3178- (كنّا نشربُ ونحنُ قِيامٌ، ونأكلُ ونحنُ نمشي، على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -) .
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف " (8/205/4170) : حدثنا حفص عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: ... فذكره.
ومن طريق ابن أبي شيبة: أخرجه أحمد (2/108) ، وكذا الدارمي في
"سننه " (2/120) .
وأخرجه الترمذي (6/148/1880) ، والطحاوي في "شرح المعاني " (2/358) من طريق أخرى عن حفص بن غياث به. وقال الترمذي:
"حديث صحيح غريب من حديث عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر".
قلت: وإسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين، وهو على شرط مسلم؛
لأنه روى لحفص عن عبيد الله بن عمر.
وللحديث طريق أخرى أشار إليها الترمذي عقب قوله المتقدم آنفاً، قال:
"وروى عمران بن حُديرٍ هذا الحديث عن أبي البرزي عن ابن عمر، وأبو البرزي اسمه يزيد بن عُطارد".
قلت: هذا وصله ابن أبي شيبة (4167) ، والدار مي أيضاً، وكذا الطحاوي، والدّولابي في"الكنى " (1/127) ، والبييقي في " السنن " (7/283) من طريق الطيالسي-وهذا في"مسنده" (258/1094) -، وأحمد أيضاً (2/12) من طرق عنه.
قلت: ورجاله ثقات رجال مسلم؛ غير يزيد بن عطارد، قال ابن أبي حاتم عن أبيه (4/2/281-282) :
"لا أعلم روى عنه غير عمران بن حدير، وليس ممن يحتج بحديثه ".
وأقول: نعم، ولكن ذلك لا يمنع من الاستشهاد به؛ فإنه تابعي وقد وثقه
ابن حبان (5/547) ، ولذلك جزم الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على "المسند" (6/274) بأن إسناده صحيح، وهذا من تساهله الذي نبهت عليه مراراً! وإنما هو صحيح بما قبله، وقد سكت عليه الحافظ في "الفتح " (10/84) .
على أن الأمر ليس كما قال أبو حاتم- رحمه الله-، فقد روى عن يزيد- أيضاً- مشمعلّ بنُ إياس؛ كما في ترجمته من "التهذيبين "، فهو مجهول الحال، لا مجهول العين.
وللحديث شاهد موقوف يرويه الحسن بن الحكم عن الحُرِّ بن الصَّيَّاح قال:
سأل رجل ابن عمر فقال: ما ترى في الشرب قائماً؟ فقال ابن عمر:
إني أشرب وأنا قائم، وآكل وأنا أمشي.
رواه ابن أبي شيبة (4167) .
قلت: وإسناده حسن.
ومن بغي المسمى ب (حسان عبد المنان) وجنفه على السنة: جزمه بأن الحديث
وهم في إسناده حفص بن غياث، قال في "ضعيفته " التي جعلها في آخر طبعته لكتاب "رياض الصالحين " للنووي (524/ 41) :
"كما ذكر ذلك ابن معين وابن المديني وأحمد وغيرهم، وإنما هو حديث أبي البزري (!) كما في "مسند أحمد " (2/12) وغيره، وهو مجهول ".
قلت: وعزوه جزمه بالوهم إلى الأئمة الثلاثة من تدليساته الكثيرة؛ فإنه لم
يجزم به إلا ابن المديني فقط، وأما ابن معين فقال:
"تفرَّد به، وما أراه إلا وهم فيه ".
وقال أحمد:
"ما أدري ما ذاك؟! "؛ كالمنكر له. قلت: ففي قولهما تلميح لطيف إلى أنه ليس لديهما حجة علمية في التوهيم المذكور، وإنما هو الرأي فقط، وبمثله لا ينبغي أن يخطَّأ الثقة؛ لأن تفرده حجة إلا عند المخالفة لمن هو أوثق منه وأحفظ، وهي مفقودة هنا، ولقد أصاب الترمذي رحمه الله حينما جمع في كلمته السابقة بين تصحيح الحديث، والحكم عليه بالغرابة؛ لأنه الأصل المصرح به في علم المصطلح كما هو معروف عند العلماء، ولولا ذلك صارت الأحاديث الصحيحة عُرضةً للتضعيف لمجرد التفرد وهذا خُلف، وبخاصة أن الطريق الأخرى هي بإسناد آخر ورجال آخرين؛ فهي تؤيد رواية حفص وتشد من أزره، وتدل على أنه قد حفظ. والله أعلم.
وفي الحديث فائدة هامة، وهي جواز الأكل ماشياً، بخلاف الشرب قائماً؛
فإنه منهي عنه كما ثبت في"صحيح مسلم"وغيره، وقد سبق تخريج بعضها في المجلد الأول (رقم 177) ، وذكرت هناك اختلاف العلماء في حكمه مرجِّحاً التحريم؛ لزجره - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب قائماً وغيره مما يؤيده؛ فراجعه.
ولا يجوز معارضة ذلك بأحاديث شربه - صلى الله عليه وسلم - قائماً؛ لأنها وقعت إما على البراءة الأصلية، وإما لعذر، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى له؛ فليراجعها من شاء (32/209- 0 21) .
ثم أوقفني بعض الإخوان- جزاه الله خيراً- على إعلال أبي حاتم أيضاً
للحديث، بعلة غريبة، فقال ابنه في "العلل " (2/9/1500) :
"سألت أبي عن حديث رواه محمد بن آدم بن سليمان المصِّيصي عن حفص
ابن غياث ... (فذكر الحديث) ؟ قال أبي: قد تابعه على روايته ابن أبي شيبة عن حفص، وإنما هو حفص عن محمد بن عبيد الله العرزمي، وهذا حديث لا أصل له بهذا الإسناد".
فأقول: هذا الإعلال يُعرف جوابه مما سبق، وخلاصته أنه توهيم للثقة بدون حجة، ونقول هنا شيئاً آخر، وهو أن التسليم بهذا الإعلال يلزم منه نسبة (حفص ابن غياث) إلى التدليس، وهذا مما لم يقله أحد فيما علمت، وما لزم منه باطل فهو باطل.
وقد تابع المذكورين على روايتهما: سَلم بن جنادة عن حفص بن غياث:
عند الترمذي، وابن حبان (1369) ، فالحديث حديثه؛ وهو حجة، ولا يجوز ردُّه بغير حجة. *


الكتاب: سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها
المؤلف: أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين، الألباني