تتممة
يقول الفضل بن الربيع سافر "هارون الرشيد" للحج
فأتاني فخرجت إليه مسرعًا، فقلت له: هاهنا "الفضيل بن عياض" هل لك في زيارته؟

فقال الرشيد: امض بنا إليه، فأتيناه فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من القرآن يرددها، قال: اقرع الباب، فقرعته،

فقال: مَن هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: مالي ولأمير المؤمنين، فقلت: سبحان الله! أوما عليك طاعته؟

فنزل ففتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة وأطفأ السراج،
ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت، فدخلنا، فجعلنا نجول عليه بأيدينا،
فسبقت كف هارون قبلي إليه، فقال:
يا لها من كف ما ألينها إن نجت غدًا من عذاب الله!
فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام نقيّ من قلب تقي، فقال له: خذ لما جئناك له رحمك الله،

فقال: إن "عمر بن عبد العزيز" لما ولي الخلافة دعا "سالم بن عبد الله"، و"محمد بن كعب القرظي"، و"رجاء بن حيوة"
فقال لهم:

إني قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا علي، فعد الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة.!!!

فقال له "سالم بن عبد الله":
"إن أردت النجاة من عذاب الله غدًا ليكن كبير المسلمين عندك أبًا، وأوسطهم أخًا، وأصغرهم ولدًا، فوقر أباك، وأكرمأخاك، وتحنن على ولدك.

وقال له "رجاء بن حيوة": إن أردت النجاة من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت،

وإني أقول لك: إني أخاف عليك أشد الخوف من يوم تزل فيه الأقدام، فهل معك رحمك الله مَن يشير عليك بمثل هذا؟

فبكى "هارون" بكاءً شديدًا حتى غُشي عليه، فقلت له: أرفق بأمير المؤمنين.

فقال: تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا! ثم أفاق،
فقال له: زدني رحمك الله،

فقال: يا أمير المؤمنين، بلغني أن عاملاً لـ"عمر بن العزيز" شكى إليه،فكتب إليه عمر: يا أخي، أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله عز وجل فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء.

فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر، فقال له: ماأقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك، لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله عز وجل،

فبكى "هارون" بكاءً شديدًا ثم قال: زدني رحمك الله،

فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباس عم المصطفى- صلى الله عليه وسلم- جاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أمِّرني على إمارة، فقال له: إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميرًا فافعل

فبكى "هارون" بكاءً شديدًا

فقال له: زدني رحمك الله، فقال له: يا حسن الوجه! أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تُصبح وتُمسي وفيقلبك غشًا لأحد من رعيتك، فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال:
"من مات غاشًا لرعيته لم يرح رائحة الجنة".

فبكى "هارون" وقال له: عليك دين؟ قال: نعم، دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهمحُجتي.

توبة مالك بن دينار

يقول :" كنت وأنا في ريعان شبابي رئيس حرس الأسواق, وكنت فظا غليظ القلب لا يحبني أحد ولا أحترم أحدا ..
وبينما أنا أجول في السوق رأيت رجلا من التجار, قد لبس الحرير وبين يديه رجل فقير قد جثا على ركبتيه يتوسل ويتضرع ويبكي , , وهو يقول :
يا مولاي لماذا أخذت مني سبعة دراهم وهي محصلة يومي وتعبي وفيها عشاء بنياتي أمهلني ..
يقول : تأثرت بهذا المنظر فجئت إلى الغني وقلت : سبعة دراهم وأنت قد أغناك الله , ردها عليه

فأبى وتكبر, فصفعته صفعة طنت لها أذناه وانقدحت لها عيناه ثم أدخلت يدي في جيبه وأخرجت الدراهم ووضعتها في يد الفقير , فقلت له : انطلق .. فانطلق فرحا يلتفت يجري ,و قلت له :
يا هذا إذا تعشت بنياتك هذه الليلة فقل لهن يدعون لمالك بن دينار ,
يقول فلما أصبح الصباح وبينما أنا في السوق قذف الله فى قلبى حب الزواج , ولكن من يزوجني ؟ فأنا الفظ الغليظ مدمن الخمر لا يرغب بي أحد ,

فاشتريت جاريةً مسلمةً وجعلت عتقها مهرها , ثم تزوجتها , فكانت نعم المرأة عارفة لربها مطيعة لزوجها , كنت أرى فيها الخير والبركة من يوم أن حلت بداري , فقد تركت الخمر , وأقبلت على الصلاة

, ورزقني الله منها بنية صغيرة كنت أرى فيها سعادة الدنيا أراها تلعب أمامي في الدار وتتلقاني إذا جئت وتنام بجواري في الليل وتلاعبني وألاعبها سميتها (فاطمة)

وبينما أنا كذلك ذات يوم , وهي تلعب بين يدي إذ خرت في حجري ميتة ؟
كاد قلبي أن ينخلع من مكانه
فحملتها وقد تدلت رقبتها على يدي , وأخذت أذهب في البيت فاستقبلتني أمها ، ما الذي حدث للبنية ؟ فقلت :
لا أدري كانت تلعب بين يدي فخرت ميتة

فجلست أنا وأمها نبكي ..
وكلما التفت في الدار بعد أن دفنتها وصليت عليها وجدت ذكراها , هذه ألعابها وتلك ملابسها ، إذا جاء الطعام تذكرتها , وإذا جاء المنام تذكرتها حتى أخذ مني الحزن كل مأخذ فأصبحت لا أشتهي الطعام والشراب ..
وإذا جاء الليل أظل أراقب نجومه حتى أنام من الإعياء والتعب ..

وذات ليلة ، بلغ مني الحزن كل مبلغ قلت : لأشربن هذه الليلة حتى أموت , فأحضرت الشراب وجلست أشرب حتى خررت على الأرض صريعا لا أدري كيف ولا أدري متى ..
وبينما أنا في ذنبي ومعصيتي لم أرض بقضاء الله
رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت , وكأن الأرض قد تشققت عن العباد
وأنا أجري أحس بلهيب خلف ظهري
فلما التفت رأيت ثعبانا ينفث نارا , يجري خلفي , إلى أين المهرب ؟فوجدت رجلا عجوزا كريم المحيا
فقلت : يا شيخ :أنقذني من هذا الثعبان!

فقال لي .. يابني أنا ضعيف لا أستطيع
فجريت والثعبان خلفي ووجدت النار تلقاء وجهي ..
فنادى مناد :"إرجع فإنك لست من أهلها"
فعدت للرجل الضعيف وقلت له: بالله عليك أنقذني .
فبكى رأفة بحالي ... وقال: أنا ضعيف كما ترى لا أستطيع فعل شيء ولكن
اذهب إلى ذلك الجبل ففيه ودائع المسلمين لعله أن يكون لك هناك وديعة!!!
فذهبت إلى ذلك الجبل
وإذا به شرفات وفتحات تطل منهن بنيّات (من مات من أطفال المسلمين), فلما رأينني صرخن : يا فاطمة أدركي أباك
فإذا بنيتي الصغيرة تطل من شرفة في الجبل فأخذتني بيدها اليمنى ..
ودفعت الثعبان بيدها اليسرى... وأصعدتني عندها ,

ثم جلست بين يدي وهو تقول :
يا أبتاه ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق )
فقلت ؟ أوتعرفون القرآن ؟قالت: نعم يا أبتاه

قلت:يابنيتي .. أخبريني عن هذا الثعبان!! قالت : هذا عملك السئ أنت كبرته ونميته حتى كاد أن يأكلك .. أما عرفت يا أبي أن الأعمال في الدنيا تعود أجساما يوم القيامة..؟

فقلت: وذلك الشيخ الضعيف؟ قالت : ذلك عملك الصالح .. أنت أضعفته وأوهنته حتى بكى لحالك لا يستطيع أن يفعل لحالك شيئاً...
ثم قالت لى يا أبتاه ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق )
واستيقظت من نومي وكأني أسمع صوتها يتردد وأنا أقول قد آن يارب

فسمعت آذان الفجر فأفقت واستغفرت وتبت إلى الله وحمدت الله أن أحياني إلى الدنيا من جديد ثم ذهبت واغتسلت وتوضأت ثم ذهبت إلى المسجد , أُصلي خلف الإمام وإذا به في الصلاة يقرأ قول الله تعالى :
( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ) يقول :
فانتفض قلبي وفاضت عيناي , وكأنني أنا الوحيد المعني بها وأنا المخاطب بها وذلك من رحمة الله , فاستحييت من الله حق الحياء ..


فلما انتهت الصلاة واستدار الإمام أخذ يفسر لنا قوله تعالى :
( ألم يأن للذين آمنوا ) ويقول : عباد الله إن الله يستحثنا إلى التوبة ...
فهو يقول : ( ألم يأن ) وهي مشتقة من الآن فكأنه يقول : الآن , الآن توبوا قبل أن تفوت هذه اللحظة فيندم الإنسان , الآن الآن إلى التوبة , إلى ذكر الله إلى الخشوع ،

يقول : فتبت إلى الله , واستغفرت لذنبي وتجلت عندي رحمة الله الذي لم يأخذني بمعصيتي فأمهلني حتى تبت وأنبت وذهبت إلى زوجتي

وقلت لها : هيا بنا نشد الرحال لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلب فيها العلم , فوفقني الله إلى كثير منه وعوضني الله خيرا من بنيتي
عوضني أبناء المسلمين يشدون إليّ الرحال من مشارق الأرض ومغاربها يجلسون بين يديّ طول النهار وزلفا من الليل يطلبون العلم ,
أمـا والله لو علم الأنام***لمـا خلقوا لما غفلوا وناموا .
لقد خلقوا لما لو أبصرته***عيون قلوبهم تاهوا وهاموا.
ممات ثم قـبرثم حشـر*** وتوبيخ وأهـوال عظـام.
مالك بن دينار من أئمة التابعين هو الذي اشتهر عنه أنه كان يبكي طول الليل .
ويقول إلهي أنت وحدك الذي يعلم ساكن الجنة من ساكن النار، فأي الرجلين أنا؟
كان يقف كل يوم عند باب المسجد ينادي
ويقول:أيها العبد العاصي عد إلى مولاك .. أيها العبد الغافل عد إلى مولاك ..
أيها العبد الهارب عد إلى مولاك .. مولاك يناديك بالليل والنهار يقول لكم من تقرب مني شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعاً،ومن أتاني يمشي أتيته هرولة
الموت.. صرخات وزفرات

يوم القيامة لو علمت بهوله *** لفررت من أهلٍ ومن أوطانِ
في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

{إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني! وإن كانت غير ذلك قالت -بصرخات تقض المضاجع-: يا ويلها أين تذهبون بها، لما ترى من العذاب، فيسمع صوتها كل شيء إلا الثقلين الإنس والجن }

الموت آت والنفوس نفائس*** والمستغر بما لديهالأحمق.

وتفزع البهائم فزعاً يلاحظه من يتابع سير البهائم بلا سبب، فلعل ذلك مما تسمعه ولا نسمعه نحن من صرخات المفرطين التي تقض المضاجع.

وها هو صلى الله عليه وسلم كما في المسند من حديث البراء
يرى أُناساً مجتمعين فيسأل عن سبب اجتماعهم؟ فقيل: على قبرٍ يحفرونه،
فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً مسرعاً حتى انتهى إلى القبر، فجثى على ركبتيه ثم بكى طويلاً، ثم رفع رأسه، فإذا دموعه تتحدر على لحيته قائلاً:

{أي إخواني! لمثل هذا فأعدوا}.
إلى كم ذا التراخي والتمادي *** وحادي الموت بالأرواح حادي.
فلو كُنَّا جماداً لاتعظنا *** ولكنا أشد من الجماد.
تُنادينا المنية كل وقت *** وما نصغي إلى قول المنادي.
وأنفاس النفوس إلى انتقاصٍ *** ولكن الذنوب إلى ازدياد.
إذا ما الزرع قارنه اصفرار *** فليس دواؤه غير الحصاد.
كأنك بالمشيب وقد تبدَّى *** وبالأخرى مُناديها يُنادي.
وقالوا قد قضى فاقرأ عليه *** سلامكمُ إلى يوم التنادي.

فهلا باركتم لى .. يوم تبت إلى الله ..فقد وُلدت من جديد
بقلم الفقير إلى عفو ربه / أبو مسلم وليد برجاس [نقله لكم أبوضحى