طبائع البشر
لقد أدرك ابن عبد ربه في العقد الفريد كما أدركنا نحن بفطرتنا من خلال تجربتنا أن هناك تبايناً جلياً يبين أنفس الناس و ينعكس بدوره على سلوكهم و معاملاتهم و لسنا بصدد الحديث عن النظريات النفسية الحديثة التي تناقش مثل هذه الطباع البشرية غير أننا في هذه العجالة سنستأنس بما ذكره ابن عبد ربه المتوفى عام 328هـ عن طبائع الإنسان لنخلص أن الطبائع البشرية في مجملها تكاد لا تتغير عبر السنين إلا بمقدار تأثير البيئة الدينية و الاجتماعية و الاقتصادية عليها .
و الناس في معاملاتهم و حكمهم على الأشياء ينطلقون من طبائعهم التي جبلوا عليها و نفسياتهم التي تأثرت بما حولهم من بيئات و مؤثرات و لذا نجد التباين بين الأشقاء رغم تماثل البيئات و الجينات فمنهم من يكون أحمق سريع الانفعال بيمن نجد الآخر حليماً هادئاً لا يثير و لا يستثار و نجد الكريم و البخيل و القوي و الضعيف و الصادق و الكاذب .
و طبائع النفس البشرية ذات أثر على الأبدان كما هي ذات أثر في نمو الفراسة و تركيب الغريزة و اختلاف الهمم و طيب الشيم و تفاضل الطعوم و قد تحدث الناس في النعمة و السرور على تباين أحوالهم و اختلاف همم و تفاوت عقولهم و ما يجانس كل شخص منهم في طبعه و يؤلفه في نفسه و يميل إليه في همه و أختلف الناس في هذا المذهب لاختلاف أنفسهم و تباين مشاربهم و هنا قسم ابن عبد ربه الأنفس إلى ثلاث مجموعات أولها : النفس الغضبية و هو من همه منافسة الأكفاء و مغالبة الأقران و مكاثرة العشيرة .
و من أصحاب النفس الغضبية حصين بن المنذر فقد قيل له ما السرور ؟ فقال : لواء منشور و الجلوس على السرير و السلام عليك أيه الأمير .
و قيل للحسن ابن سهل : ما السرور ؟ قال : توقيع جائز و أمر نافذ .
و لو سبرنا بشيء من التدقيق خلجات نفّسَيّ َ هذين الوزيرين لوجدنا نزوع نفسيهما إلى الوجاه و الاستمتاع بإصدار الأوامر و المباهاة و حب التميز عن الغير .
و قيل لعبد الله بن الأهتم : ما السرور ؟ قال : رفع الأصدقاء ووضع الأعداء و طول البقاء مع الصحة و النماء . و قيل لزياد : ما السرور ؟ فقال : من طال عمره و رأى في عدوه ما يسر .
و لو تبصرنا في طبع كل من هذين الحاكمين لوجدنا أن سرور كل منهما ينبع من التشفي بعدوه فهو لم يقصر سروره في الحصول على الخير بل تعداه إلى التمتع بعناء الغير فسروره ينبع من بؤس غيره و سعادته تنبع من شقاء منافسيه و هذا المرض العضال كان و مازال و سيضل ينخر جسد أولئك اللذين لا هم لهم إلا مصارعة الآخرين و الاستمتاع بأذاهم و التشفي منهم و لو أدركوا أن الوصول إلى شقاء الآخرين للاستمتاع برهة من الزمن أخذ الكثير من الجهد و العنا على حساب ذلك الشقي المتشفي لأن نوازع الشر التي تعمي الأفئدة لا تترك مجالاً للتروي و التفكر و النظر بعين البصير .
و قيل لأبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة لبني العباس : ما السرور ؟ قال : ركوب الهمالجة ( و هي الدابة الحسناء في سرعة و تبختر ) و قتل الجبابرة . و قيل ما اللذة ؟ قال :إقبال الزمان .
و هذا منطق من يزهو كبراً و خيلاء ، و يرنو إلى الترفع على كن دونه و يرى في نفسه ما لا يراه غيره فيه لطبع جبل عليه و نجاح ظهره عليه ن فيا له من مسكين لم يعرف أن مصيره التراب و مآله إلى رب العباد . و لذا فقد نال شر قتله فقد استدعاه الخليفة العباسي فجاء في جيش عظيم و سؤدد و مقام كريم و عندما أقبل على الخليفة بعد تردد اختصر به في أحد الخيام ثم أمر السياف بأن يقطع رأسه .
و ثاني المجموعة كما يراها ابن عبد ربه : النفس الملكية و هي تلك النفس النقية الطاهرة التي لا هم لها إلا فعل الخير و النفس القنوعة التي يرضيها اليسير و النفس المشتغلة بالعم و التحصيل .
قيل لطراد بن عمرو : ما السرور ؟ قال إقامة الحجة و ادحاض الشبهة . و قيل لآخر : ما السرور ؟ قال : إحياء السنة و إماتة البدعة . و قيل لآخر : ما السرور ؟ قال إدراك الحقيقة و استنباط الدقيقة .
هذه الأنفس الزكية لا يكمن سرورها في إلحاق الأذى بالآخرين بل ينحصر سرورها في الإيمان و العلم و استنباط الحقائق و القناعة بما هو ميسور و هي في سعيها هذا نحو الهدف النبيل تعيش في سعادة دائمة و سرور متواصل و متعة لا تضاهيها متعة أخرى .
و قال الحجاج بن يوسف لحزيم الناعم : ما النعمة ؟ قال : الأمن ، فإني رأيت الخائف لا يتمتع بعيش . قال له : زدني قال له : الغنى فإني رأيت الفقير لا يتمتع بعيش . قال له : زدني قال : الشباب فإني رأيت الشيخ لا ينتفع بعيش . قال له زدني : قال ما أجد مزيداً .
و قيل لأعرابي : ما السرور ؟ قال ك الأمن و العافية .
و ثالث المجموعة لدى ابن عبد ربه : النفس البهيمية .
و هي تلك النفس التي ليس لها هم سوى إتباع الشهوات و العيش في الملذات دون وازع من دين أو حياء .
و أصحاب النفس البهيمية يختلفون فيما بينهم طبقاً لاستمتاعهم بما هو غير مفيد ، فمنهم من يأنس بالنساء و منهم من يأنس بالطعام و المركب دون سواهما و الاستمتاع بهما دون طموح آخر يقوده إلى الإنتاج فهو عالة على غيره في مأكله و مشربه و ملبسه .
و قيل لامرئ بن قيس : ما السرور ؟ قال : بيضاء رعبوبة بالطيب مشبوبة باللحم مكروبة ، و كان مفتوناً بالنساء معلقاً قلبه بأفئدتهن مؤثراً الجلوس معهن على مكارم الأخلاق و الاشتغال بها .
و قيل لطرفة : ما السرور ؟ فقال : مطعم هني و مشرب روي و ملبس دفي و مركب وطي . و كان طرفة محباً للبراري و القفار يقضي الساعات في الاستمتاع بالطبيعة محملاً قبيلته وزر تبذيره و عدم إنتاجه .
و قد عمر بن عبد العزيز شعراً لطرفة بن العبد يذكر فيه ثلاثاً يراها عيشة هنية دون سواها .
فقال عمر : و أنا و الله لولا ثلاث لم أحفل حتى قام عودي لولا أن أعدل في الرعية و أقسم بالسوية و أنفر في السرية .
فأين هذا من ذاك ؟
و من ذلك يتبين أن الأنفس تختلف و باختلافها يتم التباين في السلوك و المعاملات لينعكس ذلك على المجتمعات فمنها ما هو مجتمع كثير الإنتاج لان جل أنفس أفراده ملكية ، و منها ما هو مجتمع قليل الإنتاج لأن جل أنفس أفراده بهيمية و منها و ما هو بين هذا و ذاك .
و أنفس أفراده خليط بين المجموعتين ، فأين نحن من هذه المجموعات ؟.
المصدر / كتاب " كلمات لها معنى "
للدكتور . محمد بن عبد الرحمن البشر
سفير المملكة العربية السعودية
لدى الصين الشعبية
المفضلات