32 - " أقيموا صفوفكم ثلاثا ، والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن بين قلوبكم " .


قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 1 / 39 :


أخرجه أبو داود ( رقم 662 ) ، و ابن حبان ( 396 ) ، و أحمد ( 4 / 276 ) ،
و الدولابي في " الكنى " ( 2 / 86 ) عن أبي القاسم الجدلي حسين بن الحارث ،
قال : سمعت النعمان بن بشير يقول :
" أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس بوجهه فقال : ... " فذكره ،
قال : " فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه ، و ركبته بركبة صاحبه ، و كعبه
بكعبه " .
قلت : و سنده صحيح ، و علقه البخاري مجزوما به ، و وصله ابن خزيمة أيضا في
" صحيحه " كما في " الترغيب " ( 1 / 176 ) و " الفتح " ( 2 / 176 ) .
ثم رواه الدولابي من طريق بقية بن الوليد ، حدثنا حريز قال : سمعت غيلان
المقرىء يحدث عن أبي قتيلة مرثد بن وداعة ( قال : سمعت ) النعمان بن بشير
يقول : فذكره .
و هذا سند لا بأس به في المتابعات ، و رجاله ثقات غير غيلان المقرىء ،
و لعله غيلان بن أنس الكلبي مولاهم الدمشقي ، فإن يكن هو ، فهو مجهول الحال ،
روى عنه جماعة ، و قال الحافظ : إنه مقبول .
فقه الحديث :
------------
و في هذين الحديثين فوائد هامة :
الأولى : وجوب إقامة الصفوف و تسويتها و التراص فيها ، للأمر بذلك ، و الأصل
فيه الوجوب إلا لقرينة ، كما هو مقرر في الأصول ، و القرينة هنا تؤكد الوجوب
و هو قوله صلى الله عليه وسلم : " أو ليخالفن الله بين قلوبكم " . فإن مثل هذا
التهديد لا يقال فيما ليس بواجب ، كما لا يخفى .
الثانية : أن التسوية المذكورة إنما تكون بلصق المنكب بالمنكب ، و حافة القدم
بالقدم ، لأن هذا هو الذي فعله الصحابة رضي الله عنهم حين أمروا بإقامة الصفوف
و لهذا قال الحافظ في " الفتح " بعد أن ساق الزيادة التي أوردتها في الحديث
الأول من قول أنس :
" و أفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ،
و بهذا يتم الاحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصف و تسويته " .
و من المؤسف أن هذه السنة من التسوية قد تهاون بها المسلمون ، بل أضاعوها إلا
القليل منهم ، فإني لم أرها عند طائفة منهم إلا أهل الحديث ، فإني رأيتهم في
مكة سنة ( 1368 ) حريصين على التمسك بها كغيرها من سنن المصطفى عليه الصلاة
و السلام بخلاف غيرهم من أتباع المذاهب الأربعة - لا أستثني منهم حتى الحنابلة
- فقد صارت هذه السنة عندهم نسيا منسيا ، بل إنهم تتابعوا على هجرها و الإعراض
عنها ، ذلك لأن أكثر مذاهبهم نصت على أن السنة في القيام التفريج بين القدمين
بقدر أربع أصابع ، فإن زاد كره ، كما جاء مفصلا في " الفقه على المذاهب الأربعة
" ( 1 / 207 ) ، و التقدير المذكور لا أصل له في السنة ، و إنما هو مجرد رأي ،
و لو صح لوجب تقييده بالإمام و المنفرد حتى لا يعارض به هذه السنة الصحيحة ،
كما تقتضيه القواعد الأصولية .
و خلاصة القول : إنني أهيب بالمسلمين - و خاصة أئمة المساجد - الحريصين على
اتباعه صلى الله عليه وسلم و اكتساب فضيلة إحياء سنته صلى الله عليه وسلم أن
يعملوا بهذه السنة و يحرصوا عليها ، و يدعوا الناس ، إليها حتى يجتمعوا عليها
جميعا . و بذلك ينجون من تهديد " أو ليخالفن الله بين قلوبكم " .
الثالثة : في الحديث الأول معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم ، و هي رؤيته
صلى الله عليه وسلم من ورائه ، و لكن ينبغي أن يعلم أنها خاصة في حالة كونه صلى
الله عليه وسلم في الصلاة ، إذ لم يرد في شيء من السنة ، أنه كان يرى كذلك خارج
الصلاة أيضا . و الله أعلم .
الرابعة : في الحديثين دليل واضح على أمر لا يعلمه كثير من الناس ، و إن كان
صار معروفا في علم النفس ، و هو أن فساد الظاهر يؤثر في فساد الباطن ، و العكس
بالعكس ، و في هذا المعنى أحاديث كثيرة ، لعلنا نتعرض لجمعها و تخريجها في
مناسبة أخرى إن شاء الله تعالي .
الخامسة : أن شروع الإمام في تكبيرة الإحرام عند قول المؤذن " قد قامت الصلاة "
بدعة ، لمخالفتها للسنة الصحيحة كما يدل على ذلك هذان الحديثان ، لاسيما الأول
منهما ، فإنهما يفيدان أن على الإمام بعد إقامة الصلاة واجبا ينبغي عليه القيام
به ، و هو أمر الناس بالتسوية مذكرا لهم بها ، فإنه مسؤول عنهم : " كلكم راع
و كلكم مسؤول عن رعيته ... " .