مقال للكاتب : سعود بن عبد الله المعيقلي. بمجلة العصر
اغتيال غامض تلاه صمت عن النووي السني وتشديد على النووي الشيعي
إلى الآن، لم تكشف خيوط تلك الجريمة البشعة، التي تناثرت على إثرها أشلاؤه، ولم تعلن أي جهة المسؤولية عنها، فكان أن تفرق دمه بين الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي السابق، والهند، وإيران، وإسرائيل، وحتى بعض قواد جيشه، فالكل جمعتهم مصلحة واحدة، وهي ضرورة التخلص منه، ولكل أسبابه.
منذ نهاية الحرب الأفغانية الأولى وانتهاء حاجة الولايات المتحدة إليه، بدأ التنافر واضحا بينه وبينها. حذرته مخابراته من خطر يحيق به، فأخذ يصطحب معه السفير الأمريكي لدى بلاده في حله وترحاله، ويتحرك بسرية تامة تحت حراسة أمنية مشددة.
عرضت عليه الولايات المتحدة شراء بعض الدبابات الأمريكية، وأرسلت إليه بعضها، حتى يشاهد إمكانياتها القتالية على الطبيعة، خرج في 17 أغسطس 1988م، ومعه السفير الأمريكي لمعاينة الدبابات، ثم انتقلوا جميعا إلى مطار "بهاوالبور"، ومنه إلى مطار راولبندي، ليستقلوا طائرة الموت، التي انفجرت بها قنبلة حال إقلاعها، فاختلطت أشلاؤه بأشلاء كبار مسؤوليه بأشلاء السفير الأمريكي.
تلك كانت هي النهاية المأساوية الغامضة للرئيس الباكستاني الجنرال محمد ضياء الحق رحمه الله، الذي وصل إلى السلطة عام 1977، إثر انقلابه على رئيس الوزراء الشيعي العلماني آنذاك ذو الفقار علي بوتو، الذي دخلت البلاد في عهده في حالة من التوتر والاضطراب السياسي، إثر تنكيله بخصومه ومعارضيه الإسلاميين الذين انتقدوا توجهاته الغربية والعلمانية. وقد سقط حوالي 350 قتيلا، وآلاف الجرحى في حالة من الفوضى العارمة سادت البلاد. دعا بوتو الجيش كي يقمع المظاهرات ويحفظ النظام. لكن رئيس أركان الجيش الجنرال محمد ضياء الحق، رفض الاصطدام بالشعب، وعلى العكس من ذلك، قام بانقلاب عسكري أطاح فيه بحكومة بوتو، معلنا أن الجيش قام بهذه الخطوة لوضع حد لحالة التدهور التي عجز بوتو عن إيقافها.
قُدم ذو الفقار علي بوتو إلى المحاكمة، فحُكم عليه بالإعدام. رفض ضياء الحق كل الوساطات والشفاعات الأمريكية، والغربية، والدولية، والإيرانية ـ كون بوتو شيعيا ـ بتخفيف الحكم، فكان أن أعدم في 4 إبريل 1979.
عارضته أمريكا في بداية حكمه وسعت للإطاحة به بشتى الطرق. لكن سرعان ما تحولت هذه المعارضة إلى تأييد مطلق على كافة الأصعدة السياسية، والعسكرية، والمادية، بسبب احتلال الاتحاد السوفييتي لأفغانستان. كان لواشنطن ما أرادت، وحول الجنرال ضياء الحق بلاده إلى رأس حربة أمريكية ضد السوفييت، الأمر الذي كان له أبلغ الأثر في هزيمتهم وطردهم أذلة من أفغانستان.
بعد أن تمت المهمة بنجاح، أدار الأمريكان ظهرهم للجنرال، واختفت كل أشكال الدعم الأولى، وعادت تراود أمريكا أحلامها القديمة بالتخلص من الجنرال، الذي لم تنسى أمريكا يوما أنه ذو اتجاه إسلامي، حتى وإن أخفاه خلف محاولاته كسب رضى الغرب ولاسيما أمريكا.
ما أشبه الليلة بالبارحة، فحال باكستان عام 1977 هو نفس حالها 2007، وسبب الاضطرابات هو نفسه، وحال ضياء الحق ودعمه غير المحدود لأمريكا في حربها بالوكالة ضد السوفييت، هو نفس حال الرئيس الحالي برويز مشرف ودعمه غير المحدود لأمريكا في حربها ضد الإرهاب، مع ملاحظة الفروق الكبيرة بين اتجاهات الرجلين، وأسباب الحربين.
يبقى هناك فرق جوهري، يتمثل في أن باكستان 2007م دولة نووية، ولديها صواريخ بعيدة المدى. وهذا بالضبط هو سبب حرص واشنطن على الاحتفاظ بمشرف، حتى بعد أن أصبح عديم الفائدة، فمهما كان فهو خير لها من بديل يظهر فجأة كضياء الحق، يعيد خلط الأوراق من جديد.
حاولت واشنطن ترقيع الشق الكبير في حكم مشرف، بإعادة بناظير بوتو إلى باكستان، وتحويلها إلى بطلة شعبية، علها تشارك مشرف في مهمة قيادة باكستان إلى البر الأمريكي. لكن الحيلة كانت أسخف من أن تنطلي على الشعب الباكستاني، فازداد الشق اتساعا، وازدادت الاضطرابات حدة، ولا يعلم أحد ما ستؤول إليه الأمور إلا الله عز وجل.
السؤال المحير هنا يقول: لماذا وضعت الولايات المتحدة نفسها في هذا الموقف؟! ... أو بمعنى آخر : لماذا لم تحرك ساكنا حيال محاولات باكستان تطوير سلاح نووي منذ السبعينات؟!
ما يزيد الأمر غموضا، هو أن الإسلاميين يشكلون قوة لا يستهان بها في الجيش الباكستاني، ويعتبرون أحد المحركات الفاعلة في الشارع هناك، وليس من المعقول أن تغيب حقيقة كهذه عن الإستراتيجية الأمريكية، التي لا تقيم خططها المستقبلية بعيدة الأمد على أساس الأنظمة الحاكمة، التي قد تتغير في أية لحظة، وإنما على أساس اتجاه المجتمع والقوى الدائمة والفاعلة فيه كالمعتقدات الدينية والأيديولوجية.
وبعيدا عن نووي باكستان، نرى الولايات المتحدة تبذل كل ما تستطيع من جهد لإيقاف برنامجي كوريا الشمالية وإيران النوويين، فنجحت حتى الآن مع الأولى، ولازالت المحاولات جارية مع الثانية، وقد تتطور الأمور حد المواجهة العسكرية إن أصرت إيران على إكمال برنامجها.
إذا، هناك ازدواجية في المعايير الأمريكية في التعامل مع الملفات النووية المختلفة، تجبرنا على التساؤل عن سر صمت الولايات المتحدة عن نووي باكستان "السنيّة"، في نفس الوقت الذي تحاول فيه جاهدة إيقاف نووي إيران "الشيعية"، رغم أن الإستراتيجية الأمريكية تعتبر "السنة" بشكل عام أخطر على أمن إسرائيل من "الشيعة".
بعد تأمل طويل في المسألة، لم يتفتق ذهني إلا عن تفسيرين قد يكونا معقولين. أولهما: هو أن باكستان قد أنتجت بالفعل قنبلتها النووية خلال الثمانينات، أي خلال فترة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، ولم تعلن عنها إلا في عام 1998، بعد أن أجرت الهند أولى تجاربها النووية. ونظرا لحاجة أمريكا الماسة لباكستان في تلك الفترة، آثرت السكوت حتى لا تخسر الحليف الإستراتيجي الأهم، وبالتالي الحرب.
وثانيهما: أن الولايات المتحدة عندما تضع خططها الإستراتيجية المستقبلية، تضع الأولوية لمصالحها قبل كل شيء ثم لأمن إسرائيل، وإن حدث تعارض بينهما تكون الغلبة لمصالحها. فمثلا العراق، وأفغانستان، وكوريا الشمالية، وإيران، تمثل خطرا على المصالح الأمريكية، فكان التعامل الأمريكي معها حازما جدا، وقد زاد الأمر في حالة العراق كونه يمثل خطرا على أمن إسرائيل أيضا.
أما باكستان، فلا تمثل خطرا على المصالح الأمريكية الحيوية، كما أنها حليف إستراتيجي مُجرب، قدم للولايات المتحدة خدمات جليلة في حربها بالوكالة ضد السوفييت وفي حربها ضد ما تسميه الإرهاب، وقد تحتاجها "مستقبلا" في منطقة بدأ يتشكل فيها حلف اقتصادي نووي بين كل من روسيا، والصين، والهند، يهدف إلى تكوين قطب عالمي جديد يكسر هيمنة القطب الأمريكي على العالم.
لذا، انتاب تعامل الإدارات الأمريكية المتعاقبة نوعا من الليونة مع قضية باكستان النووية، كما ضربت بعرض الحائط طلبات اللوبي اليهودي المستمرة، بالتعامل بحزم مع نووي باكستان، متناسية أن باكستان "قد" تمثل خطرا على إسرائيل بحكم أنها دولة "سنيّة" تؤمن بالجهاد طريقا لتحرير المسجد الأقصى.
ثمة أمر أخير يُستحسن أن نشير إليه، وهو ما أكده السفير الأمريكي لدى الهند سابقا جون جنتر، أن الموساد الإسرائيلي متورط في قتل ضياء الحق، وطلب من وزارة الخارجية الأمريكية التحقيق في المحور الإسرائيلي الهندي ودوره في تحطم الطائرة التي كانت تقله والسفير الأمريكي، وأعاد سبب ذلك إلى منع الجيش الباكستاني من المضي قدما في صنع السلاح النووي، بعد أن صرح ضياء الحق في عام 1987م، أن بلاده قريبة جدا من صنع سلاح نووي، وأنه على استعداد تام لمشاركة الدول الإسلامية بالقنبلة النووية.
الأمر الذي دفع السلطات الأمريكية إلى إعلان أن سفيرها في نيودلهي ليس في كامل قواه العقلية، وأرسلته إلى سويسرا للعلاج لمدة ستة أسابيع، ثم طلبت منه العودة إلى نيودلهي وحزم حقائبه والعودة إلى الولايات المتحدة على وجه السرعة
المفضلات