شرح حديث (إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها)

تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: أبو العلا محمد عبد الرحمن المباركفورى (المتوفى: 1353هـ)
‏ ‏قَوْلُهُ : ( حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ) ‏ ‏هُوَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ ‏ ‏( أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ ) ‏ ‏هُوَ الْمِنْقَرِيُّ ‏ ‏( أَخْبَرَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ ) ‏ ‏هُوَ الْعَطَّارُ الْبَصْرِيُّ ‏ ‏( أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ ) ‏ ‏هُوَ الطَّائِيُّ ‏ ‏( عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ ) ‏ ‏بْنِ أَبِي سَلَّامٍ مَمْطُورٍ الْحَبَشِيِّ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُعْجَمَةِ ثِقَةٌ مِنْ السَّادِسَةِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ.
وَقَالَ صَاحِبُ مَجْمَعِ الْبِحَارِ فِي الْمُغْنِي : الْحَبَشِيُّ بِمُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ وَمُعْجَمَةٍ مَنْسُوبٌ إِلَى الْحَبَشِ , أَيْ الْجَبَلِ الْأَسْوَدِ وَإِلَى حَبَشٍ حَيٍّ مِنْ الْيَمَنِ , مِنْهُمْ أَبُو سَلَّامٍ مَمْطُورٌ الْأَعْرَجُ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ قَالَ الْأَصِيلِيُّ : الْحَبَشِيُّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ اِنْتَهَى ‏ ‏( أَنَّ أَبَا سَلَّامٍ ) ‏ ‏بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَاسْمُهُ مَمْطُورٌ هُوَ جَدُّ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ ‏ ‏( أَنَّ الْحَارِثَ الْأَشْعَرِيَّ ) ‏ ‏قَالَ فِي التَّقْرِيبِ الْحَارِثُ بْنُ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيُّ الشَّامِيُّ صَحَابِيٌّ , يُكَنَّى أَبَا مَالِكٍ تَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ أَبُو سَلَّامٍ وَفِي الصَّحَابَةِ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ اِثْنَانِ غَيْرُ هَذَا.
‏ ‏قَوْلُهُ : ( إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا ) ‏ ‏أَيْ أَوْحَى إِلَيْهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ اِبْنِ خُزَيْمَةَ ‏ ‏( وَإِنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِهَا ) ‏ ‏مِنْ الْإِبْطَاءِ وَهُوَ ضِدُّ الْإِسْرَاعِ , وَفِي رِوَايَةِ اِبْنِ خُزَيْمَةَ : " فَكَأَنَّهُ أَبْطَأَ بِهِنَّ " " فَقَالَ يَحْيَى أَخْشَى إِنْ سَبَقْتنِي بِهَا إِلَخْ " وَفِي رِوَايَةِ اِبْنِ خُزَيْمَةَ : فَقَالَ يَا أَخِي لَا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخَافُ إِنْ سَبَقْتنِي بِهِنَّ إِلَخْ ‏ ‏( فَجَمَعَ النَّاسَ ) ‏ ‏أَيْ بَنَى إِسْرَائِيلَ كَمَا فِي رِوَايَةِ اِبْنِ خُزَيْمَةَ ‏ ‏( فَامْتَلَأَ ) ‏ ‏وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَامْتَلَأَ الْمَسْجِدُ ‏ ‏( وَقَعَدُوا عَلَى الشُّرَفِ ) ‏ ‏بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ جَمْعُ شُرْفَةٍ.
قَالَ فِي الْقَامُوسِ : شُرْفَةُ الْقَصْرِ بِالضَّمِّ مَعْرُوفٌ وَالْجَمْعُ شُرَفٌ.
وَقَالَ فِي الصُّرَاحِ : شُرْفَةٌ بِالضَّمِّ كَنُكْرَةٍ ‏ ‏( فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ ) ‏ ‏زَادَ فِي رِوَايَةِ اِبْنِ خُزَيْمَةَ : فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ‏ ‏( فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ ) ‏ ‏وَفِي رِوَايَةِ اِبْنِ خُزَيْمَةَ : فَإِنَّ اللَّهَ يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ إِلَى وَجْهِ عَبْدِهِ ‏ ‏( فِي عِصَابَةٍ ) ‏ ‏بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ جَمَاعَةٍ ‏ ‏( مَعَهُ صُرَّةٌ ) ‏ ‏بِضَمِّ الصَّادِ وَشِدَّةِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ.
‏ ‏قَالَ فِي الْقَامُوسِ : هِيَ شَرْحُ الدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهَا ‏ ‏( فَكُلُّهُمْ يُعْجَبُ أَوْ يُعْجِبُهُ رِيحُهَا ) ‏ ‏أَوْ لِلشَّكِّ مِنْ الرَّاوِي وَفِي رِوَايَةِ اِبْنِ خُزَيْمَةَ كُلُّهُمْ يُحِبُّ أَنْ يَجِدَ رِيحَهَا ‏ ‏( أَنَا أَفْدِيهِ ) ‏ ‏مِنْ الْفِدَاءِ وَهُوَ فِكَاكُ الْأَسِيرِ أَيْ أَفُكُّ عُنُقِي ‏ ‏( بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ) ‏ ‏أَيْ بِجَمِيعِ مَالِي ‏ ‏( خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ ) ‏ ‏قَالَ فِي الْقَامُوسِ : خَرَجَ فِي أَثَرِهِ وَإِثْرِهِ أَيْ بَعْدَهُ ‏ ‏( سِرَاعًا ) ‏ ‏بِكَسْرِ السِّينِ حَالٌ مِنْ الْعَدُوِّ أَيْ مُسْرِعِينَ ‏ ‏( حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ ) ‏ ‏الْحِصْنُ بِالْكَسْرِ : كُلُّ مَكَانٍ مَحْمِيٍّ مَنِيعٍ لَا يُوصَلُ إِلَى جَوْفِهِ , وَالْحَصِينُ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْمَنِيعُ , يُقَالُ دِرْعٌ حَصِينٌ : أَيْ مُحْكَمَةٌ وَحِصْنٌ حَصِينٌ لِلْمُبَالَغَةِ ‏ ‏( فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ ) ‏ ‏أَيْ حَفِظَهَا مِنْهُمْ ‏ ‏( السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ ) ‏ ‏أَيْ لِلْأَمِيرِ فِي غَيْرِ الْمَعْصِيَةِ ‏ ‏( وَالْجِهَادُ ) ‏ ‏أَيْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ ‏ ‏( وَالْهِجْرَةُ ) ‏ ‏أَيْ الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ , وَمِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَمِنْ دَارِ الْبِدْعَةِ إِلَى دَارِ السُّنَّةِ , وَمِنْ الْمَعْصِيَةِ إِلَى التَّوْبَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ" ‏ ‏( وَالْجَمَاعَةُ ) ‏ ‏قَالَ الطِّيبِيُّ : الْمُرَادُ بِالْجَمَاعَةِ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ , أَيْ آمُرُكُمْ بِالتَّمَسُّكِ بِهَدْيِهِمْ وَسِيرَتِهِمْ وَالِانْخِرَاطِ فِي زُمْرَتِهِمْ ‏ ‏( فَإِنَّهُ ) ‏ ‏قَالَ الطِّيبِيُّ : اِسْمُ إِنَّ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ تَفْسِيرُهُ وَهُوَ كَالتَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالتَّمَسُّكِ بِعُرَى الْجَمَاعَةِ ‏ ‏( قِيدَ شِبْرٍ ) ‏ ‏بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ قَدْرَهُ وَأَصْلُهُ الْقَوَدُ مِنْ الْقَوَدِ وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ وَالْقِصَاصُ , وَالْمَعْنَى مَنْ فَارَقَ مَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ بِتَرْكِ السُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ الْبِدْعَةِ وَنَزَعَ الْيَدَ عَنْ الطَّاعَةِ وَلَوْ كَانَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ يُقَدَّرُ فِي الشَّاهِدِ بِقَدْرِ شِبْرٍ ‏ ‏( فَقَدْ خَلَعَ ) ‏ ‏أَيْ نَزَعَ ‏ ‏( رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ ) ‏ ‏بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ عُرْوَةٌ فِي حَبْلٍ يُجْعَلُ فِي عُنُقِ الْبَهِيمَةِ أَوْ يَدِهَا تُمْسِكُهَا فَاسْتَعَارَهَا لِلْإِسْلَامِ , يَعْنِي مَا شَدَّ الْمُسْلِمُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ عُرَى الْإِسْلَامِ أَيْ حُدُودِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْمَعْنَى فَقَدْ نَبَذَ عَهْدَ اللَّهِ وَأَخْفَرَ ذِمَّتَهُ الَّتِي لَزِمَتْ أَعْنَاقَ الْعِبَادِ لُزُومَ الرِّبْقَةِ بِالْكَسْرِ وَهِيَ وَاحِدَةُ الرِّبْقِ وَهُوَ حَبْلٌ فِيهِ عِدَّةُ عُرًى يُشَدُّ بِهِ الْبُهْمُ , أَيْ أَوْلَادُ الضَّأْنِ , وَالْوَاحِدَةُ مِنْ تِلْكَ الْعُرَى رِبْقَةٌ ‏ ‏( وَمَنْ اِدَّعَى دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ) ‏ ‏قَالَ الطِّيبِيُّ : عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي وَقَعَتْ مُفَسِّرَةً لِضَمِيرِ الشَّأْنِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْجَمَاعَةِ وَعَدَمَ الْخُرُوجِ عَنْ زُمْرَتِهِمْ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ , وَالْخُرُوجَ مِنْ زُمْرَتِهِمْ مِنْ هِجِّيرَى الْجَاهِلِيَّةِ , كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ , وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ".
فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ بِسُنَنِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِأَنَّهَا تَدْعُو إِلَيْهَا وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْ مَا قَالَ الْقَاضِي , وَالْوَجْهُ الْآخَرُ الدَّعْوَى تُطْلَقُ عَلَى الدُّعَاءِ وَهُوَ النِّدَاءُ , وَالْمَعْنَى مَنْ نَادَى فِي الْإِسْلَامِ بِنِدَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ خَصْمُهُ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ قَوْمَهُ : يَا آلَ فُلَانٍ فَيَبْتَدِرُونَ إِلَى نَصْرِهِ ظَالِمًا كَانَ أَوْ مَظْلُومًا جَهْلًا مِنْهُمْ وَعَصَبِيَّةً.
‏ ‏وَحَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ يَرْجِعُ أَيْضًا إِلَى الْوَجْهِ السَّابِقِ ‏ ‏( فَإِنَّهُ ) ‏ ‏أَيْ الدَّاعِيَ الْمَذْكُورَ ‏ ‏( مِنْ جُثَى جَهَنَّمَ ) ‏ ‏بِضَمِّ الْجِيمِ : مَقْصُورٌ أَيْ مِنْ جَمَاعَاتِهَا جَمْعُ جَثَوَةٍ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ , وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمَجْمُوعَةُ , وَرُوِيَ مِنْ جُثِيِّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ جَمْعُ جَاثٍ مِنْ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَجْثُو وَيَجْثِي وَكَسْرُ الْجِيمِ جَائِزٌ لِمَا بَعْدَهَا مِنْ الْكِسْرَةِ وَقُرِئَ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } ‏ ‏( وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ ) ‏ ‏أَيْ وَلَوْ صَلَّى وَصَامَ.
‏ ‏قَوْلُهُ : ( هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ) ‏ ‏وَأَخْرَجَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَالْحَاكِمُ وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِبَعْضِهِ.