احبتي في الله
السلام عليكم
هذا مقال مفيد اضعه هنا لفائدة
من مظاهر العلمنة الشاملة في الدولة الصهيونية
الكاتب : د· عبد الوهاب المسيري
المصدر : صحيفة الاتحاد الإماراتية: 31/12/2002
يمكن تمييز نوعين أساسيين من العلمانية، فهناك العلمانية الجزئية التي تعني فصل الدين عن الدولة، على أن تظل هناك مرجعية ما للدولة وللفرد، أما العلمانية الشاملة فهي فصل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن الدولة والمجتمع، بل وعن الحياة في جانبها العام والخاص بحيث يتحول العالم بأسره إلى مادة استعمالية. وتتسم العلمانية الشاملة بغياب أية مرجعية فلسفية وأخلاقية وأية معيارية، ومن ثم تصبح القوة الذاتية هي المعيار الوحيد، فالأقوى هو القادر على توظيف العالم والآخرين لحسابـه.
العلمانيـة الشامـلة إذاً هي النسبية الأخلاقيـة التي ترفض أية معيارية والداروينية التي لا تقبل سوى القوة. ومن هذا المنظور فإن العلمانية الشاملة هي الإمبريالية، حيث تتحرك الكتلة البشرية الأقوى لتبطش بالأضعف وتوظفه لحسابها، دون الالتزام بأية قيم خارجة عن ذاتها. والدولة الصهيونية دون شك دولة داروينية تستخدم ما عندها من قوة للاستيلاء على الأرض الفلسطينية وطرد سكانها أو توظيفهم واستغلال مصادرهم الطبيعية لحسابها. فالدولة الصهيونية بهذا المعنى دولة علمانية شاملة، لا تتقيد بأية قيم إنسانية أو أخلاقية.
وقد كان هذا الأمر واضحاً لمؤسس الصهيونية، فهرتزل كان يبحث عن أية أرض لتوطين اليهود فيها، ولم يعر القدس أي اهتمام، لأنه كان يريد الأرض العلمانية، على حد قوله. وعندما زار القدس تعمد انتهاك العديد من الشعائر الدينية الصهيونية لكي يؤكد أن الرؤية الصهيونية رؤية علمانيـة لا دينية. وكذا كان الوضع مع ماكس نوردو الذي كان يجهر بإلحاده، ويؤكد دائماً أن كتاب هرتزل دولة اليهود سيحل محل التوراة باعتباره كتاب اليهود المقد.
وقد أسس الصهاينة العماليون المستوطَن الصهيوني، وهؤلاء ملحدون بشراسة. فكانوا يحرصون على الذهاب إلى حائط المبكى في يوم الغفران (أكثر الأيام قداسة في التقويم الديني اليهودي) ويلتهمون شطائر من لحم الخنزير تعبيراً عن رفضهم لليهودية. ولا تزال الكيبوتسات مؤسسات علمانية تماماً ترفض الاحتفال بالأعياد الدينية وتغير كثيراً من النصوص الدينية. فقد جاءت في أحد المزامير (118/24) العبارة التالية: هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فتم تغييرها إلى العبارة التالية: هذا هو اليوم الذي صنعه جيش الدفاع الإسرائيلي. والمؤسسة الصهيونية العلمانية تعتبر التوراة كتاب فلكلور، وليست كتاباً مقدساً (على حد قول بن جوريون) والخالق هو الشعب اليهودي (على حد قول جابوتنسكي) أو أرض إسرائيل (على حد قول ديان).
ولا يعني هذا تقلص المؤسسة الدينية في الدولة الصهيونية، بل العكس فإن نفوذها يتزايد، ولكنها مرت هي الأخرى بعملية صهينة وعلمنة، ولم تعد تلتزم بأية قيم أخلاقيـة أو إنسانية أو دينية، بل تجعل الشعب اليهـودي مرجعية ذاته، ومن ثم تؤيد اغتصـاب الأرض وقتل الأبرياء مستخدمة ديباجات دينية لتبرير الأفعال الداروينية العلمانية.
وبالإضافة إلى علمنة العقيدة اليهودية فإن هناك أشكالاً أخرى من العلمنة تفت في عضد المشروع الصهيوني. ففي كتابه إلفيس بريسلي في القدس (نيويورك 2002)، يذكر توم سجيف أنه لدى توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 تظاهر حوالي 60 ألفاً من الإسرائيليين أمام مكتب رئيس الوزراء في القدس، وفي الليلة نفسها أُقيمت حفلة غنائية لمايكل جاكسون في تل أبيب حضرها 60 ألفاً. وتبين ظاهرة دانا انترناشيونال تغلغل النسبية الأخلاقية في التجمع الصهيوني. ودانا انترناشيونال هذه مغنية مشهورة للغاية مثلت "إسرائيل" في مهرجان غنائي في أوروبا وحازت الجائزة الأولى. وعند عودتها أرسل لها بنيامين نتانياهو، رئيس الوزراء آنذاك، خطاب تهنئة كما عُينت سفيرة شرفية لإسرائيل. وكانت دانا في الأصل رجلاً شاذاً من أصل يمني يسمى بارون كوهين ثم أجرى عملية جراحية تحول بعدها إلى امرأة. وقد تحدث عمليات تغيير الجنس هذه في كل المجتمعات بنسبٍ مختلفة، ولكن عندما يتحول الفعل الفردي إلى رمز قومي، فلابد من دراسة المسألة باعتبارها قضية اجتماعية وليست سلوكاً فردياً.
ويصدق هذا أيضاً على الشذوذ الجنسي. فالعهد القديم يحرم بوضوح العلاقات الجنسية بين أفرادٍ من الجنس نفسه، ولكن مع تزايد عملية علمنة اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية في العصر الحديث تزايد قبول الشذوذ الجنسي باعتباره شيئاً طبيعياً. وهذه نتيجة حتمية لغياب اليقين المعرفي والمرجعية الأخلاقية والإنسانية وإنكار أية معيارية. واليهودية الإصلاحية والمحافظة -وهما أكبر الفرق الدينية اليهودية في الغرب- لا تحرمان الشذوذ الجنسي، بل وأسست معابد يهودية ومدارس تلمودية للشواذ، ورسم بعض الشواذ كحاخامات.
وإذا كان الاهتمام في المرحلة الأولى لبناء الدولة الصهيونية قد انصب على بناء الشخصية الإسرائيلية، القتالية والمنتجة، وسادت معايير مثل التقشف والتضحية بالذات والإحساس بالجماعة، فقد تغير الوضع بعد عام 1967، حيث دخل المجتمع الصهيوني المرحلة الاستهلاكية وتزايد التوجه نحو اللذة والفردية، وتبدلت المعايير السائدة. فبدلاً من إرجاء الإشباع ظهرت ضرورة الإشباع الفوري، وبدلاً من الإحساس بالانتماء إلى الجماعة ظهرت عقلية الأنا، وبدلاً من اليقين الصهيوني سادت القيم النسبية. وعادةً ما يصاحب مثل هذا التغير تقبل تدريجي لكل شيء بما في ذلك الشذوذ الجنسي.
وقد تأسست جماعة للشواذ جنسياً تُسمى جماعة الدفاع عن الحقوق الشخصية عام 1975 على يد بعض المهاجرين من الولايات المتحدة وإنجلترا، ورغم أن القانون الإسرائيلي كان يجرم العلاقات الجنسية الشاذة، فقد ظلت السلطات التنفيذية الإسرائيلية تتسامح مع مثل هذه العلاقات. وفي عام 1988، ألغى الكنيست القانون الذي يجرم الشذوذ الجنسي، ومنذ ذلك الحين، ظهرت عدة مجلات بالعبرية والإنجليزية للشواذ في إسرائيل. وفي يونيو 1991، عُقد في تل أبيب المؤتمر الدولي الثالث للشواذ جنسياً من الذكور والإناث والمتحولين إلى الجنس الآخر. وفي عام 1992، أصدر الكنيست قانوناً يحرم التمييز على أساس الميول الجنسية وإن كان لا يعفي الشواذ من الخدمة العسكرية بل يكتفي بنقلهم إلى مواقع غير مهمة أمنياً. وفي العام التالي، ألغى الجيش الإسرائيلي كل القوانين التي تميز ضد الشواذ. وفي عام 1994، أصدرت المحكمة العليا قراراً يلزم شركة العال بمعاملة رفيق الشاذ جنسياً معاملة الزوج أو الزوجة العاديين. وفي نهاية الأمر اعترفت المحاكم الإسرائيلية بحق الشاذ في العيش مع شريك من الجنس نفسه، والاعتراف به زوجاً أمام القانون.
ومن المفارقات أن المعارضة الدينية كانت من أهم الأسباب التي أدت إلى تزايد تقبل المجتمع الإسرائيلي للشذوذ الجنسي، فتصاعد الاعتراض الديني يقابله تصاعد تأييد العلمانيين كرد فعل، وبهذا المعنى فإن تزايد تقبل الشذوذ هو تعبير عن احتدام الاستقطاب الديني العلماني.
لكم تحياتي
ناصر
المفضلات