استنساخ
كانت بداية برامج 'تلفزيون الواقع' في هولندا عام 1999 عندما قامت القناة الهولندية 'فيرونيكا' بعرض برنامج 'لوفت ستوري' وبرنامج 'بيج براذر' في حلقات شاهدها 300 مليون مشاهد من أنحاء العالم الأمر الذي شد انتباه القنوات الأخرى في مختلف بلدان العالم، فانتشرت هذه النوعية من البرامج في 15 بلدًا أوروبيًا وأمريكيًا، وأخذت تقليعات مختلفة، ففي أحد هذه البرامج تم وضع 16 متسابقًا في جزيرة معزولة وتركوهم يبقون على حياتهم، فكانوا يأكلون كل ما يجدونه بما في ذلك دود الأرض تم رصد حركاتهم وسكناتهم وبثها طوال 24 ساعة يوميًا فتابع البرنامج 50 مليون متفرج، وفي أسبانيا راقبت 27 كاميرا عشرة أشخاص مجهولين في أحد البرامج فتابعهم ثلث سكان البلد 12 مليون مشاهد، أما في فرنسا فقد بثت نسختها من برنامج 'لوفت ستوري' حيث تم حبس عدد متساو من الشباب والفتيات في شقة ورصدت جميع تحركاتهم خلال 70 يومًا وفي كل أسبوع يتم تصفية أحد المشاركين باستبعاده بناء على آراء المشاهدين وبعد النجاح الكبير لهذا البرنامج أنتجت فرنسا الجزء الثاني منه ثم أعقبته ببرنامج 'ستار أكاديمي' الذي ربح في 16 حلقة 120 مليون يورو من بيع مواد البرنامج والاتصالات الهاتفية التي تلقاها '3 ملايين' اتصال.
وفي بريطانيا باشرت سلطات تنظيم وسائل الإعلام 'أوفكوم' تحقيقًا حول برنامج جديد من برامج 'تلفزيون الواقع' يضع المشاركين فيه أمام تحدي الصمود أسبوعًا كاملاً من دون نوم، إذ اعتبر الأطباء أن البرنامج يسبب الهلوسة ويدعو إلى القلق أكثر مما يقدم تسلية.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد خطت بتلك البرامج خطوة تليق بمكانة أمريكا في عالم التقليعات عندما قدمت برامج تسمى 'برامج القمامة' أو 'تلفزيون المزبلة' تتضمن صورًا مبتذلة لأشخاص عاديين يتحدثون عن تجاربهم بطريقة تخطت حدود الوقاحة: كالمرأة التي تزوجت خالها نكاية في أمها التي كانت تأتي بعشيقها إلى البيت أمام ابنتها المراهقة، وأعلنت كل ذلك في مواجهة بين المرأة وزوجها 'خالها' وأمها وعشيقها في بث حي لحلقة من هذه البرامج تفاعل فيها الجمهور بين مؤيد ومعارض لهذه المرأة.
وفي ولاية 'أوهايو' الأمريكية أنشأت مجموعة من الشباب موقعًا إلكترونيًا ووضعوا كاميرات في منزلهم ودعوا متصفحي الإنترنت إلى متابعة تفاصيل حياتهم اليومية.
أما في السويد فكانت الطامة الكبرى، ففي مجتمع أكثر من نصف مواليده يأتون من الزنا ظهر ما يسمى 'doging' أو 'كلبنة' أي دعونا نتصرف كما تتصرف الكلاب، إذ يتواعد رجل وامرأة عبر الإنترنت للالتقاء في مكان عام يمارسان الجنس علانية ويدعوان من يود مشاهدتهما إلى ذلك المكان.
وفي نيجيريا حينما عرض 'بيج براذر' الصيف الماضي أثار جدلاً كبيرًا واعتبره البعض وسيلة لتشويه المجتمع وانتهاكًا للثقافة النيجيرية خصوصًا بعد أن دخلت كاميرات البرنامج غرف الاستحمام.
الظاهرة لم تعمر طويلاً في الغرب ـ شأن كل التقليعات ـ وأيقن الناس والمراقبون أنها مجرد عرض من أعراض 'مجتمع الاستعراض' الذي يسعى التلفاز إلى فرضه وذلك بتحويل وقائع الحياة 'إنتاج ـ حروب ـ حركات اجتماعية' إلى مجرد عروض لا وقائع حية، الواقع أزيح جانبًا وبقي العرض هو المهم الذي يقدم للناس، وبتركيز الناس على العروض يفقدون اتصالهم بالحياة الواقعية. كلنا يذكر كيف حول التلفاز غزو وتدمير العراق إلى مجرد صور مفرقعات تخفي وراءها الجانب المأسوي من الحرب.
الكاتب الفرنسي فيليب موريه يرى في 'تلفزيون الواقع' أحدث محاولات التلفاز ليحل مكان الحياة ويملأ الفراغ الذي تركته الحياة خلفها في مجتمعات مادية موحشة، لقد أضحى التلفزيون يصنع الواقع واقعه وليس واقع الحياة، فالناس أصبحوا مشابهين لما يشاهدونه على شاشاتهم، لم يعودوا أناسًا حقيقيين، فهم يقلدون لاعب الكرة ونجم السينما والزعيم السياسي الذين يطلون عليهم عبر التلفاز.
أصبح الناس يعبرون عن أفكار ليست أفكارهم، ويستخدمون مواقف مستوحاة من مشاهداتهم، أي أنهم أصبحوا مشابهين لما يعرضه التلفاز بحيث يمكن وضعهم فيه، وهذا هو 'تلفزيون الواقع' ولكنه ليس الواقع الذي يدخله التلفاز، بل التلفاز الذي يمحو الواقع ويبتلعه.
في برامج 'تلفزيون الواقع' يبدو المشاركون كعرائس متحركة ـ دمي ـ تتصرف في حركات مدروسة لا تعكس أي شخصية، ينحصر دورهم في إشباع تشوقات التلصص واختراق الخصوصية لدى المشاهدين وإبقائهم أطول مدة ممكنة أمام التلفاز، حتى ولو كان ذلك يعني استقالتهم عن ممارسة الأشياء التي تعطي لحياتهم معنى مكتفين بواقع مزيف تقدمه هذه البرامج.
ربما تنجح الفضائيات العربية في تجاوز ـ أو تأجيل ـ أزمتها المالية عبر تلك البرامج التي تكتفي بكاميرا ومنزل فيه مجموعة شباب وفتيات، بعدها تنهال الاتصالات، لكن ما لم تحسب حسابه ـ إذا افترضنا حسن النية ـ هو الأثر الاجتماعي لتلك البرامج ودورها في خلخلة قيمنا الاجتماعية ونسف معاييرنا الأخلاقية حول اللائق وغير اللائق والحلال والحرام والمحترم والمشين في سلوكنا. وإذا أخذنا في الاعتبار الظرف العصيب الذي تمر به الأمة لم يعد لافتراض حسن النية مكان
المفضلات