احبتي نستكمل معكم الان الجزء الثالث
وقبل الاخير عن المنظمة الصهيونية


هجرة أحباء صهيون

ولدت الحركة الأدبية والفكرية خطوات عملية. هكذا هو الأمر في أغلب المجتمعات والدول. تؤثر الأدبيات المختلفة في الرأي العام خاصة عندما تكون مركزة، وحين اختمار الأفكار الواردة فيها تتبلور جهود عملية نحو التطبيق.

اغتيل قيصر روسيا عام 1881 من قبل خمسة أشخاص من بينهم فتاة يهودية. انتبه الروس تماما إلى هذه الفتاة فأعملوا السيوف في رقاب اليهود. هوجمت الحارات اليهودية في عدد من المدن الروسية وقتل عدد كبير من اليهود. نتيجة لذلك قررت جمعية أحباء صهيون التي كانت تعمل في روسيا من أجل الترويج لفكرة العودة إلى أرض الأجداد أن تبادر في الهجرة إلى فلسطين. قالت الجمعية بأن روسيا غير آمنة ومن الأفضل مغادرتها إلى فلسطين على الرغم من الصعوبات التي يمكن أن تواجه المهاجرين. وأضافت بأنه لا يكفي الاستمرار في الحديث عن الوطن القومي أو الهجرة بل لا بد من وضع الفكرة موضع التطبيق وأن الوقت لذلك قد حان. وعليه فقد نظمت عام 1882 أول هجرة جماعية إلى فلسطين منذ أن طرد الرومان اليهود، بفارق زمني مقداره 1747سنة.

بدأ مهاجرو أحباء صهيون يفدون إلى فلسطين تباعا وأخذوا ببناء البيوت والبحث عن أراض زراعية توفر لهم مصدر الرزق.

بالإضافة إلى مستوطنة بتاح تكفا التي أقيمت عام 1878 من قبل يهود القدس على أراضي قرية ملبّس أقام أحباء صهيون في الأعوام 1882-1884 المستوطنات التالية: ريشون لتسيون على أراضي عيون قارة، وروش بيته على أراضي الجاعونة، وزخرون يعقوب على أراضي زمارين، يسود همعليه على أراضي الحولة، نس تسيونه على أراضي وادي حنين، مزكيرت باتيه على أراضي الرملة، وغديرة . واستمر بناء المستوطنات حتى يومنا هذا.

من أين أتى اليهود بالأرض لبناء المستوطنات وتطوير المزارع؟ يتمثل المصدر الأول في الدولة العثمانية التي كانت تلجأ عادة إلى بيع أراضي الفلاحين في المناطق الخاضعة لسيطرتها بما فيها الشام في المزاد العلني وذلك بسبب عدم وفائهم بالضرائب المفروضة عليهم. كانت تستولي على الأرض وتطرد الفلاحين وتبحث عن مشترين. أما المصدر الثاني فكان السفراء والقناصل الأجانب ولكن من خلال القانون العثماني الذي سمح بتمليك الممثليات الأجنبية أراض في الدولة العثمانية. كان يقوم قناصل الدول الأجنبية في القدس مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا بشراء الأراضي من الفلاحين الفلسطينيين وبالأخص من الإقطاعيين أو كبار الملاك ويعطوها لليهود بعد ذلك. ويقتضي التنويه هنا إلى أن الأوروبيين كانوا يقومون بهذه الأعمال والتي تقود إلى إنشاء الوطن القومي لليهود قبل ظهور بلفور. على سبيل الأمثلة، قام قنصل بريطانيا الحاخام امزليغ بشراء 3340 دونم وحولها لليهود لإقامة مستوطنة ريشون ليتسيون، أما إميل فرانك الذي كان يعمل نائب قنصل ألمانيا والنمسا في الإسكندرية عمل على تحويل 6نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي دونم من أراضي الجاعونة إلى اليهود، وقام القنصل الألماني بتحويل 142 دونم في منطقة يافا، أما قنصل فرنسا في عكا ونائبه في صفد فشاركا بتحويل مساحة مقدارها 2500 دونم قرب الحولة.

أما المصدر الثالث في الحصول على الأراضي كان متمثلا في بريطاني وبعض كبار الملاك والقيادات العائلية الفلسطينية كما سنرى فيما بعد.

كيف كان يدخل اليهود إلى فلسطين؟ كانت تسمح تركيا عموما بدخول اليهود إلى أراضيها غالبا بسبب التعاطف معهم إثر طردهم من إسبانيا مع المسلمين عام 1492. لكن الحكومة العثمانية أخذت تشدد على منع دخول اليهود إلى فلسطين بالذات بعدما استشعرت الخطر، إلا أن تشديدها كان عديم الفائدة لسببين رئيسين: تفشي الفساد الإداري والرشوة كانا يسهلان دخول اليهود، وكذلك ضغوط الدول الأجنبية. كثيرا ما كان يكذب مسئولو الشرطة العثمانيين في بياناتهم لقاء رشاوى كانوا يتلقونها، وكثيرا ما كان يتدخل الأجانب لتخفيف الرقابة على المهاجرين. حصل مثلا أن تدخل أوسكار شتراوس سفير الولايات المتحدة لإلغاء إجراءات تشديدية ولعزل والي القدس الذي كان يناصب الهجرة اليهودية العداء.

أما بالنسبة للأموال اللازمة لتغطية تكاليف الهجرة والمعيشة والاستثمار فكان يتم تغطيتها من أموال الجمعيات اليهودية في أوروبا ومن أموال التبرعات. وقد حصل أحباء صهيون على أموال من الثري الفرنسي روتشيلد الذي كان مهتما بالوطن القومي وباستثمار أموال في زراعة العنب في فلسطين لتغذية مصانع خمور كان يملكها في فرنسا.

لكن حملة أحباء صهيون لم تستمر طويلا بسبب تعرضها لانتقادات شديدة من قبل عدد من القيادات اليهودية من مختلف الأوساط. تركزت الانتقادات على أن اليهود يهاجرون إلى بلاد لا تتوفر فيها أسباب الأمن على الصعيدين العسكري والاقتصادي مما يعرض حياة المهاجرين للخطر. لا يوجد مصدر رزق آمن في فلسطين، ولا توجد قوة يمكن أن تحمي اليهود من الفلسطينيين إذا شعروا بأن اليهود عبارة عن خطر يهددهم. ولهذا رأى هؤلاء ضرورة تأجيل الهجرة لغاية الحصول على ما يضمن لليهود هجرة آمنة واستقرارا وأمنا. أما جدلية أحباء صهيون فنادت بضرورة خلق أمر واقع في فلسطين وذلك لن يتم إلا بالهجرة. لقد اعترفوا بالمخاطر المحيطة بالعمل لكنهم رأوا أن البقاء في روسيا يمثل خطرا أكبر وأن إقامة الوطن القومي تتطلب التضحيات. تغلب التيار المعارض فتوقفت هذه الهجرة لتسلم نفسها للحركة الصهيونية.

والي اللقاء معكم في الجزء الاخير باذن الله
اخوكم ناصر