وقد روي عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من نقل الآحاد العدول معنى ما أجمعوا عليه؛ من ذلك روى شعبة عن معاوية بن قُرّة بن إياس المزني عن أبيه عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أنّ رجلًا من الأنصار مات له ابن صغير فوجد عليه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا يَسُرُّكَ أَلّا تَأْتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ إلَّا وَجَدْتَهُ يَسْتَفْتِحُ لَكَ؟ "، فقال أو فقيل له: يا رسول الله؛ أله خاصّة أم للمسلمين عامّة؟ فقال: "بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةٌ" (1).
وقد أجمع جمهور العلماء على القول بهذا الحديث، وكفى بهذا حجّة.
وأمّا حديث طلحة بن يحيى عن عمّته عائشة بنت طلحة عن عائشة أمِّ المؤمنين قالت: "أُتِيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِصَبِيٍّ مِن صِبيان الأعراب ليُصَلِّيَ عليه، فقالت: طُوبَى له، عُصْفُورٌ مِن عصافيرِ الجنّة، لَم يعمل سوءًا ولم يُدْرِكْه ذنب، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ خَلَقَ الجَنّةَ، وَخَلَقَ لهَا أَهْلًا، وَهُمْ فِي أَصْلاَبِ آبائِهِمْ، وَخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لهَا أَهْلًا وَهُمْ فِي أَصْلاَبِ آبائِهِمْ، اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كانُوا عَامِلِينَ"" (2). فحديثٌ مُنكَر، وطلحة بن يحيى ضعيف لا يُحتَجّ به (3)، وأكثرُ النّاس على حديث شعبة عن معاوية بن قُرّة، إلّا طائفة تفرط في الخير والقول به، تجعل الأطفال كلّهم في المشيئة ما سبق لهم في بطون أمّهاتهم.وهذا قول في أطفال المسلمين مهجور ولم يَعدُّوه خلافًا.
وأمّا أطفال المشركين فاختلفت الآثار في ذلك عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - واختلف العلماء في ذلك - أيضًا - باختلافها، والذي عليه جمهور أهل السنّة وعامّتُهم في أطفال المشركين،

(1) الحديث أخرجه النسائي في "المجتبى" في [الجنائز منه، باب الأمر بالاحتساب والصبر عند نزول المصيبة]، وابن حبّان - كما في "الإحسان" (4/ 262) - والإمام أحمد (5/ 34، 35)، والحاكم (1/ 384)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد"، وأقرّه الذهبي.
(2) الحديث أخرجه مسلم في [القدر (2662) باب معنى: "كلّ مولود يولد على الفطرة"] من طريق فضيل بن عمرو وطلحة بن يحيى كلاهما عن عائشة بنت طلحة به.



(3) طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي المدني، نزيل الكوفة، روى عن أبيه وأعمامه وابن عمّيه إبراهيم بن محمّد بن طلحة، ومعاوية بن إسحاق بن طلحة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، ومجاهد ابن جبر، وعمّته عائشة بنت طلحة، روى عنه السفيانان وعبد الله بن إدريس، وعبد الواحد بن زياد، ويحيى القطّان، ووكيع وآخرون، وثّقه يعقوب بن شيبة وابن معين والدارقطني والعجلي وابن سعد، وقال أبو حاتم: "صالح الحديث، حسن الحديث، صحيح الحديث"، وقال أبو زرعة وأحمد والنسائي في رواية صالح وفي رواية: "ليس بالقويّ"، وقال أبو داود: "ليس به بأس"، وقال يعقوب بن سفيان: "شريف، لا بأس به، في حديثه لين"، وقال البخاري في رواية ابن عديّ: "منكر الحديث"، ولا توجد في شيء من كتبه كما قال أصحاب "التحرير"؛ فهو بهذا حسن الحديث إن شاء الله.
على أنّه قد توبع، فقد تابعه فضيل بن عمرو كما في "صحيح مسلم"، فزالت علّة الإسناد، وأمّا المتن؛ فقد أشكل هذا الحديث على كثير من الناس، فردّه الإمام أحمد، وطعن فيه، وقال: "من يشكّ أنّ أولاد المسلمين في الجنّة! "، وقال: "إنهم لا اختلاف فيهم"، وتأوّل بعضهم بقوله: "الإنكار من النبي - صلى الله عليه وسلم - على عائشة إنما كان لشهادتها للطفل المعين بأنه في الجنة، كالشهادة للمسلم المعين، فإن الطفل تبع لأبويه، فإذا كان أبواه لا يشهد لهما بالجنّة، فكيف يشهد للطفل التابع لهما؟ ! والإجماع إنما هو على أنّ أطفال المسلمين من حيث الجملة مع آبائهم، فيجب الفرق بين المعيّن والمطلق".
انظر: "تعليق ابن القيّم على "أبي داود مع مختصر المنذري" (7/ 82)، و"طريق الهجرتين" (ص 369).

يتبع: