لقد بدأت القبائل العربية تتململ من سلطة الدولة الإسلامية منذ أواخر حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم , فهي لم تتعود الخضوع لسلطة مركزية واحدة, فضلاً عن ان الدين الجديد كبح من جماح شهواتها, وألغى الكثير من أعرافها التي تتناقض مع تعاليم الإسلام, فوجدت هذه القبائل فرصتها عندما انتقل المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى, لتعلن تمردها على سلطان الدولة الإسلامية, لا بل إنها تمادت والتفت حول مدعين النبوة من شيوخها وزعمائها, وعادت الأمور جذعة وأمست الجزيرة العربية كافرة, إلا من رحم ربي من بعض القبائل هنا وهناك, ولنا أن نتصور حجم التحدي أن المسلمين في المدينة أخذوا ينظمون الحراسات على مداخلها خوفاً من هجوم المرتدين عليها.
لقد كانت قبيلة بلي من القبائل القليلة جداً التي لم ترتد وبقيت متشبثة بإسلامها, مستعصمة بتعاليم قائدها المصطفى صلى الله عليه وسلم لذا ليس مستغرباً أن نرى العديد من البطولات والتضحيات لأبناء هذه القبيلة في تلك الحروب.
ومن أبطال بلي الذين سجل لهم التاريخ بكل فخر واعتزاز بطولات في حروب الردة الصحابي الجليل عبد الرحمن ( عدو الأوثان ) أبو عقيل البلوي أحد السابقين للإسلام كما تقدم, الذي كان في مقدمة الصفوف يوم اليمامة( 12هـ/ 633م) تلك الموقعة التي حصدت العشرات من الصحابة حفظة كتاب الله, فكان أول من جرح في هذه الموقعة أبو عقيل, رمي بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده, فأخرج السهم ووهن له شقه الأيسر, وجر إلى الرحل فلما حمي وطيس المعركة, وانهزم المسلمون, وجاوزوا رحالهم وأبو عقيل البلوي واهن من جرحه سمع الصحابي معن بن عدي البلوي يصيح بالأنصار الله الله والكرة على عدوكم, فصاحت الأنصار أخلصونا أخلصونا, فأخلصوا رجلاً رجلاً يميزون أي أنهم أخذوا يتبايعون على الموت رجلاً رجلاً أمام معن بن عدي, ويبدو أن معن بن عدي, افتقد أبو عقيل فنادى عليه وهو لا يعلم انه جريح.
قال عبد الله بن عمر( رضي الله عنهما) فنهض أبو عقيل يريد قومه فقلت: ما تريد يا أبا عقيل ما فيك قتال. قال: قد نوه المنادي باسمي قال ابن عمر: فقلت: إنما يقول ياللأنصار لا يعني الجرحى , قال أبو عقيل: أنا رجل من الأنصار وأنا أجيبه ولو حبواً, قال ابن عمر: فتحزم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى مجرداً , ثم جعل ينادي ياللأنصار كرة كيوم حنين فاجتمعوا رحمهم الله جميعاً يتقدمون الصفوف حتى اقحموا عدوهم الحديقة, فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم, قال ابن عمر: فنظرت إلى أبي عقيل وقد قطعت يده المجروحة من المنكب فوقعت على الأرض وبه من الجراح أربعة عشر جرحاً كلها قد خلصت إلى مقتل, وقتل عدو الله مسيلمة الكذاب.
قال ابن عمر: فوقعت على أبي العقيل وهو صريح بآخر رمق فقلت: أبا العقيل, فقال: لبيك بلسان ملتاث لمن الدبرة قال: قلت: أبشر ورفعت صوتي قد قتل عدو الله, فرفع أصبعه إلى السماء يحمد الله, وفاضت روحه إلى السماء.
قال ابن عمر : فأخبرت عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) بعد أن قدمت خبره كله ، فقال : رحمه الله ما زال يسأل الشهادة ويطلبها ، وإن كان ما علمت من خيار أصحابي نبينا صلى الله عليه وسلم وقديم إسلامه .
إن ما قام به أبو عقيل البلوي صورة حية لسلوك المؤمن الصادق الذي اطمأن قلبه بالإيمان ، والذي يرى بأن الشهادة أعظم فوز يحصل عليه الإنسان ، فكان كما قال الفاروق ( رضي الله عنه ) دائم الدعاء إلى الله بأن يرزقه الشهاده ، فلم تمنعه جراحاته وبتر يده من مواصلة القتال ، فلفظ انفاسه الاخيره وبجسده أربعة عشر جرحاً تثغب بالدماء تشهد له امام الخلائق يوم القيامه .
ومن شهداء قبيلة بلي في موقعة اليمامه ، الصحابي معن بن عدي البلوي ، الذي رأيناه يستنهض همم المسلمين والأنصار بشكل خاص لمواصلة القتال ، فأتت دعوته ثمارها عندما انتظم المسلمون من جديد وقاتلوا عدو الله مسيلمة الكذاب فقتلوه ، وبقتله كسرت شوكة المرتدين .
لقد سقط معن بن عدي شهيداً مع صديقه الأثير الذي آخى المصطفى صلى الله عليه وسلم بينه وبين معن بن عدي ألا وهو زيد بن الخطاب أخو الفاروق (رضي الله عنهما ) .
ومن المناسب أن أذكر بمقولة معن بن عدي مرة آخرى عندما بكى الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفاه الله وقالوا : والله لوددنا أن متنا قبله ، نخشى أن نفتتن بعده .
فقال معن : “إني والله ما أحب أني مت قبله حتى اصدقه حياً وميتاً ” لقد بر معن بعهده واخلص لإسلامه في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم وبعد مماته ، وخر شهيداً في موقعة اليمامه وهو يقاتل من أرادو العودة بالجزيرة العربية إلى سابق عهدها من الظلام والجهل والكفر ، فانطبق عليه قوله تعالى : (( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً )).
ويتقاطر الشهداء من قبيلة بلي في حروب الردة ، ضاربين أروع الأمثله في البطوله والفداء فها هو خالد بن الوليد ( رضي الله عنه ) يقع اختياره على الصحابي الجليل ثابت بن أقرم البلوي الذي شهد مع المصطفى كل مواقعه ، والذي رأيناه ينقذ راية الإسلام من السقوط في مؤته ويدفعها إلى خالد بن الوليد ، هاهو خالد يقدر كفاءة الرجل ويجعله طليعة له على المرتدين مع الصحابي الجليل عكاشه بن محصن ، ليجمع له أكبر قدر من المعلومات على المرتد طليحة بن خويلد وذلك عندما دنا خالد من بزاخة .
فانطلق ثابت بن أقرم البلوي على فرس له يقال له المحبر ، وعكاشه على فرسه الذي يقال له الزرام ، وفي أثناء جمعهم للمعلومات ويبدو أنهما اقتربا كثيراً من معسكر الأعداء ، لقيهما طليحه وأخوه سلمة ، فتمكنا من قتل عكاشه وثابت .
وأقبل خالد بن الوليد فراعه منظر ثابت بن أقرم قتيلاً تطؤه المطي ، فعظم ذلك على المسلمين ، فحفر له ولصاحبه عكاشه ودفنا بدمائهما وثيابهما ، وكان ذلك في سنة ( 12هـ /633م) .
لقد كان لثابت بن أقرم البلوي وعكاشه بن محصن مكانه عظيمه في نفوس المسلمين ، وكان كبار الصحابه يتوجدون عليهم كلما ذكرت اسماؤهم ، فهذا هو الخليفه الراشدي عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) يقابل طليحه بعد أن تاب وأناب إلى الله ، يقول له : كيف أحبك وقد قتلت الصالحين عكاشه بن محصن ، وثابت بن أقرم .
فيرد طليحه : أكرمها الله بيدي ، ولم يهني بأيديهما .
وكان طليحه قد قال عند قتله هذين الصحابيين :
عشية غادرت ابن أقرم ثوياً وعكاشة الغنمي تحت المجال
وسقط كذلك شهيداً في معركة اليمامة الصحابي النعمان بن عصر بن عبيد بن وائله البلوي ، الذي شهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ابن حجر أن الذي قتله طليحه بن خويلد الأسدي . وكذلك سقط عبيد الله بن التيهان البلوي شهيداً في اليمام، وهو ابن الصحابي عبيد بن التيهان البلوي الذي استشهد يوم أحد وهو أيضاً أخي الصحابي مالك ابن التيهان أبو الهيثم البلوي وهو من أواءل من أسلم كما تقدم وأول من بايع يوم العقبه ، فشهد المشاهد كلها من المصطفى صلى الله عليه وسلم لا بل أنه كان يقال لأبي الهيثم ذو السيفين ، من أجل أنه كان يتقلد في الحرب بسيفين .
واستشد كذلك الصحابي زيد بن أسلم بن ثعلبه بن عدي بن العجلان البلوي حليف بني عجلان ، وهو ابن عم الصحابي ثابت بن أرقم ، وكان ممن شهد بدراً ، وذكر أن الذي قتله هو طليحه بن خويلد .
هذا وكان رسول أبو بكر الصديق (رضي الله عنه ) إلى خالد وهو باليمامه الصحابي شريك بن سمحاء ( وهي أمه ) واسم أبيه عبده بن ابن معتب بن الجد بن العجلان البلوي حليف الأنصار ، وهو اخو البراء بن مالك من الرضاعه شهد مع أبيه احداً، فقد بعثه الصديق ( رضي الله عنه ) إلى خالد بن الوليد ( رضي الله عنه ) يطلب منه أن يسير من اليمامه إلى العراق ، وكان شريك أحد الأمراء بالشام في خلافة الصديق ، وبعثه الفاروق كذلك رسولاً إلى عمرو بن العاص حين أذن له أن يتوجه إلى فتح مصر .
ومن المتعارف عليه أنه لايختار إلى السفارة ونقل الأوامر المهمه إلا الثقاة ، وتكليف شريك البلوي بتلك المهام دلاله على أنه كان من أهل الشورى في المدينه المنوره وإلا ما الذي يقعده في المدينه والجبهات ملتهبه ضد المرتدين ، ويتكرر الموقف أيضاً في عهد الفاروق ( رضي الله عنه )
ليؤكد هذه الفرضية ، فضلاً على أن الأعراف في ذلك الزمان كانت تقضي بأن يحمل أوامر الخلفاء والحكام ، خيرة القوم ، عقلاً وشجاعة ومكانه إجتماعيه ، وكان ينظر لمن يكلف بذلك نظرة تقدير وأحترام .
أجل لقد أثبتت الأحداث ولاء قبيلة بلي للدولة الإسلاميه وثباتها على عقيدتها ، وعدم بخلها بأبنائها
من أجل رفع راية الإسلام ، فأبناؤها دوماً في مقدمة الصفوف يحرصون على الشهادة مذكرين إخوانهم بأن الله معهم ، وبأن الشهاده أسمى أمنية يتمناها الإنسان .
اعجز عن شكرك سعادة الدكتور/سلامه تقبل مروري واكثر الله امثالك من ابناء قبيلة بلي العريقه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.’
كيف الحصول على الكتاب