من هو المجنون..؟؟

وجد نفسه وأهله لاجئين في قرية من قرى الضفة الغربية
ولد أحمد في إحدى قرى وسط فلسطين عام 1938، وما أن بلغ السابعة من عمره حتى وجد نفسه في المدرسة التي أحبها كثيراً، وكان بعد أن ينتهي يومه الدراسي يذهب لمساعدة أهله في مواسم قطف الليمون والبرتقال والتين والزيتون.

ما أن هلّ شهر حزيران من عام 1948 حتى وجد نفسه وأهله لاجئين في قرية من قرى الضفة الغربية التي تشبه قريته إلى حد ما، وهناك وجد نفسه وأهله يعيشون في بيت صغير جداً كان مهجوراً قبل أن يسكنوه.

نظر من حوله فلم يجد له أرضاً تحميه من الجوع ولا حتى أصدقاء يبوح لهم عن ما في نفسه، وعندما ذهبوا به إلى المدرسة وضعوه في الصف الرابع الابتدائي وبعد أن تفقّد طلاب صفه لم يعرف منهم أحداً، ولم يتكلم مع أحد منهم، إلا أن أحدهم سأله عن اسمه فأجاب: اسمي أحمد، وسكت.

وما نيل المطالب بالتمني … ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
دخل الأستاذ إلى صفه فأبلغوه على الفور عن وجود طالب جديد اسمه أحمد فقال الأستاذ دون أن ينظر إليه: فليخرج هذا الطالب إلى اللوح في الحال. خرج أحمد إلى اللوح فوجد كل شيء من حوله غريباً فقال له الأستاذ: اكتب على اللوح يا أحمد: وما نيل المطالب بالتمني …

ولكن تؤخذ الدنيا غلابا. وكتبها أحمد فقال الأستاذ: صفقوا له وبعد أن صفقوا سأله الأستاذ ثانية هل تعرف قائل هذا البيت من الشعر يابني.؟

المتنبي هذا يا بني رحل ورُحّل إلى بلاد كثيرة
لم ينتظر الأستاذ منه جواباً بل قال: إنه المتنبي، والمتنبي هذا يا بني رحل ورُحّل إلى بلاد كثيرة، فقال هذه الحكمة ولم يثنه ذلك الحل والترحال عن تحقيق أهدافه،

وأنت يا أحمد: عليك أن يكون المتنبي قدوة لك، ففيك من النباهة ما يكفي. ليس عيباً يا ولدي أن يقف القطار ذات مرة، لكن العيب أن يظل واقفاً. كان أحمد في هذه الأثناء ساكتاً منصتاً لكنه كان يقول في نفسه: ما أحلى التعليم لكنني للأسف لن أتمكن من الحصول عليه، لأني سأتركه لأخي الأصغر فقد تكون ظروفه أحسن من ظروفي.

وما هي إلا سنوات حتى يكون والدك من ملاك الأراضي
وما هي إلا دقائق وإذا بالآذن يناديه، ركض وراءه مسرعاً كي يلحق به فأدخله على غرفة المعلمين وعندما رآه أستاذه قال لمن حضر من المعلمين: هذا أحمد الذي سيأخذ الدنيا غلاباً يا أساتذة، وأخذه جانباً وقال له: بلّغ والدك سلامي وانصحه على لساني بأن يأخذ الأرض البور من أصحابها ويزرعها على النصف وما هي إلا بضع سنوات حتى يكون والدك يا ولدي من ملاك الأراضي.

فلاحة الأرض يا ولدي تحتاج إلى أيد عاملة كثيرة
وذهب أحمد إلى والده وقال له ما قاله الأستاذ فأجابه على الفور: حل رائع يا ولدي لكنه طريق صعب وطويل، ففلاحة الأرض يا ولدي تحتاج إلى أيدٍ عاملة، وأنا وحدي لن أستطيع فقال أحمد: أنا مستعد أن أترك المدرسة لمساعدتك يا والدي، فترقرقت الدموع في عيني الوالد وقال: كنت أعدّك كي تصبح متعلماً أرفع رأسي بك عالياً بين الناس، فرد عليه ابنه وقال: ما كل ما يتمنى المرء يدركه … فأخي الأصغر سيحقق لنا رغباتنا أنا وأنت.

أحمد، كأي شاب فلسطيني في ذلك الوقت، كانت الفرص أمامه قليلة جداً فالعالم كان واسعاً ليس كمثل هذه الأيام، فهو بالكاد يعرف القرى المجاورة لقريته الجديدة ولم يكن في بيته تلفاز ليرى العالم من خلاله ولا في جيبه موبايل يستطيع به أن يتصل بأي شخص يريد وفي أي وقت يشاء، ولم تكن الجامعات مفتوحة أمامه ليختار التخصص الذي يريد. حتى إن توفرت سبل التعليم لم يكن يملك الإمكانيات اللازمة ولم تكن المواصلات متوفرة فعليه أن يستخدم قدميه ليصل المكان الذي يريد.

بدأ أحمد في استصلاح الأرض البور وزرعها تيناً
إذن لم يكن أمام أحمد إلا الأرض فقرر أن يحفرها ليأخذ منها مستقبله غلاباً، وبدأ يستصلح الأرض البور ويزرعها تيناً وبجانب كل شجرة تين كان يزرع شجرة زيتون، فالتين سريع في عطائه، أما الزيتون فيزرعه جيلٌ ويأكل منه الجيل الذي يليه،

فكان يقطع من ساق الشجرة قطعة يسمونها فسيلة ويزرعها في الأرض قبيل موسم الشتاء وينتظرها سنوات عديدة ليشتد عودها ثم يطعمها ويبدأ في الانتظار ثانية، وفي خلال هذه المدة تكبر شجرة التين وتشيخ لتأتي شجرة الزيتون على أنقاضها، فكل شجرة زيتون في فلسطين كانت قد سبقتها شجرة تين، لهذا اجتمع التين والزيتون في القرآن الكريم.

وبجانب كل شجرة تين كان أحمد يزرع شجرة زيتون
وما أن هل هلال عام 1967 حتى أصبح من كبار الأغنياء في القرية فأخذ يبحث عن فتاة أحلامه لكنه يريدها أن تكون مثله تؤمن بأن الأرض هي الكنز، وما أن وجدها حتى تزوج منها وأصبحا اثنين بدلاً من واحد، لكن الظروف من حوله بدأت تتغير فلم يعد الناس ينتظرون موسم التين والعنب بعد شتائهم البارد،

ولا ينتظرون المطر كي يحددوا أي المحاصيل الشتوية يمكن أن تزرع بقدر ما كانوا ينتظرون نشرات الأخبار من راديو صوت العرب الذي كان يبث من القاهرة ومذيعه المشهور أحمد سعيد الذي قسّم الدول العربية إلى دول تقدمية تريد تحرير فلسطين وإلقاء اليهود في البحر، ودول رجعية مرتبطة بالاستعمار وكان نصيب أحمد مع الدول الرجعية.

أحمد سعيد:
وعليه فقد مُنع أحمد كغيره من فتح الراديو على صوت العرب فاضطر إلى أن يقفل الأبواب والشبابيك إذا أراد الاستماع لأحمد سعيد، ثم أعلموه بأن الحيطان لها آذان، فأصبح يضع جهاز الراديو على أذنه ويغطي رأسه باللحاف ليستمع إليه، فقد اقتربت ساعة العودة إلى قريته، وبدأ يفكر بالأرض التي استصلحها وزرعها تيناً وزيتوناً فالعودة أصبحت قريبة حتى أنهم بدؤوا يُجوّعون السمك في البحار ليأكل ويشبع من جثث الأعداء والعربي إذا قال فعل.

وبعد ستة أيام من الحرب استسلم العرب ..
وبعد ستة أيام من الحرب استسلم العرب فلم يستطع أحمد تحمّل ما حدث وفقد عقله وأصبح يسير في الشوارع يناقش مع نفسه تسلسل الأحداث، ثم أخذ يشرح للناس ما حدث لكن الناس لم يعيروه أي اهتمام وانشغلوا عنه ولم يجد من يسمعه، لا بل اتهموه بالجنون وعاد الناس يمشون في الشوارع ويجلسون في المقاهي وكأن لم يحدث لهم أي مكروه أو لم يطلهم أي استعمار.

وجد كبار القوم يلعبون الشدة ..
مرّ أحمد في أحد الأيام من أمام المقهى الوحيد في القرية فوجد وجهاء القرية يلعبون الشدّة فانقض على أحدهم وضربه كفاً أخرج به كل المعاناة التي بداخله، فترك الوجهاء اللعب وأخذوا يتندرون على صاحبهم المضروب،

فما كان من المضروب ومن معه إلا أن أمسكوا بأحمد وربطوه وخيروا أهله بين أن يرسلوه إلى مستشفى المجانين في بيت لحم أو أن يرحلوا عن بلدتهم.

من فينا هو المجنون؟
لم يكن أمام أهله إلا القبول بالأمر الواقع، فأخذوه إلى المارستان في بيت لحم، وعندما قابله الطبيب ليُشخِّص حالته ويضعه في الجناح المناسب سأله عن اسمه فأجاب وعن بلده فأجاب وعن اسم اليوم فأجاب فقال له الطبيب: إذن لماذا يتهموك بالجنون يا أحمد؟

فقال أحمد للطبيب: يادكتور هل سمعت أو قرأت أو رأيت شعباً تُحتل أرضه وتجده يجلس على المقاهي ويلعب الورق؟
فأجابه الطبيب على الفور: لقد جننتني يا أحمد حتى أنني لم أعد أعلم من فينا هو المجنون..
ولكم تحيات
ماجد البلوي