الْحَمْدُ لِلَّهِ
سُورَة الْفَاتِحَة :
وَفِيهَا أَرْبَعَة أَبْوَاب :
[ الْبَاب الْأَوَّل فِي فَضَائِلهَا وَأَسْمَائِهَا ] وَفِيهِ سَبْع مَسَائِل
الْأُولَى :
رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا أَنْزَلَ اللَّه فِي التَّوْرَاة وَلَا فِي الْإِنْجِيل مِثْل أُمّ الْقُرْآن وَهِيَ السَّبْع الْمَثَانِي وَهِيَ مَقْسُومَة بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ) . أَخْرَجَ مَالِك عَنْ الْعَلَاء بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن يَعْقُوب : أَنَّ أَبَا سَعِيد مَوْلَى [ عَبْد اللَّه بْن ] عَامِر بْن كُرَيْزٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَادَى أُبَيّ بْن كَعْب وَهُوَ يُصَلِّي ; فَذَكَرَ الْحَدِيثَ . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : أَبُو سَعِيد لَا يُوقَف لَهُ عَلَى اِسْم وَهُوَ مَعْدُود فِي أَهْل الْمَدِينَة , رِوَايَته عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَحَدِيثه هَذَا مُرْسَل ; وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيث عَنْ أَبِي سَعِيد بْن الْمُعَلَّى رَجُل مِنْ الصَّحَابَة لَا يُوقَف عَلَى اِسْمه أَيْضًا رَوَاهُ عَنْهُ حَفْص بْن عَاصِم , وَعُبَيْد بْن حُنَيْنٍ. قُلْت : كَذَا قَالَ فِي التَّمْهِيد : لَا يُوقَفُ لَهُ عَلَى اِسْم . وَذُكِرَ فِي كِتَاب الصَّحَابَة الِاخْتِلَافُ فِي اِسْمه . وَالْحَدِيث خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد بْن الْمُعَلَّى قَالَ : كُنْت أُصَلِّي فِي الْمَسْجِد فَدَعَانِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ , فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّه إِنِّي كُنْت أُصَلِّي ; فَقَالَ : ( أَلَمْ يَقُلْ اللَّه " اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ " ) [ الْأَنْفَال : 24 ] - ثُمَّ قَالَ - ( إِنِّي لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَة هِيَ أَعْظَم السُّوَر فِي الْقُرْآن قَبْل أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِد ) ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي , فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْت لَهُ : أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَة هِيَ أَعْظَم سُورَة فِي الْقُرْآن ؟ قَالَ : ( الْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْع الْمَثَانِي وَالْقُرْآن الْعَظِيم الَّذِي أُوتِيته ) . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ وَغَيْره : أَبُو سَعِيد بْن الْمُعَلَّى مِنْ جُلَّة الْأَنْصَار , وَسَادَات الْأَنْصَار , تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيّ , وَاسْمه رَافِع , وَيُقَال : الْحَارِث بْن نُفَيْع بْن الْمُعَلَّى , وَيُقَال : أَوْس بْن الْمُعَلَّى , وَيُقَال : أَبُو سَعِيد بْن أَوْس بْن الْمُعَلَّى ; تُوُفِّيَ سَنَة أَرْبَع وَسَبْعِينَ وَهُوَ اِبْن أَرْبَع وَسِتِّينَ سَنَة , وَهُوَ أَوَّل مَنْ صَلَّى إِلَى الْقِبْلَة حِينَ حُوِّلَتْ , وَسَيَأْتِي . وَقَدْ أَسْنَدَ حَدِيث أَبِي يَزِيد بْن زُرَيْعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا رَوْح بْن الْقَاسِم عَنْ الْعَلَاء بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي وَهُوَ يُصَلِّي ; فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ . وَذَكَرَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ فِي كِتَاب الرَّدّ لَهُ : حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْد اللَّه الْوَرَّاق حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا شَيْبَان عَنْ مَنْصُور عَنْ مُجَاهِد قَالَ : إِنَّ إِبْلِيسَ - لَعَنَهُ اللَّه - رَنَّ أَرْبَع رَنَّات : حِين لُعِنَ , وَحِين أُهْبِطَ مِنْ الْجَنَّة , وَحِين بُعِثَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَحِين أُنْزِلَتْ فَاتِحَة الْكِتَاب , وَأُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ.
الثَّانِيَة :
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَفْضِيل بَعْض السُّوَر وَالْآي عَلَى بَعْض , وَتَفْضِيل بَعْض أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى الْحُسْنَى عَلَى بَعْض , فَقَالَ قَوْم : لَا فَضْلَ لِبَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ , لِأَنَّ الْكُلَّ كَلَام اللَّه , وَكَذَلِكَ أَسْمَاؤُهُ لَا مُفَاضَلَة بَيْنَهَا . ذَهَبَ إِلَى هَذَا الشَّيْخ أَبُو الْحَسَن الْأَشْعَرِيّ , وَالْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الطَّيِّب , وَأَبُو حَاتِم مُحَمَّد بْن حِبَّان الْبُسْتِيّ , وَجَمَاعَة مِنْ الْفُقَهَاء . وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ مَالِك. قَالَ يَحْيَى بْن يَحْيَى : تَفْضِيل بَعْض الْقُرْآن عَلَى بَعْض خَطَأ , وَكَذَلِكَ كَرِهَ مَالِك أَنْ تُعَادَ سُورَة أَوْ تُرَدَّد دُون غَيْرهَا . وَقَالَ عَنْ مَالِك فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى : " نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلهَا " [ الْبَقَرَة : 106 ] قَالَ : مُحْكَمَة مَكَان مَنْسُوخَة . وَرَوَى اِبْن كِنَانَة مِثْل ذَلِكَ كُلّه عَنْ مَالِك . وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِأَنْ قَالُوا : إِنَّ الْأَفْضَلَ يُشْعِر بِنَقْصِ الْمَفْضُول , وَالذَّاتِيَّة فِي الْكُلّ وَاحِدَة , وَهِيَ كَلَام اللَّه , وَكَلَام اللَّه تَعَالَى لَا نَقْص فِيهِ . قَالَ الْبُسْتِيّ : وَمَعْنَى هَذِهِ اللَّفْظَة ( مَا فِي التَّوْرَاة وَلَا فِي الْإِنْجِيل مِثْل أُمّ الْقُرْآن ) : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعْطِي لِقَارِئِ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل مِنْ الثَّوَاب مِثْل مَا يُعْطِي لِقَارِئِ أُمّ الْقُرْآن , إِذْ اللَّه بِفَضْلِهِ فَضَّلَ هَذِهِ الْأُمَّة عَلَى غَيْرهَا مِنْ الْأُمَم , وَأَعْطَاهَا مِنْ الْفَضْل عَلَى قِرَاءَة كَلَامه أَكْثَر مِمَّا أَعْطَى غَيْرهَا مِنْ الْفَضْل عَلَى قِرَاءَة كَلَامه , وَهُوَ فَضْل مِنْهُ لِهَذِهِ الْأُمَّة. قَالَ وَمَعْنَى قَوْله : ( أَعْظَم سُورَة ) أَرَادَ بِهِ فِي الْأَجْر , لَا أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآن أَفْضَل مِنْ بَعْض . وَقَالَ قَوْم بِالتَّفْضِيلِ , وَأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْله تَعَالَى " إِلَهكُمْ إِلَه وَاحِد لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم " [ الْبَقَرَة : 163 ] وَآيَة الْكُرْسِيّ , وَآخِر سُورَة الْحَشْر , وَسُورَة الْإِخْلَاص مِنْ الدَّلَالَات عَلَى وَحْدَانِيّته وَصِفَاته لَيْسَ مَوْجُودًا مَثَلًا فِي " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب " [ الْمَسَد : 1 ] وَمَا كَانَ مِثْلهَا .
وَالتَّفْضِيل إِنَّمَا هُوَ بِالْمَعَانِي الْعَجِيبَة وَكَثْرَتهَا , لَا مِنْ حَيْثُ الصِّفَة , وَهَذَا هُوَ الْحَقّ . وَمِمَّنْ قَالَ بِالتَّفْضِيلِ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء وَالْمُتَكَلِّمِينَ , وَهُوَ اِخْتِيَار الْقَاضِي أَبِي بَكْر بْن الْعَرَبِيّ وَابْن الْحَصَّار , لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيد بْن الْمُعَلَّى وَحَدِيث أُبَيّ بْن كَعْب أَنَّهُ قَالَ قَالَ لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا أُبَيّ أَيّ آيَة مَعَك فِي كِتَاب اللَّه أَعْظَم ) قَالَ فَقُلْت : " اللَّه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم " [ الْبَقَرَة : 255 ] . قَالَ : فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ : ( لِيَهْنِكَ الْعِلْم أَبَا الْمُنْذِر ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم .
قَالَ اِبْن الْحَصَّار : عَجَبِي مِمَّنْ يَذْكُر الِاخْتِلَافَ مَعَ هَذِهِ النُّصُوص . وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : قَوْله : ( مَا أَنْزَلَ اللَّه فِي التَّوْرَاة وَلَا فِي الْإِنْجِيل وَلَا فِي الْقُرْآن مِثْلَهَا ) وَسَكَتَ عَنْ سَائِر الْكُتُب , كَالصُّحُفِ الْمُنَزَّلَة وَالزَّبُور وَغَيْرهَا , لِأَنَّ هَذِهِ الْمَذْكُورَةَ أَفْضَلهَا , وَإِذَا كَانَ الشَّيْء أَفْضَلَ الْأَفْضَلِ , صَارَ أَفْضَلَ الْكُلِّ . كَقَوْلِك : زَيْد أَفْضَلُ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ أَفْضَلُ النَّاسِ . وَفِي الْفَاتِحَة مِنْ الصِّفَات مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا , حَتَّى قِيلَ : إِنَّ جَمِيعَ الْقُرْآن فِيهَا . وَهِيَ خَمْس وَعِشْرُونَ كَلِمَة تَضَمَّنَتْ جَمِيعَ عُلُوم الْقُرْآن. وَمِنْ شَرَفهَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانه قَسَمَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْده , وَلَا تَصِحّ الْقُرْبَة إِلَّا بِهَا , وَلَا يُلْحَق عَمَل بِثَوَابِهَا , وَبِهَذَا الْمَعْنَى صَارَتْ أُمّ الْقُرْآن الْعَظِيم , كَمَا صَارَتْ " قُلْ هُوَ اللَّه أَحَد " تَعْدِل ثُلُثَ الْقُرْآن , إِذْ الْقُرْآن تَوْحِيد وَأَحْكَام وَوَعْظ , وَ " قُلْ هُوَ اللَّه أَحَد " فِيهَا التَّوْحِيد كُلّه , وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الْبَيَان فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لِأُبَيٍّ . ( أَيّ آيَة فِي الْقُرْآن أَعْظَم ) قَالَ : " اللَّه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم " [ الْبَقَرَة : 255 ] . وَإِنَّمَا كَانَتْ أَعْظَمَ آيَة لِأَنَّهَا تَوْحِيد كُلّهَا كَمَا صَارَ قَوْله : ( أَفْضَل مَا قُلْته أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ) أَفْضَل الذِّكْر ; لِأَنَّهَا كَلِمَات حَوَتْ جَمِيعَ الْعُلُوم فِي التَّوْحِيد , وَالْفَاتِحَة تَضَمَّنَتْ التَّوْحِيدَ وَالْعِبَادَةَ وَالْوَعْظَ وَالتَّذْكِيرَ , وَلَا يُسْتَبْعَد ذَلِكَ فِي قُدْرَة اللَّه تَعَالَى .
الثَّالِثَة :
رَوَى عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَاتِحَة الْكِتَاب , وَآيَة الْكُرْسِيّ , وَشَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ , وَقُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْك , هَذِهِ الْآيَات مُعَلَّقَات بِالْعَرْشِ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ اللَّه حِجَاب ) . أَسْنَدَهُ أَبُو عَمْرو الدَّانِي فِي كِتَاب الْبَيَان لَهُ .
بنت ابوها
المفضلات