من أقدم هجرات القبائل العربية..؟؟
وصول قبائل العرب الى العراق ونزولهم الحيرة ..
قال ابن الكلبيّ: لما مات بخت نصّرانضمّ الذين أسكنهم الحيرة من العرب
إلى أهل الأنبار وبقيت الحيرة خراباً دهراً طويلاً وأهلها بالأنبار
لا يطلع عليهم قادم من العرب، فلمّا كثر أولد معدّ بن عدنان
ومن كان معهم من قبائل العرب ومزّقتهم الحروب خرجوا يطلبون الريف
فيما يليهم من اليمن ومشارف الشام،
وأفلت منهم قبائل حتى نزلوا بالبحرين وبها جماعة من الأزد،
((وكان الذين أقبلوا من تهامة مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم بن أسد بن وبرة بن قضاعة))
ومالك بن زهير بن عمرو بن فهم في جماعة من قومهم،
والحيقاد بن الحنق بن عمير بن قبيص بن معدّ بن عدنان في قبيص كلّها،
ولحق بهم غطفان بن عمرو بن الطمثان بن عوذ مناة بن يقدم
بن أفصى بن دُعمي بن إياد بن نزار بن معدّ بن عدنان وغيره من إياد،
فاجتمع بالبحرين قبائل من العرب وتحالفوا على التنُّوخ،
وهو المقام، وتعاقدوا علي التناصر والتساعد، فصاروا يداً واحدةً وضمّهم اسم تنوخ،
وتنخ عليهم بطون من نمارة بن لخم،
ودعا مالك بن زهير جديمة الأبرش بن مالك بن فهم بن غانم بن دوس الأزدي الى التنوخ معه وزوجه أخته لميس
، فتنخ جديمة، وكان اجتماعهم أيام ملوك الطوائف،
وإنما سمّوا ملوك الطوائف لأن كل ملك منهم كان ملكه على طائفة قليلة من الأرض.
قال: ثم تطلّعت أنفس من كان بالبحرين إلى ريف العراق فطمعوا في أن يغلبوا الأعاجم في ما يلي بلاد العرب منه أو مشاركتهم فيه لاختلاف بين ملوك الطوائف، فأجمعوا علي المسير الى العراق، فكان أول من يطلع منهم الحيقاد بن الحنق في جماعة من قومه وأخلاط من الناس، فوجدوا الأرمانيين، وهم الذين ملكوا أرض بابل وما يليها الى ناحية الموصل، يقاتلون الأردوانيين، وهم ملوك الطوائف، وهو ما بين نفر، وهي قرية من سواد العراق إلى الأبلّة، فدفعوهم عن بلادهم، والأرمانيّون من بقايا إرم فلهذا سمّوا الأرمانيين، وهم نبط السواد.
ثم طلع مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم الله وغيرهما من تنوخ الى الأنبار على ملك الأرمانيين، وطلع نمارة ومن معه الى نفّر على ملك الأردوانيين، وكانوا لاي دينون للأعاجم حتى قدمها تُبّع وهو أسعد أبو كرب بن ملكيكرب في جيوشه، فخلف بها من لم يكن فيه قوّة من عسكره، وسار تُبّع ثم رجع إليهم فأقرّهم على حالهم، ورجع الى اليمن وفيهم من كلّ القبائل، ونزلت تنوخ من الأنبار الى الحيرة في الأخبية لا يسكنون بيوت المدر، وكان أول من ملك منهم مالك بن فهم، وكان منزله مما يلي الأنبار، ثم مات مالك فملك بعده أخوه عمرو بن فهم بن غانم بن دوس الأزديّ، ثمّ مات فملك بعده جديمة الأبرش بن مالك بن فهم، وقيل: إنّ جذيمة من العاربة الأولى من بني دمار بن أميم بن لوذ بن سام بن نوح، عليه السلام؛ والله أعلم.
__________
**ذكر جذيمة الأبرش
قال: وان جذيمة من أفضل ملوك العرب رأياً، وأبعدهم مغاراً،
وأشدّهم نكاية، وأول من استجمع له الملك بأرض العراق، وضمّ إليه العرب، وغزا بالجيوش، وكان به برص فكنت العرب عنه، فقيل:
الوضّاح، والأبرش، إعظاماً له، وكانت منازله ما بين الحيرة
والأنبار وبقّة وهيت وعين التّمر وأطراف البّر الى العمير وخفية، تجبى إليه الأموال،
وتفد إليه الوفود، وكان غزا طسماً وجديساً في منازلهم من اليمامة،
فأصاب حسّان بن تبّع أسعد أبي كرب قد زغار عليهم فعاد بمن معه،
وأصاب حسّان سريّة لجذيمة فاجتاحها، وكان له صنمان يقال لهما الضيزنان،
وكانت إياد بعين أباغ، فذكر لجذيمة غلام من لخم
في أخواله من إياد يقال له عديّ بن نصر بن ربيعة له جمال وظرف،
فغزاهم جذيمة،
فبعثت إياد من سرق صنميه وحملها الى إياد،
فأرسلت إليه:
إن صنميك أصبحا فينا زهداً فيك ورغبة فينا،
فإن أوثقت لنا أن لا تغزونا دفعناهما اليك، قال:
وتدفعون معهما عديّ بن نصر، فزجابوه الى ذلك وأرسلوه مع الصنمين،
فضمه الى نفسه وولاه شرابه.
فأبصرته رقاض أخت جذيمة فعشقته وراسلته ليخطبها الى جذيمة،
فقال: لا أجترئ على ذلك ولا أطمع فيه، قالت:
إذا جلس على شرابه فاسقه صرفاً واسق القوم ممزوجاً،
فإذا أخذت الخمر فيه فاخطبني إليه فلن يردّك، فإذا زوّجك فأشهد القوم.
ففعل عديّ ما أمرته، فزجابه جذيمة وأملكه إيّاها،
فانصرف إليها فأعرس بها من ليلته وأصبح بالخلوق، فقال له جذيمة،
وأنكر ما رأى به: ما هذه الآثار يا عديّ؟
قال: اثار العرس، قال: أيّ عسر؟ قال: عرس رقاش، قال: من زوّجكها ويحك
قال: الملك، فندم جذيمة وأكبّ على الأرض متفكّراً،
وهرب عدّي، فلم ير له أثر ولم يسمع له بذكر، فأرسل إليها جذيمة:
خبّريني وأنت لا تكذبيني أبحرّ زنيت أن بهجـين
أم بعبد فأنت أهل لعبـد أم بدون فأنت أهل لدون
فقالت: لا بل أنت زوّجتني أمرأً عربياً حسيباً ولم تستأمرني في نفسي،
فكفّ عنها وعذرها، ورجع عديّ إلى إياد فكان فيهم،
فخرج يوماً مع فتية متصيدين، فرمى به فتى منهم في ما بن جبلين
، فتنكس فمات.
فحملت رقاش فولدت غلاماً فسمته عمراً، فلمّا ترعرع وشبّ
ألبسته وعطّرته وأزارته خاله، فلمّا رآه أحبّه وجلعه مع ولده،
وخرج جذيمة متبديّاً بأهله وولده في سنة خصيبة، فأقام في روضة ذات زهر وغدر،
فخرج ولده وعمرو معهم يجتنون الكمأة، فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها،
وإذا أصابها عمرو خبأها، فانصرفوا إلى جذيمة يتعادون،
وعمرو يقول: هذا جناي وخياره فـيه إذ كل جان يده في فيه
فضمّه جذيمة إليه والتزمه وسرّ بقوله وفعله
، وأمر فجعل له حلى من فضّة وطوق، فكان أوهل عربيّ ألبس طوقاً.
فبينا هو على أحسن حالة إذ استطارته الجنّ،
فطلبه جذيمة في الآفاق زماناً فلم يقدر عليه،
ثمّ أقبل ((رجلان من بلقين قضاعة))
يقال لهما مالك وعقيل ابنا فارج بن مالك من الشام يريدان جذيمة،
وأهديا له طرفاً، فنزلا منزلاً ومعهما قينة لهما تسمى أم عمرو،
فقدّمت طعاماً، فبينما هما يزكلان إذا أقبل فتى عريان قد تلبّد شعره
وطالت أظفاره وساءت حاله فجلس ناحيةً عنهما ومدّ يده يطلب الطعام،
فناولته القينة كراعاً، فزكلها، ثمّ مدّ يده ثانية، فقالت:
لا تعط العبد كراعاً فيطمع في الذراع فذهبت مثلاً،
ثمّ سقتهما من شراب معها وأوكت زقّها، فقال عمرو بن عدي:
صددت الكأس عنّا أمّ عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا
وما شرّ الثلاثة أمَّ عمـرو بصاحبك الذي لا تصبحينـا
فسألاه عن نفه، قال: إن تنكراني أو تنكرا نسبي،
فإنني أنا عمرو بن عدي، بن تنوخيّة، اللخمي،
وغداً ما ترياني في نمارة غير معصي.
فنهضا وغسلا رأسه وأصلحا حاله وألبساه ثياباً وقالا:
ما كنّا لنهدي لجذيمة أنفس من ابن أخته فخرجا به إلى جذيمة،
فسُرّ به سروراً شديداً وقال: لقد رأيته يوم ذهب وعليه طوق،
فما ذهب من عيني وقلبي الى الساعة، وأعادوا عليه الطوق،
فنظر إليه وقال: شبّ عمرو عن الطوق، وأرسلها مثلاً،
وقال لمالك وعقيل: حكمكما، قالا:
حكمنا منادمتك ما بقينا وبقيت؛
فهما ندمانا جذيمة اللذان يضربان مثلاً
وكان ملك العرب بأرض الجزيرة ومشارف الشام عمرو بن الظرب بن حسّان بن أذينة العمليقيّ من عاملة العمالقة،
فتحارب هو وجذيمة، فقتل عمرو وانهزمت عساكره، وعاد جذيمة سالماً،
وملكت بعد عمرو ابنته الزّبّاء، واسمها نائلة،
وكان جنود الزبّاء بقايا العماليق وغيرهم، وكان لها من الفرات إلى تدمر،
فلمّا استجمع لها أمرها واستحكم ملكها اجتمعت لغزو جذيمة تطلب بثأر أبيها،
فقالت لها زختها ربيبة، وكانت عاقلة:
إن غزوت جذيمة فإنّما هو يوم له ما بعده والحرب سجال،
وأشارت بترك الحرب وإعمال الحيلة،
فأجابتها إلى ذلك وكتبت إلى جذيمة تدعوه الى نفسها وملكها،
وكتبت إليه أنها لم تجد ملك النساء إلاّ قبحاً في السماع وضعفاً في السلطان،
وأنها لم تجد لملكها ولا لنفسها كفواً غيره.
فلمّا انتهى كتاب الزبّاء إليه استخفّ ما دعته إليه وجمع إليه ثقاته،
وهو ببقّة من شاطئ الفرات، فعرض عليهم ما دعته إليه واستشارهم؛
فأجمع رأيهم علي أن يسير إليها ويستولي على ملكها.
وكان فيهم رجلٌ يقال له قصير بن سعد من لخم،
وكان سعد تزوّج أمة لجذيمة فولدت له قصيراً،
وكان أديباً حازماً ناصحاً لجذيمة قريباً منه، فخالفهم فيما أشاروا به عليه وقال:
رأي فاتر، وغدر حاضر؛ فذهبت مثلاً؛
وقال لجذيمة: اكتب إليها فإن كانت صادقة فلتقبل إليك
وإلا لم تمكنها من نفسك وقد وترتها وقتلت أباها
فلم يوافق جذيمة ما أشار به قصير وقال له:
لا ولكنّك امرؤ رأيك في الكِنّ لا في الضحّ؛ فذهبت مثلاً.
ودعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عديّ فاستشاره، فشجعه على المسير وقال: إنّ نمارة قومي مع الزبّاء فلو رأوك صاروا معك، فأطاعه.
فقال قصير: لا يُطاع لقصير أمر، وقالت العرب: ببقّة أُبرم الأمر؛ فذهبتا مثلاً.
واستخلف جذيمة عمرو بن عديّ على ملكه،
وعمرو بن عبد الجنّ على خيوله معه،
وسار في وجوه أصحابه، فلمّا نزل الفرضة قال لقصير:
ما الرأي؟ قال: ببقّة تركت الرأي؛ فذهبت مثلاً.
واستقبله رسل الزبّاء بالهدايا والألطاف، فقال: يا قصير كيف ترى؟
قال: خطرٌ يسير، وخطب كبير؛ فذهبت مثلاً؛
وستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فإنهّ المرأة صادقة،
وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك فإنّ القوم غادرون،
فاركب العصا، وكانت فرساً لجذيمة لا تُجارى، فإني راكبها ومساريك عليها.
فلقيته الكتائب فحالت بينه وبين العصا،
فركبها قصير، ونظر اليه جذيمة مولياً على متنها، فقال:
ويل أمّه حزماً على متن العصا فذهبت مثلاً،
وقال: ما ضلّ من تجري به العصا؛ فذهبت مثلاً؛
وجرت به الى غروب الشمس،
ثمّ نفقت وقد قطعت أرضاً بعيدة، فبنى عليها برجاً يقال له برج العصا،
وقالت العرب: خيرٌ ما جاءت به العصا؛ مثل تضربه.
وسار جذيمة وقد أحاطت به الخيول حتى دخل على الزبّاء،
فلمّا رأته تكشّفت، فإذا هي مضفورة الاسب بالباء الموحدة هو شعر الاست،
وقالت له:
يا جذيمة أدأب عروس ترى؟ فذهبت مثلاً،
فقال: بلغ المدى، وجفّ الثرى، وأمر غدر أرى؛ فذهبت مثلاً،
فقالت له:
أما وإلهي ما بنا من عدم مواس،
ولا قلّة أواس، ولكنها شيمة من أناس؛ فذهبت مثلاً،
وقالت له: أنبئت أنّ دماء الملوك شفاء من الكلب،
ثمّ أجلسته على نطع وأمرت بطست من ذهب،
فزعدّ له، وسقته الخمر حتى أخذت منه مأخذها
ثمّ زمرت براهشيه فقطعا، وقدّمت إليه الطست، وقد قيل لها:
إن قطر من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه،
وكانت الملوك لا تقتل بضرب الرقبة إلاّ في قتال تكرمةً للملك،
فلما ضعفت يداه سقطتا، فقطر من دمه في غير الطست،
فقالت: لا تضيعوا دم الملك فقال جذيمة:
دعوا دماً ضيّعه أهله فذهبت مثلاً.
فهلك جذيمة وخرج قصير من الحيّ الذين هلكت العصا بين أظهرهم حتى قدم على عمرو بن عديّ ، وهو بالحيرة، فوجده قد اختلف هو وعمرو بن عبد الجنّ فأصلح بينهما، وأطاع الناس عمرو بن عديّ، وقال له قصير:
تهيّأ واستعدّ ولا تطلَّ دم خالك، فقال: كيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو؟ فذهبت مثلاً.
وكانت الزبّاء سألت كهنةً عن أمرها وهلاكها، فقالوا لها: نرى هلاكك بسبب عمرو بن عديّ، ولكنّ حتفك بيدك، فحذرت عمراً واتخذت نفقاً من مجلسها إلى حصن لها داخل مدينتها، ثمّ قالت: إن فجأني أمر دخلت النفق الى حصني،
ودعت رجلاً مصوّراً حاذقاً فأرسلته إلي عمرو بن عديّ متنكرّاً وقالت له:
صوّره جالساً وقائماً ومتفضّلاً متنكرّاً ومتسلحاً بهيئته ولبسه ولونه ثم أقبل إليّ،
ففعل المصوّر ما أوصته الزباء وعاد إليها،
وأرادت أن تعرف عمروبن عديّ فلا تراه على حال إلاّ عرفته وحذرته.
وقال قصير لعمرو: اجدع أنفي واضرب ظهري
ودعني وإياها، فقال عمرو: ما أنا بفاعل، فقال قصير:
خلّ عني إذاً وخلاك ذمّ؛ فذهبت مثلاً،
فقال عمرو: فأنت أبصرُ، فجدع قصيرٌ زنفه ودقّ بظهره
وخرج كزنه هارب وأظهر أنّ عمراً فعل ذلك به،
وسار حتى قدم على الزباء، فقيل لها:
إنّ قصيراً بالباب؛ فأمرت به أفدخل عليها،
فإذا أنفه قد جدع وظهره قد ضرب، فقالت:
لأمر ما جدع قصير أنفه؛ فذهبت مثلاً،
قالت: ما الذي أرى بك يا قصير؟
قال: زعم عمرو أني غدرت خاله وزيّنت له المسير إليك
ومالأتكِ عليه ففعل بي ما ترين فأقبلت إليك وعرفت أني لا أكون مع أحد
هو أثقل عليه منك، فأكرمته،
وأصابت عنده بعض ما أرادت من الحزم والرأي والتجربة والمعرفة بأمور الملك.
فلما عرف أنها قد استرسلت إليه ووثقت به،
قال لها: إنّ لي بالعراق أموالاً كثيرة، ولي بها طرائف وعطر،
فابعثيني لأحمل مالي وأحمل إليكِ من طرائفها وصنوف ما يكون بها من التجارات فتصيبين أرباحاً وبعض ما لا غناء للملوك عنه،
فسرّحته ودفعت إليه أموالاً وجهّزت معه عيراً، فسار حتى قدم العراق وأتى عمرو بن عديّ متخفياً وأخبره الخبر وقال:
جهزني بالبزّ والطّرف وغير ذلك لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثأرك وتقتل عدوك، فأعطاه حاجته، فرجع بذلك كله إلي الزباء فعرضه عليها،
فأعجبها وسرها وازدادات به ثقة، ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مماجهزته به في المرة الزولى، فسار حتى قدم العراق وحمل من عند عمرو حاجته ولم يدع طرفةً ولا متاعاً قدر عليه،
ثم عاد الثالثة فأخبر عمراً الخبر وقال:
اجمع لي ثقات أصحابك وجندك وهيّد لهم الغرائز، وهو أوّل من عملها،
واحمل كلّ رجلين على بعير في غرارتين واجعل معقد رؤوسهما من باطنهما،
وقال له: إذا دخلت مدينة الزبّاء أقمتك على باب نفقها
وخرجت الرجال من الغرائز فصاحوا بأهل المدينة،
فمن قاتلهم قاتلوه، وإن أقبلت الزبّاء تريد نفقها قتلتها.
ففعل عمرو ذلك وساروا، فلمّا كانوا قريباً من الزباء تقدّم قصير إليها فبشّرها وأعلمها كثرة ماحمل من الثياب والطرائف وسألها أن تخرج وتنظر إلى الإبل وما عليها، وكان قصير يكمن النهار ويسري الليل، وهو أول من فعل ذلك، فخرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض، فقالت: يا قصير.
ما للجمال مشيها وثيدا أندلاً يحملن أم حديدا
أم صرفاناً بارداً شديدا أم الرجال جثّماً قعودا
ودخلت الإبلُ المدينة، فلما توسطتها أنيخت وخرج الرجال من الغرائر،
ودلّ قصير عمراً على باب النفق وصاحوا بزهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح،
وقام عمرو علي باب النفق، وأقبلت الزبّاء تريد الخروج من النفق،
فلمّا أبصرت عمراً قائماً على باب النفق عرفته بالصورة التي عملها المصور،
فمصّت سمّاً كان في خاتمها، فقالت:
بيدي لا بيد عمرو فذهبت مثلاً،
وتلقاها عمرو بالسيف فقتلها وأصاب ما أصاب من المدينة ثم عاد الى العراق.
وصار الملك بعد جذيمة لابن أخته عمرو بن عديّ بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث ابن سعود بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم، وهو أول من اتخذ الحيرة منزلاً من ملوك العرب، فلم يزل ملكاً حتى مات، وهو ابن مائة وعشرين سنة، وقيل: مائة وصماني عشرة سنة، منها أيّام ملوك الطوائف خمس وتسعون سنة، وأيام أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وأشهر، وأيّام ابنه سابور بن زردشير ثماني سنين وشهران،
وكان منفرداً بملكه يغزو المغازي ولا يدين لملوك الطوائف الى أن ملك أردشير بن بابك أهل فارس، ولم يزل الملك في ولده إلى أن كان آخرهم النعمان بن المنذر،
الى أيام ملوك كندة، على ما نذكره إن شاء الله.
وقيل في سبب مسير ولد نصر بن ربيعة الى العراق
غير ما تقدّم، وهو رؤيا رآها ربيعة،
وسيرد ذكرها عند أمر الحبشة، إن شاء الله تعالى.
ذكر طسم وجديس وكانوا أيّام ملوك الطوائف
كان طسم بن لوذ بن أذهر بن سام بن نوح، وجديس بن عامر بن أزهر بن سام ابني عمّ، وكانت مساكنهم موضع اليمامة،
وكان اسمها حينئذٍ جوّاً، وكانت من أخصب البلاد وأكثرها خيراً، وكان ملكهم أيّام ملوك الطوائف عمليق، وكان ظالماً قد تمادى في الظلم والغشم والسيرة الكثيرة القبح،
وإنّ امرأة من جديس يقال لها هزيلة طلّقها زوجها وأراد أخذ ولدها منها، فخاصمته الى عمليق وقالت:
أيّها الملك حملته تسعاً، ووضعته دفعاً، وأرضعته شفعاً؛ حتى إذا تمت أوصاله، ودنا فصاله، أراد أن يأخذه مني كرهاً، ويتركين بعده ورها، فقال زوجها:
أيها الملك إنها أعطيت مهرها كاملاً، ولم أصب منها طالاً،
إلاّ وليداً خاملاً، فافعل ما كنت فاعلاً، فأمر الملك بالغلام فصار في غلمانه وأن تُباع المرأة وزوجها فيعطى زوجها خمس ثمنها وتعطى المرأة عشر ثمن زوجها، فقالت هزيلة:
أتينا أخا طسم ليحكـم بـينـنـا فأنفذ حكماً في هزيلة ظالمـا
لعمري لقد حكمت لا متورعـاً ولا كنت فيمن يبرم الحكم عالما
ندمت ولم أندم وأنى بعتـرتـي وأصبح بعلي في الحكومة نادما
فلمّا سمع عمليق قولها أمر أن لا تزوّج بكرٌ من جديس وتهدى إلى زوجها حتى يفترعها، فلقوا من ذلك بلاء وجهداً وذلاًّ، ولم يزل يفعل ذلك حتى زوّجت الشموس،
وهي عفيرة بنت عباد زخت الأسود،
فلمّا أرادوا حملها إلى زوجها انطلقوا بها إلى عمليق لينالها قبله،
ومعها الفتيان، فلمّا دخلت عليه افترعها وخلّى سبيلها،
فخرجت الى قومها في دمائها وقد شقّت درعها
من قبل ودبر والدم يبين وهي في أقبح منظر تقول:
لا أحـد أذلّ مـن جـــديس
أهكذا يفعـل بـالـعـروس
يرضى بذا يا قوم بعـل حـرّ
أهدى وقد أعطى وسيق المهر
وقالت أيضاً لتحرض قومها:
أيجمل ما يؤتى إلى فـتـياتـكـم،
وأنتم رجال فيكم عدد الـنـمـل
وتصبح تمشي في الدماء عفـيرة جهاراً
وزفّت في النساء الى بعل
ولو أننا كنّـا رجـالاً وكـنـتـم نساءً
لكنا لا نقرُّ بـذا الـفـعـل
فموتوا كراماً أو أميتوا عـدوّكـم
ودبّوا لنار الحرب بالحطب الجزل
وإلاّ فخلّوا بطنهـا وتـحـمـلـوا إلى
بلد قفر وموتوا من الـهـزل
فلبين خير من مقام عـلـى الأذى
وللموت خير من مقام على الـذل
وإن أنتم لم تغضبوا بـعـد هـذه
فكونوا نساء لا تعاب من الكحـل
ودونكم طيب النـسـاء فـإنـمـا
خلقتم لأثواب العروس وللنـسـل
فبعداً وسحقاً للذي لـيس دافـعـاً
ويختال يمشي بيننا مشية الفحـل
فلما سمع أخوها الأسود قولها، وكان سيداً مطاعاً، قال لقومه:
يا معشر جديس إن هؤلاء القوم ليسوا بأعزّ منكم في داركم إلاّ بملك صاحبهم علينا وعليهم، ولوا عجزنا لما كان له فضل علينا،
ولو امتنعنا لانتصفنا منه، فأطيعوني فيما آمركم فإنّه عز الدّهر.
وقد حمي جديس لما سمعوا من قولهم فقالوا:
نطيعك ولكنّ القوم أكثر منا قال:
فإني أصنع الملك طعاماً وأدعوه وأهله إليه،
فإذا جاؤوا يرفلون في الحلل أخذنا سيوفنا وقتلناهم،
فقالوا: افعل، فصنع طعاماً فأكثر وجعله بظاهر البلد
ودفن هو وقومه سيوفهم ف يالرمل ودعا الملك وقومه،
فجاؤوا يرفلون في حللهم، فلمّا أخذوا مجالسهم ومدّوا أيديهم يأكلون،
أخذت جديس سيوفهم من الرمل وقتلوهم وقتلوا ملكهم وقتلوا بعد ذلك السفلة.
ثم إنّ بقيّة طسم قصدوا حسّان بن تُبّع ملك اليمن فاستنصروه،
فسار الى اليمامة، فلما كان منها على مسيرة ثلاث قال له بعضهم:
إنّ لي أختاً متزوجة في جديس يقال لها اليمامة تبصر الراكب من مسيرة ثلاث،
وإني أخاف أن تنذر القوم بك، فمر أصحابك فليقطع كلّ رجل منهم شجرة فليجعلها أمامه.
فأمرهم حسان بذلك، فنظرت اليمامة فأبصرتهم فقالت لجديس:
لقد سارت إليكم حمير، قالوا: وما ترين؟ قالت:
أرى رجلاً في شجرة معه كتف يتعرّقها أو نعل يخصفها؛
وكان كذلك، فكذبوها، فصبحهم حسّان فأبادهم، وأتي حسان باليمامة ففقأ عينها،
فإذا فيها عروق سود، فقال: ما هذا؟
قالت: حجر أسود كنت أكتحل به يقال له الإثمد،
وكانت زوّل من اكتحل به، وبهذه اليمامة سميت الميامة،
وقد أكثر الشعراء ذكرها في أشعارهم.
ولما هلكت جديس هرب الأسود قاتل عمليق الى جبل طيّء فأقام بهما،
ذلك قبل أن تنزلهما طيّء، وكانت طيّء تنزل الجرف من اليمن،
وهو الآن لمراد وهمدان، وكان يأتي الى طيّء بعير أزمان الخيف
عظيم السمن ويعود عنهم، ولم يعلموا من أين يأتي،
ثمّ إنّهم اتّبعوه يسيرون بسيره حتي هبط بهم على أجأ وسلمى جبلي طيّء،
وهما بقرب فيد، فرأوا فيهما النخل والمراعي الكثيرة ورأوا الأسود بن عفار،
فقتلوه، وأقامت طيّء بالجبلين بعده،
فهم هناك إلى الآن، وهذا أول مخرجهم إليهما..؟
__________________
منقول المرجع الكامل في التاريخ لابن الاثير..؟
لكم تحيات
ماجد البلوي