المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عاصفة الشمال
أختنا الفاضلة / عاصفة الشمال أشكر لك متابعتك ..
و للحق فإنني استمتعت جداً بهذا الكتاب خاصة أنه طبيب و لا مس واقعنا الصحي ..
و أشكر المتابعة الصامتة من البقية من الاعضاء .
على مدار السنة نلتقي طلاب المدارس في المسجد الحرام للمذاكرة أفراداً و جماعات . و الحرم المكي يحقق لنا أغراضاً أخرى غير المذاكرة فأكثرنا تخلو بيوتهم من الكهرباء أو المراوح التي تخفف من وطأت الحر ، و من ثم فالحرم مكان صالح للمذاكرة لمن شاء ، و للقاء الأصدقاء لمن يرغب ، و في أضواءه و مراوحه الكهربائية ما يوفر جواً لا نحظى بمثله في أكثر بيوتنا .
ذكرى أخرى لا تغيب عن ذاكرتي و أنا أستعرض شريط طفولتي تلك هي شهور الصيف التي كنا نقضيها في الطائف . و الطائف الذي لا يبعد عن مكة أكثر من ثمانين كيلاً كان يستغرق السفر إليه يوماً و ليلة في طريق وعرة بين جبال و وهاد .
يبدأ الاستعداد للسفر إلى الطائف بالاتفاق بين أسرتين أو أكثر على الاشتراك في الرحلة ، تستأجر السيارة اللوري و في حوضها يرتب الفرش و الأثاث لتغدو مكاناً صالحاً للجلوس ، و في وسطها تنصب ستارة تفصل بين الرجال و النساء . و تقلع السيارة في أمان الله في اتجاه الطائف عصراً .
محطتنا الأولى ( الزيما ) للتزود بالوقود و شراء الموز ، و ما أدراك ما موز ( الزيما ) بحجمه الصغير و نكهته المميزة . و نقف في السيل الصغير للراحة و شرب الشاي ، ثم في السيل الكبير لتناول طعام العشاء و المبيت . عشاؤنا قوامه اللحم المقدد و أطباق الرز و السلطات تتفنن السيدات في تهيئتها قبل السفر .فإذا ما أذن لصلاة الفجر أُديت الصلاة و أنطلق الركب يصعد جبل ( كرى ) في اتجاه الطائف ، المحظوظون هم الذين تقوى سياراتهم على اجتياز ريع المنحوت .. هضبة عالية كأداء .
أما إن عجزت السيارة عن اجتيازها فعلى الركب أن ينزل لتخف حمولة السيارة ، و على الرجال أن يدفعوا السيارة إلى أعلى الهضبة ، و يكبحوا عجلاتها بالحجارة و الصخور حتى لا تنحدر إلى أسفل .
نقبل على الطائف فنتنسم هوائه البارد المنعش ، يستقبلنا بعد حر مكة و سمومها ، الحجز المسبق لم نكن نعرفه في عصر ما قبل الفاكس و البريد الالكتروني ، و إنما هي جولة في أحياء الطائف و مرور على البيوت المعروضة للإيجار . و اتفاق مع صاحب السكن على أجرة الصيف ، و لم تكن تتجاوز حفنة من الريالات .
في ذاكرتي صورة حية للبيت الذي كنا نستأجره لشهور الصيف ، بيت من لبن من دور واحد ، تتوسطه ساحة صغيرة تنتصب فيها نافورة ماء ن و تحيط بها بضع غرف صغيرة ، و لا تعدم أن تجده فيها شجرة توت تلقى بظلها على الساحة أو شجيرة فل تبعث بشذاها فيغمر البيت . سألت أمي مره عن ما كنا نحمله معنا من مكة من أثاث فقالت هي بضعة فرش ، و ثلاث كوابر ( صناديق ) ، تحتوي على الملابس و أدوات المطبخ و معدات الشاي ، ترتيب الأثاث لا يستغرق غير سويعة من زمن ، ينتشر بعدها أهل البيت ليكتشفوا الحي و يتعرفوا على الجيران و قبل أن تتصحر الجزيرة العربية بفعل الزمن و تغير البيئة و أفعال الناس التي لا تسر ، كان المطر ينزل هتاناً طوال أيام الصيف . في العصر تلتقي النساء في البساتين المحيطة بالطائف ، و أكثرها لا يبعد غير ( فركة كعب ) من وسط المدينة مشياً على الأقدام و من كانت أمورهن ميسورة استأجرن عربة يجرها حصان و انطلقن إلى ربوع المثناة و غيرها من الضواحي البعيدة . يتمثل لي الطائف يوم ذاك بستان كبير تتوسطه مدينة صغيرة بيوتها من لبن ، يغشيها السحاب و تلفها نسائم رقيقة باردة .
في الأمسيات تلتقي النسوة في جلسات سمر يتخللها لعب البشيس ، و الضومنة ، و الاسكنبيل ، و الكمكم ، و السقيطة ، و يلتففن فيها حول ستي رقية ( الخطاطة ) ، ترمي الودع و قطع الزجاج الملون لمعرفة البخت و النصيب و استشراف المستقبل ! .
كان أكثر ما يستهويني حكايات حديدوان و الشاطر حسن و أمنا الغولة . أتحلق و صحبي من الأطفال حول ( ستي نور ) أو ( أمي عيشة كيفينو ) نستزيد منها و نستعيد ما قد روي لنا فلا نمل ، و نتعش أخيلتنا بهذه الأساطير . لعل بعض باحثينا يتصدى للمقارنة بين حكايات ستي نور و أمي عيشة كيفينو ، و عالم التلفزيون و الانترنت و الواقع الافتراضي و تأثيرهما على أطفال الأمس و اليوم .
أجمل الليالي كنا نعيشها في شهر رمضان و فيه يتبدل وجه الحياة . يذهب الموظفون إلى دوائرهم الحكومية من بعد صلاة التراويح إلى قبيل السحور ، و تفتح المحلات التجارية و الأسواق أبوابها حتى الفجر ، و يتجمع الصبية في الحواري و الساحات المضاءة بالكهرباء يلعبون الكرة ، و الكبت ، و الكبوش ، و البراجوة ، و لا يعودون إلى بيوتهم إلا في وهن من الليل .
في منتصف الخمسينيات الميلادية بناء لنا الوالد بيتا صغيراً في المثناة على ربوة تطل على بساتينها ، و كانت لي مع صحبي صولات و جولات في المثناة و ربوعها و ما يحيط بها من ضواح ، ننطلق في رحلاتنا إلى بساتين الوهط و الوهيط على بعد أميال من المثناة ، أو نذهب إلى الطائف و منها إلى وادي المحرم و الهدى و الشفا و بلاد ثمالة و السد السملقي . وسائلنا لهذه الرحلات متنوعة ، مرة على ظهور الحمير و أخرى بالدرجات أو السيارات .
نقضي في رحلاتنا هذه يوماً أو بعض يوم نمضيه في لعب الكرة و المسابقات . أكلتنا المفضلة الرز و العدس ، لا لقيمتها الغذائية ، و إنما لرخصها و سهولة إعدادها .
دعني أصف لك رحلة من رحلاتنا الشبابية تلك . كنا مجموعة من الأصدقاء لا يزيد عددنا عن عشرة ، تتراوح أعمارنا بين السادسة عشر و الثامنة عشر .
أقلتنا سيارة ( بكـــس ) من الطائف إلى وادي المحرم ، بتنا ليلتنا في بستان صغير دفعنا كراءه عشرة ريالات ، و مع بزوغ الشمس استأجرنا جملاً حملنا عليه بعض طعامنا و فراشنا ، و انطلقنا مشياً على الأقدام نتسلق الجبال المصعدة إلى الهدى . السحاب يغطي قمم الجبال و الهواء البارد يلفح وجوهنا و الأمطار تنزل رذاذاً بين الفينة و الأخرى . و على قمة من قمم الهدى تعانق الغيوم و تطل على وديان تهامة ، استأجرنا حجرة وضعنا فيها متاعنا و انطلقنا نستكشف الطبيعة البكر من حولنا . أما عشاؤنا فخبز ( المجرفة ) و تين شوكي ( برشومي ) ما تنتجه جبال الهدى .هذه الرحلات أفادتنا ، ليس فقط بما فيها من حركة و انطلاق و إنما أيضاً بما كانت تهيئه لنا من فرص للتكيف الاجتماعي ، ترى : أين هذه المناشط التي كنا نقوم بها في صبانا من الوفاق الذي يربط شباب اليوم بأجهزة الكمبيوتر و الفيديو و التلفزيون ، لا شك أن معلومتنا كانت أقل بيد أن اتصالنا بالحياة كان أكبر .
لست في موضع المفاضلة ، فلكل زمان سمته و طابعه ، و مهما تحدثنا عن عبق الماضي فلن نستطيع أن ننكر ما يوفره الحاضر من إثارة ، ثم إننا لن نعيد عقارب الساعة إلى الوراء .
أعود بذكرياتي إلى المدرسة .. أنهينا دراستنا الابتدائية أخي أسامة و أنا في المدرسة العزيزية في باب زيادة ، و انتقلنا إلى مدرسة تحضير البعثات في مقرها القديم إلى جوار الحرم قبل أن تنتقل إلى مبانيها الحديثة في ( جرول ) و يصبح اسمها العزيزية الثانوية . و منها حصلت على شهادة الثانوية العامة في عام 1376هـ ( 1956م ) .ظلت القراءة تستهويني و تستغرق جل وقتي ، تدرجت في قراءاتي من أساطير عنترة و سيف بن ذي يزن وروايات أرسين لوبين ، إلى الأدب و الشعر المهجري ، مروراً بألوان شتى من المطالعات لا يربطها رابط إلا عشقي للقراءة . و أذكر أني فزت بالجائزة الأولى في مسابقة أجرتها الإذاعة السعودية بين طلاب المدارس .كان الموضوع الذي حصلت فيه على الجائزة بعنوان " الذاكرة " أما الجائزة فكتب بمبلغ 70ريالاً . و اصطحبني مندوب الإذاعة يحمل كيساً فيه 70 ريالاً فضياً إلى مكتبات باب السلام فاشترينا ما يزيد عن 20 كتاباً بهذا المبلغ .
بالرغم مما كنت أمارسه مع صحبي من نشاط في ندوات سندباد و المسامرات الأدبية و الرحلات ، إلا أنني كنت أقرب إلى العزلة . كان الكتاب متعتي الرئيسة . من الكتب التي أثرت فيّ وربما شكلت نظرتي إلى الحياة . رواية ( القلعة ) للكاتب الانجليزي أي جي كرونين ، تحكي قصة طبيب شاب بدأ حياته العلمية في الريف الانجليزي تحدوه مثل عليا في الحياة ، ثم غدا طبيباً مشهوراً في هارلي ستريت همه الإثراء على حساب مرضاه ، و في لحظة صفاء يكتشف أن ما يريده حقاً هو العودة لممارسة الطب الاجتماعي في الريف حيث يعنى بالإنسان و البيئة .
كتاب آخر قرأته و كان له تأثير علّي يروي قصة طبيب يهب نفسه لمكافحة الأمراض ، متفرغاً لبحوثه في ميدان الطب الوقائي و مقاوماً لضغوط ، تنصب عليه من أسرته و أصدقائه في أن يمارس العمل في عيادة خاصة . استهوتني روايات تولستوي و قصص تشيكوف ، و شدني إليه أدب جبران خليل جبران .
كان علينا معشر الطلاب أن نحدد قبل نهاية المرحلة الثانوية إلى أي المسارين نتجه ، القسم العلمي أو القسم الأدبي ، اخترت القسم العلمي بالرغم من ميولي الأدبية . و لا أدعي أني اخترته عن وعي ، بقدر ما هو مجاراة لبعض صحبي حيث اتفقنا على أن نكون معاً في السراء الضراء .
تدرجت أحلامي في مهنة المستقبل بدءاً بمهنة الحلاقة متأثراً بحكايات الحلاق المصري و ما تبعثه في نفسي من خيالات ، ثم تمنيت أن أكون لاعب كرة قدم مشهور ، و عندما سكنا المثناة فتنتني بساتينها الوارفة . فقررت أن أصبح مزارعاً . و يشاء الله أن أبتعث لدراسة الطب ، و كل ميسر لما خلق له .
انتهى الفصل الأول
و نلتقي بإذن الله مع الفصل الثاني
أيام من حياتي
في مصر
التعديل الأخير تم بواسطة موسى بن ربيع البلوي ; 03-18-2006 الساعة 01:09 AM
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عاصفة الشمال
أختنا الفاضلة / عاصفة الشمال أشكر لك متابعتك ..
و للحق فإنني استمتعت جداً بهذا الكتاب خاصة أنه طبيب و لا مس واقعنا الصحي ..
و أشكر المتابعة الصامتة من البقية من الاعضاء .
بــــــــــارك الله فيكم أخي / موسى البلـــــــوي
وبإنتظـــــــــــار الفصل الثاني لهذا السيرة الممتعة
مع خالص شكــــــــــــــــري.
إنْ تَلَبَّسَ قَلَمِيْ فِيْ يَوْمٍ مَاْ رِدَاْء الأَنَاْنِيْةِ 00سَأَكْسُرُه00( العَاصِفْة )
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المفضلات