استمرت في توجيه عبارات التوبيخ والتوعد بتصعيد الموضوع والتهديد بمقاضاتهما صوتها المرتفع ، جعل بعض الأطباء والعاملين ، يتوجه لمصدر الصوت ، لتقصّي الأمر حرج الطبيب ومساعده ، ازداد مع تكاثر الأشخاص ، الذين دفعهم الفضول للقدوم ، لمعرفة ما يجري كانت تتكلم عن " خسة ونذالة وخيانة للأمانة وشـــرف المهنة " ، دون أن يدري الموجـــــودون ، ما الذي حـــدث بالضبط بعض الحضور ، ظن أنها قد تعرضت للتحرش إلى أن قالت :
- لقد مسكت سعـــــادة الدكتور بسام ومساعده متلبسين ، بجريمة كشف عورة مريضة إن الأمر لا يقف عند الاعتداء على شرف الناس ، وهذه بحد ذاتها جريمة ، بل كذلك خيانة للعهد والميثاق وشرف المهنة
رد الدكتور :
- أنتم تعرفون الأخت مريضة بالوسواس
- المريض يا دكتور ، هو الذي لم يردعه دين ، ولا سن ، ولا شرف مهنة ، عن كشف عورات المرضى النائمين
- ما قلت لكم ؟ الأخت مهووسة بشيء يتداوله المتطرفون في الانترنت ، اسمه العورات النائمة وهناك من يحرضها من متطرفي وإرهابيي الانترنت
ثم أراد أن يحول الأمر إلى سخرية منها ، وتكريساً لاتهامه لها بالوسواس ، وصلتها بمن يسميهم متطرفي الانترنت فقال :
- الأخت تحب القيادة والزعامة والأضواء ما يكفيها أنها اشتهرت في الكلية باسم ( الملا عمر ) ، بسبب سلوكها المتطرف ، البعيد عن المهنية لذلك أقترح لإرضاء هوسها ، نسميها زعيمة ( حزب العورات النائمة )
ثم اصطنع ابتسامة ، وصار يتلفت نحو الموجودين ، لينال تأييدهم ، ومشاركتهم السخرية منها لكنها ردت :
- الدفاع عن عورات المسلمين النائمة ، ضد لصوص الأعراض مثلك ، يا سعادة الدكتور شرف من هو المسكون بفوبيا الجنس أيها التنويري ، من نوع تلك الشعارات الفارغة التي دائماً ترددها لتسويغ الانحراف ؟ والله العظيم لن يمر الحادث بسهولة ، وإن لم تتخذ الكلية إجراءاً إني لأصعد الأمر لوسائل الإعلام
لم يتخذ إجــراء من أي نوع ، ولم تجرِ حتى مساءلة وحرصت عمادة الكلية ، وإدارة المستشفى ، على احتواء الموضوع ، والتكتم عليه حفاظاً على سمعة الكلية والمستشفى كـــــــــثير من حقوق الناس تهدر ، لتبدو صـــــــورة المؤسسات الرســـــمية ( كاملة ) يموت الناس ، أو يتعرضون للأذى بسبب إهمال الأطباء ، أو تعدي الأفراد ، على الموقوفين في المراكز الأمنية ولا يحاسب أحد ، لأن هذا يضر بسمعة الوزارة المعنية ، التي ترخص أمام ( نزاهتها ) المزعومة ، أرواح المواطنين تساق قضية ( الخصوصية ) دائماً ، لتبرير عدم مساءلة أي مسؤول ، أو محاكمته علناً على تقصيره أطرف تعليق على هذا الوضع الشاذ ، ما سمعته مرّة من إحدى صديقاتها : " في العالم غيرنا ، حين يعيث المسؤول فساداً ، في حياة الناس وأموالهم يستقيل أو يحاكم ، أما عندنا فلا هذا ولا ذاك ، لأن لنا ، كما يقولون ( خصوصيتنا ) ، وقاعدتها الذهبية : " صورة الحكومة أولاً ، وسمعة المسؤول ثانياً وليذهب المواطن إلى الجحيم " عائشة على أساس من قناعات وتجارب سابقة ، كانت تتوقع موقفاً مثل هذا ، لكنها نجحت في تسريب الموضوع إلى الصحافة إلى الأستاذ سعد ، كاتب عــــمود صحفي مشهور ، فدارت سجالات حول القضية ، تؤكد على وجوب حماية خصوصية المرضى ، واستحداث نــــظام للملابس ، داخل غرف العمليات يحميهم من العبث والتجاوزات
الميدان الآخر للحدث ، كان أحاديث أفراد المجتمع ، ومنتديات الانترنت ظل النقاش حاداً وساخناً ، لأكثر من شهر مما خلق رأياً عاماً ، يطالب بوضع قوانين تحمي المرضى ، وتعاقب من ينتهك حرماتهم الحادثة نفسها وتداعياتها ، أشاعت حالاً من الحذر والخوف ، لدى أفراد يقعون في انتهاكات لخصوصيات المرضى ، أو تقصير في حقهم هناك حديث مرتفع ، عن تحرشات يقوم بها بعض العاملين الذكور في المستشفيات يتردد أن هناك عبثاً واستغلالاً جنسياً ، لبعض المريضات ، من قبل أشخاص ، يعملون في قطاعات فنية مساندة في المستشفيات ، يزعمون أنهم يتلقون توجيهات من أطباء ، مستغلين جهل المرضى وذويهم
بعد الفضيحة التي صارت حديث الناس ، صار هناك توجس لا أحد يرغب أن يضع نفسه ، في موقف مثل الذي حصل للدكتور ومساعده الأمر في بعض مراحله ، كاد أن يكون أكثر خطورة ، لولا تدخل بعض الأشخاص ، من داخل الكلية لدى عائشة كانت قد هددت ، إن لم يتخذ إجراء وعقوبات رادعة ، بأنها ستبلغ أولياء المريضة ، بالفعل الذي ارتكبه الدكتور ومساعده
صدمة عائشة ، لم تكن من الفعل فقط على بشاعته بل من الطبيب نفسه يقدم الدكتور بسام نفسه ، ويعرّفه زملاؤه ، على أنه ليبرالي تنويري ، يناصر حرية المرأة ، وحقها في العمل ، ويدافع عن الحريات عموماً كثيراً ما وصف الدعوات التي توجه إلى عمادة الكلية ، أو لوزارة الصحة ، بتنظيم عمل المرأة في القطاع الصحي بما يوائم عادات المجتمع وتقاليده ، والحد من الاختلاط غير المبرر ، بين الجنسين ، بأنها ( فوبيا ) جنسية ، يروّج لها ( المتزمتون ) ، المسكونون بميكانزم غريزي ، يجعلهم ينظرون للمرأة ، على أنها هدف جنسي متحرك جاءت الحادثة ، ليس فقط ، بمثابة الفضيحة للدكتور بسام ، ولتسقط صورة المثقف ، التي صنعها لنفسه بل كذلك لتكشف حــــقيقة موقفه من المرأة ، و( الأجندة ) التي يقوم بتسويقها ، حول حقوق المرأة كما أن وقوف بعض زملاء الدكتور إلى جانبه ، ومساندتهم له على فداحة الفعل الذي ارتكبه ، جعلها تقطع أن دعاوى الحرية والليبرالية ، التي يدعيها بعض الأشخاص ، ليست إلا شعاراً فارغاً ، لسلوك شهواني أمْرٌ كانت تدركه ، وتعرفه حق المعرفة ، لكنها كثيراً ما تدخل في جدالات ونقاشات ، حول حقيقته ، وإمكانية إثباته قالت للدكتور نايف ، وهو زميل للدكتور بسام ، تبنى حـــملة للدفاع عنه :
- أفهم أن تنادوا بحق امرأة أن تتبرج ، لكن كيف تدافع عن زميلك الذي يعرّي امرأة نائمة ، معتدياً على أهم حقوقها خصوصية جسدها ؟ هل تريد أن تقنعني أن المريضة النائمة ، كانت في حالة ( سلوك ظلامي ) ، وأن زميلك الدكتور بسام ، كان يمارس ( فعلاً تنويرياً ) ويعبر عن سلوك ليبرالي ؟!
الحدث صار حديث مجتمع الجامعة ، وربما انتقل خارجها ، لكن عين عائشة وقلبها ، كانا في مكان آخر ماذا كتب في الانترنت عن الموضوع وما الذي كتبه شهاب الإسلام تحديداً ؟ شقيقها أحمد ظل يزودها بكل ما دار في الانترنت حول الحادثة وتداعياتها مكثت هي أسابيع ، تتابع الإنترنت بنفسها ، وَتَطّلع على ما يحضره أحمد لها لم تجد شيئاً لشهاب الإسلام نفد صبرها ، فسألت عنه أحمد ، الذي كان يتوقع سؤالاً مثل هذا قال :
- تابعت كل ما كتب لم أجد شيئاً لشهاب الإسلام ، ولم يرد على البريد الالكتروني ، الذي أرسلته إليه بهذا الخصوص
أحمد كتم عن عائشة ، كلاماً سمعه عن شهاب الإسلام وهي ظلت تترقب بعد أيام ، بعض زميلاتها اللائي يعرفن اهتمامها بما يكتب شهاب الإسلام ، سَرّبن لها كلاماً منسوباً إليه ، في أحد مواقع الانترنت مفاده : " موقفها جيد ، لكن ما الذي يجيز لها أن تبقى في غرفة العمليات ، مع رجال أجانب ، يتكشّفون عورات المسلمين ؟ ! " سكتت ولم تعلق ، وحاولت أن تستبعد صدور هذا الكلام منه صار الموضوع هماً ، لم تطق الصبر عليه ، فصارحت أحمد بما نقل إليها لم يشأ أن يؤكد لها الموضوع ، الذي تواتر عنده من أكثر من مصدر خشي أن يسبب لها صدمة قال :
- سمعتُ مثلك هذا الكلام لكني لست متأكداً من أنه فعْلاً قاله !
هزت رأسها ، وهي تنصرف لغرفتها وتغالب ، لتبدو تعابير وجهها طبيعية لم يكن ردّه مقنعاً ولم تعلق لكنها شعرت بجرس يُقْرع في قلبها للحزن ، والرحيل ، والفقد طعم واحد ، وأصواتٌ متعددة قَرَأَتْ مرّة أن الريح تعوي في الأطلال الخربة حين ضمت ساعديها إلى صدرها ، وتلمست أضلاعها ، تحسست صوتاً ، كأنّ صخبه في أذنيها تساءلت : أهذا صوت عواء الريح في قلبي ؟
على مشارف عامها السادس والعشرين تلتفت ، ثمة إنجازات كبيرة ، على أكثر من صعيد الذين حولها يقولون : ما زلت صغيرة المستقبل أمامك ، لديك الكثير لتحقّقينه اليوم حين أحست بذلك الدويّ في صدرها ، أدركت أن لا شيء في قلبها تحقق ، منذ أول خاطر ، تسلل عبره شهاب الإسلام إليه : أطلال وريـــح تعوي نحن لا نقيس انــــــــجازاتنا فقط ، بما حققناه لندهش الآخرين ، فيصفقوا لنا للقلوب مساحة من زمن ، تزهر فيها قــصيرة ، إن لم يأتِ ربيعها بــ( وسمي ) ، فليس إلا عطش الدهر وحزن الأبد المستقبل بدا موحشاً وعدماً ، وحديث القلب : شُختِ ليس ثمة وقت لأحلام !
كانت جالسة على طرف سريرها أرهقها الهم ، فلم تخلع حتى معطف المستشفى الأبيض الأفكار كانت قد أخذتها بعيداً ، حين دقت نغمة جوالها ، معلنة استلام رسالة سحبت الجوال من جيب معطفها ، ووضعته على منضدة الزينة ترددت في فتح الرسالة سئمت من كثرة الرسائل ، التي وصلتها ، حول قضية الدكتور ومساعده ، إما استفساراً عن الموضوع ، أو إشادة بموقفها
حين بدلت ملابسها ، ألح عليها فضول غير عادي ، بأن تفتح الرسالة التي وصلتها قبل قليل التقطت الجــــــــوال واستلقت على سريرها ، فتحت الرسالة لم تكن من النوع الذي اعتــــــادت استلامه مؤخراً : " لكم باقة ورد ، لــــــــدى محل ( الفصول الأربعة ) للورود نرجو الاتصال ، لإعطاء مندوبنا وصفاً لعنوانكم رقم الطلب 5/5/24 " اعتدلت في جلستها غمامة فرح ، بدأت تتشكل على محياها قسماتها غدت أكثر إشراقاً ، وابتسامة صارت تنمو في ثغرها شعور بالبهجة ، تحسه يجتاحها ، ويكاد يرفعها عن الأرض كأنها على بساط ريح همست لنفسها : " شيء رائع ، أن يأتيك ورد بعد أن أصبحت المشاهد كلها بلون رمادي ، ولم يعد لإيقاع الحياة طعم أو لون " تحب الورد ، ولا تتفق مع الرأي الرافض له ، على أساس من موقف ديني ليس في تهادي الورد تقليداً لكافر سمعت هذا الرأي من أكثر من عالم موثوق تحتفظ بذاكرتها بموقف جميل عن الورد ، ترويه إحدى زميلاتها تحدثت الزميلة عن زوجها الذي غاضبها مرة فندم ثم اختلس في ذات الوقت ، فرصة انشغالها ، بأمر ما ، وأشترى لها وردة ، أرفقها ببطاقة كتب فيها : " أفتقد الذوق أحياناً " كان للوردة ، والعبارة ، والموقف فعل السحر ، تقول الزميلة
الورد مظهر من مظاهر الجمال أو هو أبهى مظاهر الجمال و " الله جميل يحب الجمال " لكنها تكره المغالاة والتباهي ، في إهداء الورد ، مثل ذلك الذي تراه يحدث في المستشفى بين النساء خصوصاً تذكر أنها دخلت على إحدى المريضات ، فوجدت حول سريرها ورداً ، قيمته لا تقل عن عشرة ألاف ريال عرفت السبب كل صاحبة باقة ورد ، تبرز اسمها بشكل واضح على باقتها ، فتأتي أخرى تزايد عليها ، فتهدي أغلى منها وتجعل اسمها بارزاً وهكذا ! المريضة لاحظت اندهاشها من العدد الكبير من باقات وآنية الورد فقالت مزهوة : " أنا سعيدة الورد جميل " فاجأها ردّها : " ألا ترين أنه يصبح قبيحاً ، عندما يتحول إلى مباهاة وتبذير "
اتصلت بمحل الورد ، وأعطتهم وصفاً لعنوان البيت بانتظار وصول الهدية ، أخذت تستعرض في ذهنها من قد يكون المرسل اليوم الخميس ، لا تتذكر مناسبة توافق هذا التاريخ رجحت أن تكون إحدى صديقاتها في الكلية أو المستشفى ، أو ربما أحدٌ من عائلتها ، مهتم بها ، وهي لا تعلم أو قد يكون شخصاً قدر موقفها ، في موضوع عورات المرضى النائمين وصل مندوب الفصول الأربعة ، واستلمت الباقة كانت جميلة جداً ، فتلهفت لمعرفة المرسل التقطت البطاقة المرفقة ، التي كانت كبيرة ، خلاف البطاقات ، التي ترفق عادة مع باقات الورود وشرعت تقرأ :
" سيدتي الجميلة ، أنت لا تعرفينني ، ولستِ بحاجة لأن تعرفينني جئتُ مرّة قبل عام إلى الطوارئ ، ومعي طفلتي المريضة ، وهي في حال يرثى لها ، من المرض وعدم النظافة كان اهتمامك بها ، ورعايتك لها ، ولمستك الحانية ، ومتابعتك لحالتها ، شيء لا يفعله إلا إنسان يمارس فعله عن إيمان ثم كان خطابك المطَمْئِن ، اللطيف ، المؤدب لنا الــــذي غمرنا بشعور من الأمان والسكينة
أعتقد أن وجود مثلك ، ليس في هذه الأماكن فقط ، بل في حياة الناس ، ضرورة كونية ، لكي لا يختل ميزان القيم ، وليكون للحياة معنى كذلك
لقد سألت عنك وقتها ، وأُخْبِرتُ باسمك ، وعلمت أنك طبيبة تحت التدريب ، ولم تتخرجي بقيت أسأل عن موعد تخرجك ، فعلمت أنه يوم السبت ، فأردت أن تكون لي مشاركة بالفرحة ، بإنجاز إنسان رائع خَـلاّق مثلك
حين أردت أن أشاركك فرحتك ، فكرت بروحك الجميلة ، التي لا يهمها ما يلمع وما يبرق أعلم أنه يستهويك ما يستهوي النساء ، لكن قيمتك لدي لا أستطيع أن أصل إليها ليس لأن حالتي المادية لا تسمح ، بل لأني أؤمن وأحلف بالله العظيم ، أنك أسمى من جواهر الأرض كلها
أؤمن بأن إنساناً ، بمثل أدبك ، وأخلاقك ، وجمال روحك لابد أن يكون هو نفسه مصدراً للجمال ، ومُستَقْبِلاً للجمال أؤمن أيضاً ، أن الورد ، من حيث هو ، تعبير عن قيمة جمالية سامية ، ورمز لأسمى معاني التواصل الإنساني يمثل مشتركاً ثقافياً إنسانياً أما أعلى درجات إيماني ، فهي أن كينونتك ، أصدق معنى للحضور الإنساني ، وحضورك الفاعل في حياتنا أبهى صورة للجمال ، لذلك أهديتك ورداً
ســـــــــــــــــلامي ، ومودتـــــــــــــي ودعــــــــــــــــــــــائي "
محمد
كانت الدموع تترقرق من عينيها ، وهي توالي قراءة البطاقة تنتقل من كلمة لأخرى ، لتعود لقراءة الجملة مرّة ثانية لا تدري هل تفرح للورد ، أو للّغة العذبة السامقة ، أم للّفتة الجميلة بالاحتفاء بتخرجها ، من إنسان غريب هي نفسها ، رغم أهمية المناسبة لها ، لم يرتقِ اهتمامها بها ، إلى هذا المستوى لا تدري هل هو بسبب خيبات القلب ، أو لأن الحدث ، بعد سنوات الدراسة الطويلة ، صار تحصِيلُ حَاصِل في الأشهر الأخيرة ، صارت تمر بحالات هبوط نفسي ، تحس بها تؤزّمها ، وتغمسها في مستنقع يأس ، ثم تهوي بروحها إلى أعماق لولا زحمة العمل ، التي أصبحت تتعمد أن تغرق نفسها في بحرها لتهرب من واقعها ، لاختنقت في جُبِّ أزمتها
تتأمل الورد وتتلمسه ، ثم تعـــــــود تقرأ البطاقة أحست بـروحها تصعد تغادر رويداً رويداً ، حضيض بؤس ، هوت في أعماقه ، وحين وصلت إلى الكلمة الأخيرة ، شعرت كأنها على رأس قمة حولها فضاء مفتوح ومدى لا نهائي تنـــهدت بعــــمق : " كم هو مبهج ، وباعث على الأمل ، أن تمتد لك يد غريبة لم تنتظرها ، لتنتشلك من قاع ، لم يدرك من حولك ، كم صار لك ، تتردّ!ى في قراره "
يتوغل الألم في داخـــلنا بقسوة ، حين يَنْفُضْ الذين نحبهم أيديهم منّا ، وينفَضّون عنا يتركوننا ، نغوص في لجة أحزاننا نواجه عناءنا ، بقلوب أفرغها الفقد ، من أي رجاء ونزعت منها ، رياح الوحدة والوحشة كل الأشرعة
عابرون كثيرون في حياتنا بذات الجمال ، والثراء الروحي ، ويملكون فيضاً من المشاعر والأحــــاسيس ، لا ندرجهم ضمن ( قائمتنا ) المهمة لأننا وضعنا لها معايير ، لا علاقة لها بالقيم الخَلاّقة للفرد من حيث هو إنسان ، يمكن أن يضيف لحياتنا الحقيقية شيئاً كم من مثل صاحب الرسالة ، افتقدوا فقط آلية التواصل معنا ، ليسكبوا مثل هذا الفيض في أرواحنا لم يكن لأنهم يحتاجــــون أن ( نحــسن ) إليهم ، لنستحثهم على فعل ذلك ، فتنثال مشاعرهم نحونا بل لأننا خلقنا ( حدوداً ) ، تحدد جغرافيتنا ، ووضعنا نقطة عبور واحدة نحونا ، لأفراد منتخبين ، وفق معايير ، لا علاقة لها بما تحتاجه أرواحنا ، ويحتاجه الإنسان فينا نخسر كثيراً ، مشاعر دفاقة بهذا الحجم نحتاجها ، من أناس بسطاء لأن فرصتهم لكي يبــوحوا بها ، لا تَتَأتّى إلا مرّة واحدة لحظة نشرع أبواب قلوبنا لهم إن لم نفعل ذلـــــك في ساعة ( صفر ) ، يفرضها قدر لقائنا بهم ، على ناصية لحظة من زمن حياتنا فلن يحــــدث ذلك مطلقاً سيبتلعهم إيقاع الحياة ، الذي يسرق أعـمارهم ، في ساعات لهــاث خلف لقمة عيش فـــلا يعودوا ، وتخوننا معاييرنا ، التي لم تمنحهم الفرصة فتقصيهم ونخسر
وضعت الورد في مستطيل زجاجي ملأته بالماء ، بعد أن استلّت منه وردة جوري ، وضعتها على وسادتها ألصقت البطاقة بطريقة أنيقة ، في الزاوية العليا اليسرى لمرآة منضدة الزينة في هذه الأثناء قرع باب غرفتها كان صوت أمها تستأذن أسرعت وفتحت الباب ، وبهجة طافحة على وجهها بادرتها والدتها :
- منوّره أكيد هناك أخبار سارة لم أرك من أمس يا عيوّ يا عائشة ، اشتقت لك !
انتبهت أنها كانت ستناديها يا عيوش ، وهو الاسم الذي كانت تدللها به ، منذ كانت صغيرة وإلى وقت قريب قالت مُداعبة :
- لأنك لم تعودي تدلليني ! حتى عيوش صرت تستكثرينه علي
- لا والله لكـــــني أحس إنك صرت كبيرة ، وقلت يمكن أن يحرجك تصغيري لك خاصة وأنه بقي يومين وتصيرين دكتورة
قالتها وهي تبتسم ضمتها عائشة وهي تقول :
- ما فيه أحلى من عيوش على لسانك
انتبهت لإناء الورد ، ولوردة الجوري على وسادتها فقالت :
- عندك هدية ثمينة من النوع الذي تحبينه ، خسارة فيه أحد سبقني في تكريمك !
لم تعلق لكن والدتها لاحظت البطاقة الملصقة بعناية على المرآة ، فاقتربت وقرأت مقتطفات منها وتوقفت عند التوقيع ، الذي لم يعطها أي دلالة على صاحبه التفتت إليها ، وفي عينيها علامة استفهام ابتسمت عائشة ، وعرفت ما يدور في خلدها فقالت :
- هذه شهادة تخرجي الأولى ، وقعها ( إنسان ) لا أعرفه لكنه منحني وثيقة عبور ، لأكتشف كينونتي ، وقيمتي الحقيقية وأهداني ورداً الجامعة يا أمي ستقدم لي يوم السبت ، وثيقة تخرجي الرسمية ، بوصفي طبيبة مجازة ، وستمنحني ورقة ، تسميها مرتبة شرف ، سأضيفهما لمجموعة الأوراق التي كدستها في خزانتي هذا هو الفرق يا أمي
ابتسمت ابتسامة خفيفة ، وهزت رأسها ، ثم ثَبّتت نظراتها على وردة الجوري ، الملقاة على الوسادة البيضاء ، المطعمة بتشجيرات صغيرة من الأحمر والأخضر تحاول أن تبحث عن علاقة ما ، بين مكانها على الوسادة ، وبين البطاقة المعلقة على المرآة بأناقة علقت عائشة :
- آه وردة الجوري ! انتزعتها من الباقة ، ووضعتها على الوسادة كنت أستعد للنوم ، وأردت أن أحلم أحلاماً وردية مزيج من البياض الذي ملأتني به الرسالة ، ولون الوردة
- الله يجعل أحلامك كلها وردية يا عيوش غداؤك جاهز سأضعه في الثلاجة ، وإذا قمت سخنيه يا عيوني
خرجت وسحبت الباب خلفها بهدوء وفي الوقت الذي كان صوتها ، يتناهى إلى داخل الغرفة ، طالبة من إخوانها الصغار عدم إزعاجها ، لتخلد إلى النوم ، كانت عائشة تضع رأسها على الوسادة ، ووردة الجوري تتمدد أمام عينيها ، على طرف الوسادة البيضاء المشجرة ، مثل حورية بحر ، استلقت بضجر ، على شاطيء رملي أبيض، تناثرت فوقه الأصداف، وأعشاب البحر بانتظار ( فارس ) ، أخلف موعده