عندما يبكي شارون ويضحك الفلسطينيون

محمد علي الهرفي

بعد أن اجتمع رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون مع رئيسه "موشي كتساف" عقد مؤتمراً صحفياً قال فيه والألم يمزق قلبه: "إنه بكى حين رأى صوراً للمستوطنين وهم يبكون أثناء إجبارهم على الخروج من منازلهم". وقال: "إن هذه المشاهد تقطع القلب" أعرف - كما يعرف غيري - أن شارون يحمل عواطف رقيقة ومشاعر جياشة وأنه يتأثر سريعاً من المواقف والمشاهد المحزنة التي يراها.
هذه المعرفة تدفعني للاعتقاد أنه بكى بحرقة عندما كان يرى منازل الفلسطينيين تهدم فوق رؤوسهم بآلياته أحيانا وبطائراته أحياناً أخرى، وبطبيعة الحال كان يبكي أكثر وأكثر حينما يرى الأشلاء الفلسطينية - رجالاً وأطفالاً ونساءً - وهم يموتون ويتمزقون عندما تصيبهم قنابله المحرقة بين وقت وآخر، أما المجازر الجماعية التي كان يشرف عليها بنفسه سواء في فلسطين أو لبنان ويموت فيها آلاف الضحايا فهي - بدون شك - كانت تبعث في نفسه الألم والحسرة وكانت دموعه لا تتوقف حزنا على ما يراه من المصائب التي تحل بالفلسطينيين في كل مكان.. مسكين هذا الـ"شارون" فكم أتعبته عواطفه الرقيقه وأرهقته كثيراً فهو معروف بأنه "أبوالاستيطان" ومن أكثر الداعين إليه والمحرضين عليه، فكيف طاوعه قلبه على إخراج بضعة آلاف من قطعانه من بيوتهم التي أخذها قهراً من أصحابها وأتى بأناس من هنا وهناك ليجعلهم يحتلون أرض غيرهم ويطردون سكانها الأصليين؟ هؤلاء اليهود - الغزاة - خرجوا من بيوتهم التي سرقوها إلى بيوت أفضل منها وتحت إغراءات كثيرة ولأهداف سياسية مشبوهة وفي أرض - أخرى - مسروقة ومع هذا كله لم يتمالك "شارون" من البكاء وهو يراهم يخرجون بهذه الطريقة التي لا تليق بهم!!
شارون قرر منفرداً الخروج من غزة، لم يستشر الفلسطينيين في هذا القرار - شركاءه في صنع السلام - هكذا يقولون، ولكن يبدو أن شارون يعرف متى يكون شريكاً ومتى يفسخ هذه الشراكة فلكل حالة لبوسها. المطالب "الشارونية" لقاء هذا الانسحاب - الهزيل - بدأت قبل الانسحاب وبدأ الإلحاح عليها بشدة هذه الأيام- أثناء الانسحاب -. ويبدو أن أصحابه - الأمريكان - كعادتهم يقفون وراءه في طلباته وآماله التي انسحب من أجل تحقيقها.. شارون يريد من القيادة الفلسطينية أن تقوم بنزع أسلحة "الإرهابيين" - على حد قوله - وتفكيك أي قوة يعتمدون عليها وهذا شرطه لمواصلة الحوار مع القيادة الفلسطينية - ذلك الحوار الذي قال إنه لن يجدي شيئاً، فهو - على حد قوله - سيوسع الاستيطان في الضفة وحول القدس وسيستقدم - قطعانا - من هنا وهناك ولن يتزحزح من القدس ومع هذا كله فهو يشترط نزع أسلحة "المقاومة" المشروعة - كما نعتقد -). شارون يفترض أنه سيحقق مكاسب هائلة من فعلته وهو محق في هذا الافتراض إن استجابت له السلطة الفلسطينية، فإن تم نزع أسلحة المقاومة فإن القضاء على الفلسطينيين سيصبح سهلاً ميسوراً، كما أن استعادة تلك المستعمرات سيكون سهلاً كذلك. وإن رفضت الفصائل الفلسطينية نزع أسلحتها وأصرت السلطة على ذلك - وأرجو ألا تفعل - فإن الافتراض الآخر عند "شارون" أن يحصل اقتتال داخلي بين الفلسطينيين يحقق له ما يريد دون أن يخسر أي شيء.. أمر آخر جعل "شارون" يتخذ قراره منفرداً وهو معرفته أن مستعمراته في وسط غزة تكلفه كثيراً وسيعجز عن حمايتها. سكان "المستعمرات" وليست "مستوطنات" عددهم 8500 تقريباً يعيشون وسط مليون فلسطيني فكيف يستطيع هؤلاء حماية أنفسهم من هذا العدد الهائل الذي يحمل لهم الكره الذي لا حدود له؟ كانت مصالح "شارون" أن يخرج فهو لن يخسر شيئاً له قيمة وقد يحقق أشياء كثيرة يتمناها والبركة في - أمريكا - التي تدفع له مليارات الدولارات يبني ويهدم كما يشاء..
هدايا "شارون" لأحبته الفلسطينيين لم تتوقف ولن تتوقف فكيف يخرج من هذه المستوطنات دون أن يقدم لهم شيئاً؟ أربعة قتلى فقط وعدد من الجرحى كانت هدية واحد من "القطعان" قبل خروجه من مستعمرته. وقبله هناك أربعة من القتلى بين "عرب إسرائيل" هذا كله وقبله أكثر منه بكثير قبل نزع أسلحة المقاومة فكيف سيكون الحال بعد افتراض نزعها
القيادة الفلسطينية وعموم الشعب الفلسطيني كانوا سعداء بهذا الانسحاب، وعبروا عن فرحهم بطرق متعددة، وسمعنا تصريحات كثيرة من قادة المقاومة وقادة فتح وكلها تبشر بهذا الانتصار وتراه بداية لانتصارات أخرى قادمة. أستطيع تفهم هذا الفرح فلأول مرة تنسحب إسرائيل من أرض فلسطينية، وقد يكون هذا الانسحاب مؤشراً على أن المشروع الصهيوني يمكن إيقافه؛ هذا المشروع الذي يرى أن فلسطين كلها لليهود بالإضافة إلى مساحات أخرى من دول عربية مجاورة.. أستطيع تفهم فرح بعض الفلسطينيين الذين سيعودون إلى أرضهم بعد طول غياب ولكنني مع هذا كله شديد الخوف من أن يتحول هذا كله إلى أوهام إن لم يتفهم الفلسطينيون كلهم أهمية المرحلة وخطورتها.. الإسرائيليون ما زالوا يتحكمون في غزة وحتى بعد الانسحاب الهزيل الذي حصل؛ هم سادة السماء، والمعابر والبحر فهل يستطيع الفلسطينيون التخلص من هذا كله؟ هل يستطيعون الانتصار على بعض خلافاتهم حتى لا تتفاقم وتتحقق بالتالي الأهداف الشارونية من الانسحاب؟ هل تستطيع القيادة الفلسطينية التخلص من ضغوط الأمريكان والصهاينة فلا تنظر إلى المقاومة على أنها "إرهاب"؟ هل تدرك القيادة أن نزع أسلحة المقاومة خطر يتهدد وجود كل فلسطيني؟ هل بإمكان السلطة حماية الفلسطينية من القتل الإسرائيلي المستمر؟ هذه الأسئلة وسواها يجب أن تفكر فيها القيادة الفلسطينية قبل الحديث عن نزع أسلحة المقاومة بكل فصائلها. وإذا كانت إسرائيل "المحتلة" بكل قوتها تسمح لقطعانها بحمل الأسلحة وقتل الفلسطينيين - كما حصل مؤخراً وكما يحصل دائما - فلماذا لا تسمح السلطة لكل مقاوم شريف بحمل سلاحه الذي يدافع به عن نفسه؟
هل تتوقع السلطة أن شارون سيوقف مجازره؟ بل هو تتوقع منه معاقبة القتلة اليهود؟ إنه يصنع لهم التماثيل ويسميهم "قديسين" وفي أسوأ الحالات يصفهم بأنهم مصابون بخلل عقلي ومن ثم لا تجوز محاكمتهم أما الفلسطيني فعندما يدافع عن أرضه ويقتل يهوداً فإن عقابه السجن لعشرات السنين، هذا إذا لم يمت تحت التعذيب.. شارون كما يبدو وكما صرح بعض أفراد عصابته قالوا إنهم يأملون أن يسارع العرب في تطبيع علاقاتهم باليهود بعد هذا الانسحاب. شخصيا سمعنا أن بعض قادة العرب وتجار العرب تحدثوا عن مسألة التطبيع - طبقاً هناك مطبعون سابقون - هؤلاء - أحسبهم - يبحثون عن أمجاد وهمية ومصالح لن تتحقق فالحكاية المعروفة - منذ القدم - أن الذي يخون وطنه لا يثق به أحد حتى ذلك الذي خان وطنه ومن أجله.. وأرجو أن يتفهم كل قائد عربي أو مسلم وكل فرد عربي أو مسلم هذه الحقيقة. اليهود لم يصنعوا شيئاً وقالوا: إنهم لن يصنعوا شيئاً وأكدوا أن القدس لهم وهاهم يهددون بهدم الأقصى ومناهجهم التعليمية ما زالت تقول: إن هناك أراضي عربية يجب أن تعود لهم فكيف - بعد كل هذا - نمد لهم أيدينا ونفتح لهم بلادنا بدون أي مقابل؟
أخيراً سألني صديق: لماذا تهدم الحكومة منازل المستعمرين؟ لماذا يحرق بعضهم منزله قبل تركه؟ لماذا لا يتركونها كما هي؟. قلت له: هؤلاء هم اليهود يضرون ولا ينفعون ولو اطلعت على أصولهم العقائدية لعرفت سر أفعالهم وأسأل الله أن ييسر لكل قائد مسلم أن يعرفها؟



* أكاديمي وكاتب سعودي
http://www.alwatan.com.sa/daily/2005.../writers05.htm