي , ويستريح من ثقله على أعصابه !

والأمر شاق - ما في ذلك شك - فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة .

ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته . . إنما يطلب إليه :

أن يتولى هو بيده . يتولى ماذا ? يتولى ذبحه . . !!

وهو - مع هذا - يتلقى الأمر هذا التلقي , ويعرض على ابنه هذا العرض ;

ويطلب إليه أن يتروى في أمره , وأن يرى فيه رأيه !

إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه . وينتهي .

إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر .

فالأمر في حسه هكذا :

ربه يريد . فليكن ما يريد . على العين والرأس . وابنه ينبغي أن يعرف .

وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاماً , لا قهراً واضطراراً .

لينال هو الآخر أجر الطاعة , وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم !

إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها ;

وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى . .

فماذا يكون من أمر الغلام , الذي يعرض عليه الذبح , تصديقاً لرؤيا رآها أبوه ?

إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه:

( قال:يا أبت افعل ما تؤمر . ستجدني - إن شاء الله - من الصابرين ). .

إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب . ولكن في رضى كذلك وفي يقين . .!!

( يا أبت ). . في مودة وقربى . ..!

فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده . بل لا يفقده أدبه ومودته .

( افعل ما تؤمر ). . فهو يحس ما أحسه من قبل قلب أبيه . يحس أن الرؤيا إشارة .

وأن الإشارة أمر . وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب .

ثم هو الأدب مع الله , ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال ;

والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية ,

ومساعدته على الطاعة:

(ستجدني إن شاء الله من الصابرين ). .

ولم يأخذها بطولة . ولم يأخذها شجاعة . ولم يأخذها اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة

. ولم يظهر لشخصه ظلاً ولا حجماً ولا وزناً . .

إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه , وأصبره على ما يراد به:

(ستجدني - إن شاء الله - من الصابرين)

يا للأدب مع الله ! ويالروعة الإيمان . ويالنبل الطاعة . ويالعظمة التسليم !

ويخطو المشهد خطوة أخرى وراء الحوار والكلام . . يخطو إلى التنفيذ:

( فلما أسلما وتله للجبين ). .

ومرة أخرى يرتفع نبل الطاعة . وعظمة الإيمان . وطمأنينة الرضى

وراء كل ما تعارف عليه بنو الإنسان . .

إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعداداً .

وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعاً . وقد وصل الأمر إلى أن يكون عياناً .

لقد أسلما فهذا هو الإسلام . هذا هو الإسلام في حقيقته .

ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم . . وتنفيذ . .

وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم .

إنها ليست الشجاعة والجراءة . وليس الاندفاع والحماسة .

لقد يندفع المجاهد في الميدان , يقتل و يقتل .

ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود .

ولكن هذا كله شيء والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل هنا شيء آخر . .

ليس هنا دم فائر , ولا حماسة دافعة ولا اندفاع في عجلة

تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص !

إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل القاصد المريد , العارف بما يفعل ,

المطمئن لما يكون . لا بل هنا الرضى الهادى ،

المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل !

وهنا كان إبراهيم وإسماعيل قد أديا . كان قد أسلما . كانا قد حققا الأمر والتكليف

. ولم يكن باقياً إلا أن يذبح إسماعيل , ويسيل دمه , وتزهق روحه . .

وهذا أمر لا يعني شيئاً في ميزان الله ,

بعدما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما وعزمهما

ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما . .

كان الابتلاء قد تم . والامتحان قد وقع . ونتائجه قد ظهرت .

وغاياته قد تحققت . ولم يعد إلا الألم البدني . والإ الدم المسفوح . والجسد الذبيح .

والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء . ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء .

ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلياتهم فقد أدوا , وقد حققوا التكليف ,

وقد جازوا الامتحان بنجاح .

وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما . فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقا:

( وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا . إنا كذلك نجزي المحسنين .

إن هذا لهو البلاء المبين . وفديناه بذبح عظيم). .

قد صدقت الرؤيا وحققتها فعلاً

. فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام

بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه ,

ولو كان هو الابن فلذة الكبد . ولو كانت هي النفس والحياة .

وأنت - يا إبراهيم - قد فعلت . جدت بكل شيء . وبأعز شيء .

وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين .

فلم يبق إلا اللحم والدم . وهذا ينوب عنه ذبح . أي ذبح من دم ولحم !

ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت . يفديها بذبح عظيم .

وقيل له: (إنا كذلك نجزي المحسنين). .

نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء . ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها

إلى مستوى الوفاء . ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء .

ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء !

**

ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى ..

ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان .

وجمال الطاعة . وعظمة التسليم .

والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم , الذي تتبع ملته ,

والذي ترث نسبه وعقيدته . ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها

ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا ?

ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه .

ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئا , ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة

لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم !

ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء , ولا أن يؤذيها بالبلاء ,

إنما يريد أن تأتيه طائعة ملبية وافية مؤدية . مستسلمة لا تقدم بين يديه , ولا تتألى عليه

, فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام

. واحتسبها لها وفاء وأداء . وقبل منها وفدّاها . وأكرمها كما أكرم أباها . .

( وتركنا عليه في الآخرين ). .

فهو مذكور على توالي الأجيال والقرون . وهو أمة . وهو أبو الأنبياء .

وهو أبو هذه الأمة المسلمة . وهي وارثة ملته .

وقد كتب الله لها وعليها قيادة البشرية على ملة إبراهيم .

فجعلها الله له عقباً ونسباً إلى يوم الدين .

( سلام على إبراهيم ). .

سلام عليه من ربه . سلام يسجل في كتابه الباقي . ويرقم في طوايا الوجود الكبير .

( كذلك نجزي المحسنين ). .

المصدر :
http://www.alwahah.net/aalawi60/qr37.htm